أسباب معاداة اليهود في العالم كجماعات وظيفية وسيطة
يفسر الصهاينة معاداة اليهود بأنها تعود إلى كره الأغيار لليهود عبر العصور، وهو تفسير من العمومية بحيث لا يفسر شيئا البتة، فإذا كان كره الأغيار لليهود ظاهرة ميتافيزيقية متأصلة، فإن المنطقي هو أن يعبر هذا الكره عن نفسه بشكل مطلق، أي بالطريقة نفسها بغض النظر عن الزمان والمكان، ولكن تاريخ عداء اليهود تاريخ طويل ومتنوع ويفتقر إلى الإستمرار التاريخي كما تختلف دوافعه وأسبابه، ومن المعروف أن الجماعات اليهودية تواجدت داخل تشكيلات حضارية مختلفة، وكانت تنشأ توترات مختلفة بينها وبين أعضاء الأغلبية، وبرغم أن سائر أحداث التوتر هذه يشار إليها بمصطلح «معاداة اليهود» على وجه العموم، فإن المصطلح يكتسب مضمونه الحقيقي والمحدد من خلال التشكيلات الحضارية المختلفة، ولذلك فإن الدلالة تختلف من تشكيل إلى اخر، والواقع أننا لو أخذنا بالتفسير الصهيوني وجعلنا من مختلف الأحداث التي تعبر عن العداء لليهود ظاهرة واحدة، لأصبح العنصر الثابت الوحيد هو اليهود، وحينذاك يصبح اليهود هم المسئولين عن الكراهية التي تلاحقهم والعنف الذي يحيق بهم، وهو تحليل عنصري مرفوض، فاليهود يشكلون جماعات مختلفة وغير متجانسة لكل منها ظروفها ومشاكلها.
هذا ويمكن القول بأن العداء لليهود بوصفه شكلا من أشكال العداء للأقليات والغرباء والأجانب (والآخر على وجه العموم)، هو إمكانية كامنة في النفس البشرية التي تنفر من كل ما هو غير مألوف، وبالتالي فهو إمكانية كامنة في كل المجتمعات، كما أن هناك بشرا في كل مجتمع لا يقنعون بما لديهم من ثروة أو رزق، ويرغبون دائما في الإستيلاء على ما يملكه الاخرون، وبخاصة ما يمتلكه أعضاء الأقلية الذين لا يتمتعون عادة بالحصانات نفسها وبالإستقرار نفسه الذي يتمتع به أعضاء الأغلبية، ومع هذا تظل هذه الأفكار والدوافع في حالة كمون ولا تعبر عن نفسها إلا من خلال أفعال عنف وكره فردية متفرقة، أو من خلال أشكال من التحايل على أعضاء الأقلية، أو من خلال أعمال أدبية أو قصص أو أساطير، وذلك مادام المجتمع مستقرا ولكل عضو فيه وظيفته، ولكن ثمة عناصر تؤدي إلى تحول هذه الدوافع النفعية من حالة الكمون إلى حالة التحقق، حيث تتعدد الأفعال الفردية وتصبح ظاهرة إجتماعية وتتغلغل في بنية المجتمع ذاته.
ولعل من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور معاداة اليهود وإنتقالها من حالة الكمون إلى مستوى البنية الاجتماعية، أن معظم الجماعات اليهودية كانت تشكل جماعات وظيفية قتالية وتجارية في المجتمعات القديمة، وكذلك في المجتمع الغربي في العصر الوسيط حتى القرن التاسع عشر، وقد كانت هذه الجماعات الوظيفية تتكون دائما من عناصر بشرية غريبة عن المجتمع حتى يمكنها أن تضطلع بوظائف كريهة أو مشبوهة أو متميزة تتطلب الموضوعية وعدم الإنتماء مثل التجارة والربا والقتال والبغاء، ولذا نجد أن موقف أعضاء الجماعات الوظيفية من المجتمع يتسم بالحياد والنفعية، فهم ينظرون إلى مجتمع الأغلبية بإعتباره سوقا أو مصدرا للربح، كما ينظر أعضاء المجتمع إليهم بإعتبارهم أداة لتنشيط التجارة أو القتال، كما وكان ينظر إليهم في المجتمعات التقليدية بإعتبارهم وسيلة لا غاية وأداة من أدوات الإنتاج لا أكثر، ولذلك كان أعضاء الجماعة لا حرمة لهم في كثير من الأحيان (فهم غرباء) والغريب في معظم الأحوال مباح لا قداسة له.
هذا ورغم أن هذه الهجمات على الجماعات اليهودية (الوظيفية) في الغرب تعد هجمات عنصرية، فيجب ألا نهمل الجانب الشعبي فيها وأنها تمثل جزءا من تمرد الجماهير على عملية الإستغلال، وإن كان تمردا قصير النظر، كما هو الحال عادة مع الهبات الشعبية، كما ولم تكن هذه الثورات ثمرة إدراك عميق لحركيات الإستغلال، ولذا إقتصرت على تحطيم الأداة الواضحة أمامهم والمباحة لهم، ويقابل الهجمات الشعبية ضد أعضاء الجماعات اليهودية الإنفجارات المشيحانية بينهم، فهي إنفجارات تعبر عن ضيق قطاعات أعضاء الجماعات اليهودية بوضعهم الإقتصادي والوظيفي والنفسي.
