قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

تأصيل منهجية فقه الموازنات في الإسلام للبناء السليم للأمة

تأصيل منهجية فقه الموازنات في الإسلام للبناء السليم للأمة 

فقه الموازنات هو علم بيان الطرق والخطوات والمعايير التي تضبط عملية الموازنة بين المصالح أو المفاسد المتعارضة، أو المفاسد المتعارضة مع المصالح، أو بين الأحكام الشرعية المتعارضة أو المتزاحمة، أو بين وسائل المصالح الشرعية أو بين الجماعات والأشخاص في المعاملة.


أما أهم ما يقوم عليه فقه الموازنات، فهو الموازنة بين المصالح أو المنافع أو الخيرات المشروعة بعضها وبعض، وأيها يجب تقديمه عند تعذر الجمع وأيها ينبغي أن يسقط ويلغى، والموازنة بين المفاسد أو الشرور الممنوعة بعضها وبعض، وأيها يجب تقديمه عند تعذر تفادي الجميع وأيها يجب تأخيره وإسقاطه، والموازنة بين المصالح والمفاسد أو الخيرات والشرور إذا تعارضت، بحيث نعرف متى نقدم درء المفسدة على جلب المصلحة ومتى تغتفر المفسدة من أجل المصلحة، والموازنة بين الأحكام الشرعية عند التعارض والتزاحم ويقدم أولاها بالتقديم، فيقدم الواجب على المندوب مثلا عند التزاحم، ويقدم ترك الحرام على ترك المكروه إذا تعذر تركهما، والموازنة في التعامل مع الناس لإنزال الناس منازلهم ومخاطبتهم بما تفهم عقولهم، فالناس ليسوا كلهم في سوية، فمنهم الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والصحيح والعليل، والعدو والصديق، والمسلم والكافر، والكفار أنواع، والتعامل مع هؤلاء جميعا يحتاج إلى موازنات دقيقة.


فقه الموازنات في أمتنا اليوم يعاني اختلالا واضطرابا كبيرا في التفكير، فما يتعلق مثلا بالفن والترفيه والرياضة مقدم على ما يتعلق بالعلم والتعليم والمعرفة، بحيث أن المبالغ الهائلة ترصد للرياضة والفن من غير محاسبة، بينما تشكو الجوانب التعليمية والصحية والدينية والخدمات الأساسية من التقتير وادعاء العجز والتقشف، كما أن من المسلمين من يتبرع ببناء مسجد في بلد حافل بالمساجد، فإذا طالبته ببذل هذا المبلغ أو نصفه في بناء مدرسة أو مستشفى أو حتى مصنع لن تجد آذانا صاغية، لأنهم يؤمنون ببناء الأحجار ولا يؤمنون ببناء الرجال.


أما أهم ما وقع فيه المسلمون في عصرنا هذا فتمثل بإهمال الفروض العينية وإعطائها دون قيمتها، وإهمال فروض الكفايات المتعلقة بمجموع الأمة كالتفوق العلمي والصناعي والحربي، والذي يجعل الأمة مالكة لأمرها وسيادتها، كإقامة الحكم العادل القائم على البيعة والاختيار الحر، وفي مجال العبادات الاهتمام ببعض الأركان أكثر من البعض الآخر، كالاهتمام بالصوم أكثر من الصلاة، والاهتمام ببعض النوافل أكثر من الفرائض، وتقديم التحسينات على الحاجيات، أو الضروريات في مختلف جوانب الحياة، والاهتمام بالعبادات الفردية والذكر أكثر من العبادات الاجتماعية والفقه والإصلاح بين الناس والتعاون على البر والتقوى، والدعوة إلى العدل والشورى ورعاية حقوق الإنسان، وذلك لافتقاد المنهجية والتفكير المنهجي العلمي الرصين.


المسلمين اليوم يهتمون بفروع الأعمال والمواضيع الهامشية كالتركيز على تحريك الأصبع في التشهد وكيفية النزول إلى السجود، وذلك على حساب القضايا الكبرى ويهملون الأصول والقضايا الجوهرية، بحيث اشتغل كثير من الناس بمحاربة المكروهات أو الشبهات أكثر من محاربة المحرمات المنتشرة، كمن يهتم بتحريم التصوير والغناء ولا يهتم بضياع الشورى والحرية وحقوق الشعب وكرامة الإنسان ونهب ثروة الأمة.