لكن هذا الوضع ليس وضعا عاما ولا عالميا ينطبق على كل اليهود في كل زمان ومكان، فهو ينطبق بالأساس على الجماعات اليهودية في العالم الغربي، وبالذات منذ بداية العصور الوسطى وحتى القرن الثامن عشر، كما ينطبق على كثير من الأقليات الأخرى، ولذا فهو يصلح إطارا تفسيريا لمعظم جوانب ظاهرة معاداة اليهود بإعتبار أن أغلبية يهود العالم كانوا يوجدون في أوروبا مع نهاية القرن الثامن عشر وفي بولندا على وجه الخصوص.
فقد كان يهود بولندا هم أغلبية يهود العالم في أواخر القرن الثامن عشر، وفي هذه المرحلة التاريخية حدث بينهم أيضا إنفجار سكاني أدى إلى تزايد عددهم خمسة أو ستة أضعاف، ومن ثم زاد بروزهم العددي والإقتصادي، كما شهد المجتمع البولندي انذاك بداية ظهور طبقات محلية بديلة وأجهزة قومية تحل محل الجماعة الوظيفية الوسيطة، وتزايد في هذه المرحلة فقر قطاعات كثيرة من المجتمع البولندي، وفضلا عن ذلك كان أعضاء الجماعة اليهودية يتحدثون اليديشية ويدينون بشيء من الولاء للثقافة الألمانية، بينما كان الألمان هم الأعداء التقليديون للسلاف والبولندين، كما أن أعضاء الجماعة اليهودية لم يشاركوا بشكل فعال في الحركة الوطنية البولندية التي كانت ذات توجه معاد لليهود، لأسباب تاريخية مركبة (من أهمها إضطلاع اليهود بوظيفة جمع الضرائب وعوائد الضياع فيما يسمى بنظام «الأرندا»)، ولكل هذا تفجرت معاداة اليهودية في بولندا وروسيا بشكل حاد.
هذا ومن القضايا التي يجب أخذها في الإعتبار أثناء دراسة ظاهرة معاداة اليهود، هو الإطار السياسي العام الذي يتم فيه هذا العداء، ويتضح هذا في موقف الإمبراطورية الرومانية حين صبت جام غضبها على العناصر المتمردة في فلسطين التي كانت تهدد السيطرة الإمبراطورية، ولكنها تحالفت في الوقت نفسه مع أثرياء اليهود الذين كانت مصالحهم مرتبطة بمصلحة الإمبراطورية، ومما يجدر ذكره أنه كان يوجد جيش يهودي بقيادة أجريبا الثاني يعمل تحت قيادة تيتوس قائد القوات الرومانية التي حطمت الهيكل، فالمسألة لم تكن إذن عداء لليهود (أو حبا لهم) بقدر ما هي مسألة مصالح إمبراطورية.
ويتضح الشيء نفسه في موقف الإمبراطورية البريطانية التي قامت بتأييد مشروع الإستيطان الصهيوني ودعمه رغم وجود قطاع داخل أعضاء النخبة الحاكمة الإنجليزية (وبين الطبقات الشعبية) يكن الكراهية لليهود، خصوصا المهاجرين، فالمصالح الإمبراطورية (لا حب اليهود) هي التي دفعت إنجلترا إلى تبني المشروع الصهيوني، وفي فترة لاحقة نشأ توتر بين المستوطنين الصهاينة والإمبراطورية الراعية (وهو أمر عادة ما يحدث لأن مصالح الإمبراطورية تكون عادة أكثر تركيبا وشمولا وإتساعا من مصالح المستوطنين)، فتعقبت السلطات الإنجليزية من سمتهم «العناصر المشاغبة أو المتطرفة» بين المستوطنين، وقد فسر ذلك بأنه عداء لليهود وهو أبعد ما يكون عن ذلك، ولعل أكبر دليل على هذا أن أعضاء الجماعة اليهودية داخل إنجلترا كانوا يتمتعون بجميع حقوقهم في ذلك الوقت، ولو أن الأمر كان عداء مطلقا لليهود، لبدأت عملية التعقب في لندن لا في فلسطين.
ومن العناصر الأخرى التي يجب الإنتباه إليها عند تحديد ظاهرة معاداة اليهود، هي مدى قرب أو بعد أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة اليهودية من النخبة، وما إذا كانت ظاهرة معاداة اليهودية ظاهرة رسمية أم شعبية، حيث يمكن الإشارة إلى أن أعضاء الجماعات اليهودية في التشكيل الحضاري الغربي كانوا دائما تحت حماية النخبة الحاكمة حتى نهاية العصور الوسطى (وربما بعدها أيضا)، ففي روسيا القيصرية على سبيل المثال لم تشترك المؤسسة الحاكمة في إضطهاد اليهود إلا بعد عام 1882، وذلك مع دخول النظام القيصري أزمته وبعد تعثر التحديث وهي فترة لم تدم طويلا، وقد أستؤنف التحديث مع ثورة روسيا عام 1905 ثم الثورة البلشفية وأصبحت معاداة اليهود جريمة رسمية يعاقب عليها القانون، وحتى قبل ذلك التاريخ كانت تتم معاقبة من يقومون بالمذابح الشعبية، وكان التمييز ضد أعضاء الجماعات اليهودية يتم داخل إطار القانون (إن صح التعبير) ويهدف إلى ما كان يسمى «إصلاح اليهود»، كما كان هناك التمييز بين اليهود النافعين واليهود غير النافعين، وكان النافعون يعطون حقوقهم كاملة ويتحركون خارج منطقة الإستيطان، هذا على عكس المعاداة الشعبية لليهود والتي لم يكن ينتظمها إطار، وكانت عبارة عن تفجيرات تعبر عن الإحباط، ومذابح لا تهدف إلا للتنفيس عن الضغط.
وهنا نقول أن الصهاينة في دراستهم لما يلحق باليهود من إضطهاد، يقومون بعزل ظاهرة إضطهاد اليهود عن الظواهر المماثلة أو المختلفة في المجتمع، وبهذه الطريقة يصبح هذا الإضطهاد شيئا فريدا غير مفهوم ويصبح عداء الأغيار لليهود أمرا ثابتا وتعبيرا عن الطبيعة الشريرة للأغيار، ولذا فحينما يدرس الإضطهاد، فإنه لابد من وضعه في سياقه التاريخي حتى يمكننا أن نرى أثر هذا الإضطهاد على جماعات بشرية أخرى، ويمكن القول بأن إضطهاد اليهود في أوروبا (بعد القرن الثاني عشر) لم يكن موجها إليهم بإعتبارهم يهودا وإنما باعتبارهم مرابين (جماعة وظيفية وسيطة)، كما أن المرابين من الكوهارسين واللومبارد الذين كانوا يحتلون المكان نفسه ويعملون الوظيفة نفسها كانوا يتعرضون أو لا يتعرضون للإضطهاد حسب مدى إحتياج المجتمع إليهم أو عدم إحتياجه، وبعد عصر الإعتاق والإنعتاق، قامت الدولة الفرنسية الجديدة بمحاولة دمج كل الأقليات التي كانت تتمتع بأية خصوصية لغوية أو دينية غير فرنسية، ولم تميز في ذلك بين اليهود والبريتون مثلا، وحينما قامت الإمبراطورية الروسية (القيصرية) بمحاولة فرض الصبغة الروسية على أعضاء الجماعة اليهودية، كانت تفعل ذلك بإعتباره جزءا من سياسة إمبراطورية عليا كانت موجهة ضد كل الجماعات البشرية في الإمبراطورية وبخاصة غير السلافية (الإيروسنتي)، وقد تعرض المسلمون في الإمارات التركية السابقة لدرجة أعلى من الإضطهاد، فقد كانوا أقل تروسا، كما أن الانتماء الاسيوي للمسلمين الأتراك جعلهم أكثر ابتعادا عن الحضارة الروسية من اليهود الذين كانوا أكثر قربا منها، فرطانتهم اليديشية هي في نهاية الأمر رطانة ألمانية، كما أن نخبتهم الثقافية كانت جزءا من التشكيل الحضاري الغربي، وبالمثل كان الإضطهاد النازي إضطهادا علميا محايدا لا تمييز فيه ولا تحيز، وقد كان موجها ضد جميع العناصر «غير المفيدة» التي يصنفها المجتمع بإعتبارها كذلك مثل: العجزة والأطفال المعوقين الذين صنفوا بوصفهم «أفواه تأكل لا نفع لها » والغجر والسلاف واليهود، وهناك هولوكوست ضد البولنديين (على يد كل من السوفييت والنازيين) راحت ضحيته عدة ملايين.
هذا ويمكن القول بأن معاداة اليهود كظاهرة لن تختفي تماما من المجتمعات الغربية، فهي مجتمعات بشرية تتسم بقدر من التوتر والإحتكاك بين أعضاء الأغلبية وأعضاء الأقلية، ومع هذا فعادة ما تخف حدة معاداة اليهود حين يتحول أعضاء الجماعة اليهودية من جماعة وظيفية وسيطة متميزة تميزا واضحا إلى أعضاء في الطبقة الوسطى، تتميز بشكل أقل وضوحا ولا تختلف في وظيفتها ولا في قيمها ولا في رؤيتها للعالم عن أعضاء الطبقة الوسطى في المجتمع ككل، وفي هذه الحالة عادة ما يأخذ التعصب الديني أو العرقي ضد أعضاء الجماعة اليهودية شكل سلوك فردي من أشخاص متعصبين حقودين،ولا يشكل ظاهرة إجتماعية تساندها مؤسسات حكومية أو غير حكومية.