فالمسلمين يولون العناية بالشكل أكثر من المضمون، وذلك كالتغالي في وضع اليد اليمنى على اليسرى بطريقة معينة والحرص على اللباس العربي وإطالة اللحية وإسبال أو تقصير الثياب بحجة عدم التشبه بالكفار، وإكثار النقاش حول هذه القضايا، ويدخلون ذلك في باب الولاء والبراء، والحقيقة أن التشبه المنهي عنه هو التشبه بالهيئات التي لها خلفيات دينية وعرقية أو مذهبية، وقد نتج عن ذلك كله ضياع المقاصد والمعاني وفراغ العبادات من روحها ومضامينها، فغدت أشكالا وظواهر لا أثر لها في السلوك، وضاعت الجهود والأوقات في غير ما ينبغي تضييعها فيه وتوسعت دائرة الخلاف بين المسلمين، وذلك بسبب الاستغراق بالجزئيات والتفاصيل، والانشغال عن الكليات والعجز عن رد الجزئيات إلى الكليات والفروع إلى الأصول، وعدم التفريق بين الحق والرجال، والركون إلى معرفة الحق بالرجال بدلا من معرفة الرجال بالحق، مما أدى إلى الخلط بين الثوابت والمتغيرات، والارتجال وترك التخطيط الدقيق، والانشغال بالشعارات على حساب المضامين واستعجال النتائج.


حاجة الأمة بكل مستوياتها والمسلمين إلى فقه الموازنات حاجة ماسة، فالإنسان في سعيه لتحصيل مصالحه قد تطرأ عليه ظروف تجعله لا يستطيع القيام بتحقيق مصلحة إلا بتركه لأخرى أو بارتكابه لمفسدة، أو أن يكون الإنسان في وضع لا يستطيع أن يترك مفسدة إلا إذا ارتكب أخرى أو ترك مصلحةً، ومن أجل أن يقرر ما يجب فعله في هذه الحالات المتعارضة لا بد له من العودة إلى فقه الموازنات وإلا عرض نفسه للوقوع في الأخطاء الفادحة، كما يجب عليه كذلك اتخاذ الوسائل المشروعة الموصلة إلى إقامة العبادات والمعاملات والأخلاق الصحيحة، فهو مطالب بأداء العبادة الشرعية وفق شروطها وآدابها، كما وهو مطالب بإقامة نظام عيشه على وفق سنن الله التي تدعوه إلى اتخاذ أسباب الارتزاق والكسب الحلال وعمارة الأرض، لهذا عليه الموازنة لاختيار أنجح الطرق والوسائل للوصول إلى المقاصد والغايات.


كما وهناك من الموازنات التي يجب أن يعلمها كل مسلم ولا يعذر بالجهل بها أحد، كتقديم الفرض على النفل، وتقديم درء الحرام والابتعاد منه على درء المكروه، وهو مما يحتاجه المسلم في حياته اليومية وهو يؤدي تكاليف الله عليه، ويدخل في ذلك ما يحتاجه أهل كل فن وتخصص حتى لا يفسدوا وهم يسعون للخير، وإلا فقد يؤدي الأمر بمعروف إلى تفويت معروف أكبر منه، وقد يؤدي النهي عن منكر إلى منكر أكبر منه.


وكذلك هي حاجة المجتمع الذي غالبا ما يتعرض لمواقف شائكة، تتعارض فيها المصالح العامة أو تتعارض المفاسد أو تتعارض فيها المصالح مع المفاسد، أو تتعارض مصالح المجتمع مع مصالح الفرد، ولإزالة ذلك التعارض وحل ذلك الإشكال بأحكام عادلة وقرارات سليمة لا بد من الالتزام بمنهج فقه الموازنات.


وحاجة الدولة إلى فقه الموازنات أكبر وأخطر، وذلك أن الدولة هي الأكثر تعرضا للمواقف المتعارضة التي تتطلب الالتزام والعمل بمنهج فقه الموازنات؛ إذ إن الدولة عندما تضع نظمها وخططها فإنها تحدد الأولويات لما يجب عمله من المصالح والأولويات وما يجب تركه من المفاسد، وهذه الأولويات لا يمكن تحديدها إلا من خلال فقه الموازنات الذي يستبين به تفاوت المصالح وتفاوت المفاسد وكيف ترتب المصالح والمفاسد بناء على ما بينها من تفاوت، إذ إن الدولة وهي تسير نحو تحقيق مصالح الأمة ودرء المفاسد عنها، لا بد أن يكون برنامجها التنفيذي في ذلك مبنيا على البدء بتحقيق ما هو أعظم مصلحة ثم ما هو دونه، ودرء ما هو أشد خطرا ثم ما هو دونه، وتحقيق المصالح الكبرى وإن اكتنفتها مفاسد صغرى، ودرء المفاسد الكبرى وإن أهدرت معها مصالح مساويةً لها أو أدنى منها، وكل ذلك لا بد أن يتم وفق منهج الموازنات، ويدخل في ذلك كل ما يتعلق بمستجدات الأمور وتطورات الأيام.


كما يجب على الدعاة إلى الله التحلي بالبصيرة في دعوتهم، بما تشتمل عليه من معالم وضوابط، وما تتطلبه من حكمة ومعرفة، ومن أهم جوانب البصيرة في الدعوة إلى الله فقه الموازنات الدعوية، فمن خلال قيام الدعاة بدعوتهم إلى الله، فإنهم سيواجهون بعض المتغيرات التي تؤثر في مناهج وأساليب ووسائل الدعوة، وذلك لاختلاف الظروف وتنوعها باختلاف الأماكن والأزمان، ومن هنا ربما يرى الدعاة في بعض المواقف والأحوال تقديم المهم على الأهم، أو تقديم المفضول على الفاضل، أو تعاطي أخف الضررين أو اختيار قدر نسبي من المطلوبات الشرعية المتعددة، وذلك لموازنات متأنية ودراسات متعمقة، تتأثر بالواقع المتنوع والظروف المختلفة، وفقه الموازنات في هذه الحالة يحمي الدعاة إلى الله من التصرفات الارتجالية، البعيدة عن الحكمة والبصيرة، والتي تؤدي إلى آثار سلبية تنعكس على الدعاة خاصة والمسلمين عامة، حيث يساعد الداعية في ترتيبه لسلم الأولويات في الدعوة إلى الله، فيقدم الضروريات على الحاجيات والتحسينات، ويقدم الأصل على التابع، ويقدم ما فيه مصلحة عامة على ما فيه مصلحة خاصة، ويحذر الناس من الضرر الأكثر خطورة قبل تحذيره من الضرر الأقل خطورة، ويخاطب الناس على قدر عقولهم ومستوياتهم من الفهم، كما أن للدعاة دورا مهما في بيان ما للشريعة من قابلية لمواجهة معضلات الحياة ومستجداتها، وفي ذلك تفنيد لآراء المنحرفين الذين يتهمون الشريعة بالقصور وعدم الوفاء بحاجات الناس ومتطلباتهم في هذا العصر، ومن ثم يطالبون باستبدالها وإبعادها، فإذا عرضت مقاصدها وما اشتملت عليه من حكم باهرة ومصالح ظاهرة وموازنات دقيقة بين المصالح والمفاسد، علم على الحقيقة كذبهم فيما يقولون وزيف ما يدعون .


هذا ويشترط في المجتهد والفقيه أن يكون عالما بمقاصد الشريعة، وبأنواع المصالح ومراتبها وكيفية الموازنة بينها عند التعارض، كما ينبغي له الإلمام بالوسائل الشرعية بأنواعها المختلفة ليختار منها ما يوصل إلى تحقيق المقاصد الشرعية، وعليه أن يحسن الموازنة بين الأحكام الشرعية عند التعارض والتزاحم ليقدم ما حقه التقديم ويؤخر ما حقه التأخير، لأن فقه الموازنات مهم في بيان الأحكام الشرعية للقضايا المستجدة في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وما يفرزه العلم الحديث من مسائل تحتاج لبيان حكم الشريعة فيها.


كما أن المجتهد مطالب ببحث الوسائل المشروعة المفضية إلى مقاصدها وفق منهج الاستنباط المعروف، والقائم على مراعاة مآلات الأفعال واختيار أفضل الوسائل لأفضل المقاصد والترجيح بين الوسائل والأسباب عند التعارض، وهو ما يدعوه إلى عمق النظر وحسن التنزيل والترجيح، مما يلعب دورا كبيرا في توجيه الفتوى المعاصرة، والتمييز بين الخطأ والصواب فيها بما يحقق المقاصد الثابتة، مع مراعاة المرونة في الفتوى لتتغير بتغير ظروف وملابسات المستفتي والواقعة محل الفتوى، فالمقصد ثابت ومشترك بين جميع الناس، والذي يتغير هو الشخص أو الظرف، ويكون تغير الفتوى متعلقا بما يحقق المقصد.


فالمجتهد والمفتي يحتاجان إلى الإحاطة بفقه الموازنات لإصدار الفتوى الصحيحة المنضبطة المتوازنة فيما يتعلق بحالات الضرورة، حيث إن مبدأ الضرورة قائم أساسا على قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد، فلا يمكن للمفتي أن يقدم على الفتوى سواء بالحظر أو الإباحة، إلا بدراسة الحالة من خلال الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعلقة بالضرورة، وهذا باب عظيم لا يحق للمجتهد أن يخوض فيه من غير الاستهداء بالخبراء، واستشارتهم لمعرفة مدى الضرر المترتب على كل قضية من قضايا الضرورة موضوع البحث.


وأخيرا يجب أيضا على القاضي والحاكم اختيار أفضل الوسائل في تحقيق مقصد العدل والمساواة بين المتخاصمين، وفي الإسهام في عملية التنمية الشاملة والبناء الحضاري، وذلك من خلال التبصر بمقاصد الأسرة ومقاصد الأمة، واستحضار مقاصد العقوبات والتعزيرات، ومراعاة الصلح والإصلاح والبناء والإنقاذ لا الهدم وجبر النواقص، بحيث تكون تصرفات وسياسات الحاكم منوطة بالمصالح العامة، والعمل على اختيار أفضل الوسائل والخطط وأنفع الآليات لتحقيق النهضة للشعب والدولة.


د. عمر محمد جبه جي - دكتور في الشريعة الإسلامية

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart