قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الشعبوية - نحن من الشعب وإلى الشعب -

الشعبوية - نحن من الشعب وإلى الشعب -

الشعبوية أصلها من اللفظة المشتقة من كلمة (الشعب)، وهي تعبر عن أيديولوجيا أو فلسفة سياسية/اجتماعية، تنحو اتجاه تقديس الشعب واعتباره مستودع الحق والحكمة، وأن إجماعه على رأي يعني استحالة خطئه، فالشعب هو القائد والمعلم، وبهذا تقدم الشعبوية نفسها كخطاب يتصدى لهيمنة النخب، وذلك من خلال استخدام مفردات (نحن من الشعب وإلى الشعب)، كما لا يمكن ربط الشعبوية بناخبين محددين، أو مواصفات سوسيونفسية أو أسلوب سياسي معين، لأنها ليست أيديولوجيا شاملة (بالمعنى المحايد والوصفي المحض) مثل الاشتراكية، الليبرالية، النيوليبرالية وحتى أيضا الأيديولوجيات المحافظة.


الشعبويون لهم منطق خاص ومحدد، فعلى الرغم أنهم ليسوا أعداء للنخبة الحاكمة ولمبدأ التمثيل (الانتخاب) بشكل خاص، إلا أنهم معادون للتعدد بشكل مبدئي، لأنهم حين يجلسون على كراسي المعارضة، لا يبرحون يؤكدون بأن الشعب ممثل من طرف النخب المزيفة والفاسدة، لهذا فإن النقد الموجه إلى هؤلاء الممثلين المزيفين، يكون نقد راديكالي للمؤسسات الديمقراطية، فمواقفهم السياسية تنتهي مباشرة إلى تمييز أخلاقي بين الخطأ والصواب، وليس يمينا ويسارا فقط، ولأن الشعبويين يمثلون الأغلبية الصامتة (أو بالأحرى كل الشعب) كما يدّعون، فإن هذه المؤسسات (النظام) لا ريب يعاني من خلل ما، وإلا لوصلوا هم منذ زمن إلى السلطة.


جملة (نحن الشعب) التي يتبناها الشعبويون هي في الحقيقة إقصائية، لأن من يقول بأن حدود الديمقراطية يحددها الشعب، يتوجب عليه أولا أن يحدد من ينتمي إلى هذا الشعب، فالليبراليين مثلا يفترضون أن من يملك جواز سفر بلد ما أو يعيش منذ فترة طويلة في بلد ما، فهو ينتمي إليه، وهذا هو معيار الانتماء لدى الليبراليين/الديمقراطيين، في حين أن الشعبويين يقدمون جوهرا أخلاقيا قد يتمثل في صيغة (وحده من يعمل، ينتمي إلى الشعب!)، لهذا فإن هناك ضرورة لوجود معيار نهائي للانتماء السياسي مرة وإلى الأبد، لأن الأمر يتعلق بمواطنين مستعدين للعمل من أجل العدالة والتعبير عن تطلعاتهم، كما أن التعدد المجتمعي في النظام السياسي ليس كلا ثابتا، بل هو نتاج حركية اجتماعية بين مواطنين، يعترفون ببعضهم البعض كأحرار متساوين، لكنهم في مصالحهم وهوياتهم مختلفون.


هذا ويقوم الخطاب السياسي للشعبوية على استخدام الديماغوجية ودغدغة مشاعر الجماهير، وذلك من خلال الخطاب العاطفي واللعب على المخاوف من أجل الوصول إلى الناس وكسب تأييدهم لمواجهة القوى المعارضة أو المخالفة أو المعادية، كما وتقوم الشعبوية على تقديس التجربة والممارسة، مقابل تنحية التنظير والفكر والمعرفة، وهي بذلك النظير الحديث للفلسفة الديماغوجية (الغوغائية)، وعلى نقيض الشعبوية يقبع الخطاب العلمي المبني على الحقائق والبيانات والأرقام، والذي يسعى للاستدلال بناء على مقدمات منطقية سليمة وذات أسس موثوقة، لكنه في الوقت ذاته لا يجد ذات الاحتفاء والقبول لدى الجمهور.


الشعبوية تستغل الدين والشعب بشكل رئيسي لدغدغة العواطف والمشاعر، فتدعي أنها حامية حمى الدين وأن كل ما تقوم به هو للمصلحة العامة، وذلك لأن أغلبية الجماهير بسطاء ومحدودي الوعي ومتدينين، أما استغلال الشعب فيتم غالبا من قبل الشعبويون القوميون والعلمانيون والليبراليون واليساريون، بحيث تجدهم يتحدثوا باسم الشعب وأن هدفهم خدمة الشعب وأنهم حماة الشعب، ويستغلوا آلام الناس وأوضاعهم السيئة وآمالهم، مما يدغدغ عواطف الجمهور البسيط، والذي لا يميز بين الواقعية والنرجسية الدوغمائية.


فالدبلوماسية في تركيا مثلا تتماهى مع الخطاب الشعبوي في محطات كثيرة من سياساتها، وذلك كوعد أردوغان عام 2012 بالصلاة قريبا في الجامع الأموي بعد إسقاط بشار الأسد، ومثال آخر على استغلال الدين في السياسة هو تصريح الرئيس التركي أردوغان مؤخرا، والذي قال فيه: (لا فرق بين من يهاجم اقتصادنا، وبين من يهاجم صوت أذاننا وعلمنا، الهدف واحد، وهو هزم الشعب التركي وإركاعه ووضعه تحت الوصاية).


هذا وينتعش الخطاب الشعبوي على يد شخصيات اجتماعية اختارت الطريق الأسهل لبناء المجد والشهرة، وفي السياسة على يد زعماء وقادة اختاروا الطريق الأسهل للوصول إلى تأييد الجماهير، سواء أكانت البيئة السياسية سلطوية دكتاتورية أو حتى ديمقراطية حديثة، ففي الدول السلطوية تتمظهر الشعبوية على شكل التصفيق المنتشي للزعيم والبطل الأوحد الذي يقدم خطابا أيدلوجيا (قومي أو ديني مثلا) غارق بالحماس، وانفعاليا عاطفيا لا يمت للواقع بصلة، بحيث يقلب هزائمه إلى نجاحات ومكتسبات وطنية، وتسجل الذاكرة شخصيات نجحت في إلهاب حماس جماهيرها وهي تقودهم نحو الهاوية، وذلك من أمثال وزير الإعلام العراقي الأسبق، محمد الصحاف، وآخرين قدموا تعريفات جديدة للثورة وإرادة الشعب وحصروها في التأييد بنسبة 99٪ للزعيم الأوحد كالقذافي في ليبيا، وحافظ وبشار الأسد في سوريا، ودكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون الآن وغيرهم الكثير.


كما وهناك زعماء آخرين سقطوا في فخ الخطاب الشعبوي، كأمثال هوغو تشافيز الذي تحلّق الشعب حول خطاباته اليسارية المتوعدة بالقضاء على الإمبريالية وسحق آثارها من فقر وتمييز، لكنها لم تنعكس بنجاحات اقتصادية ملموسة على الأرض، وفي معسكر اليمين يظهر الرئيس الإيراني الأسبق، أحمدي نجاد، الذي توعد مرارا بمحو إسرائيل من الخارطة.


أما في الدول متعددة التمثيل الديمقراطي فتأتي الشعبوية كرديفة للاستخدام المضلل للمعلومات وإغراق الشعب بالبيانات غير المفيدة أو التفسير السطحي لها، ومحاكاة مخاوف الناس، واستثارة مصادر قلقهم المسبقة، إلى جانب الخطاب الاحتجاجي كمبرر للبقاء، ومع أن الشعب يعتبر أساس أي ممارسة ديمقراطية، فإن الشعبويين يحولونه والرأي العام إلى شعار سياسي لممارسة الوصاية على إرادته وترويضه (الجمهور)، حتى أنه قد تم توسيع مفهوم الشعبوية من طرف النخب الأوروبية (بوعي أو من دونه)، وذلك من أجل تجاهل النقد غير المرغوب فيه، فأصبح بعض السياسيين والأحزاب والحركات تغير مواقفها بين الديمقراطية والشعبوية، لأن الديمقراطية الناجحة تسمح لكل المطالب الشعبية بتمثيل نفسها، حتى خارج الدولة/الأمة، ونتيجة لذلك نلاحظ كيف ازدادت جماهيرية اليمين الشعبوي في أوروبا مؤخرا، وذلك عقب استغلاله لقضية تدفق اللاجئين ومعادة الإسلام كوسيلة للمنافسة السياسية، وتكريس الإسلام كأيديولوجيا سياسية متعارضة مع الدستور، وأن أوروبا المسيحية النقية لن تعود كذلك بعد أن تغرق بأمواج المهاجرين الشرقيين والمسلمين.


هذا وتزدهر الشعبوية في المجتمعات التي تعاني تراجعا سياسيا وثقافيا وانتكاسا في الديمقراطية، فالشعبوية تقدم دوما كنقيض للنخبوية، لهذا فإن المنطق يقول بأن النخب تحمل على عاتقها التصدي للخطاب والأفكار الشعبوية التي توصل غالب الأحيان إلى الاضمحلال الثقافي والهلاك، لكن يبقى هناك دوما تشكيك حول أهلية هذه النخب ومدى تمثيلها للشعب وحركة المجتمع وأفكاره، فلو أخذنا النخب العربية كمثال، فإننا سوف نراها ترزح تحت تحديات جمة، منها القمع السياسي، وعدم توافر منابر للتواصل مع الجمهور، وانتشار الدعاية الشعبوية الجارفة للنظم الحاكمة، وطغيان سلطة الجمهور غير الرشيدة، مما جعلهم تحت قيد صنعته لهم السلطة، وذلك حين جردتهم من منبر لائق يخاطبوا به جمهورهم، لكن الداء الأكبر يكمن بكون هذه النخب هي صنيعة هذا المجتمع المقموع، وأنها تسعى إلى الانتشار والتأثير فيه عبر تقييم خطابها ومواءمته وفقا لتفاعل الجمهور، والذي في أغلبه غير واعي أو رشيد، بحيث تجنح قطاعات عريضة من النخب عبر التحلّق حول مقولات الجمهور المحببة، وإعادة صياغتها ضمن قوالب نخبوية توحي بالعمق، عوضا عن تمحيص هذه المقولات وإحداث إزاحات في مركزها نحو مزيد من الوعي، وهكذا نرى اليوم أن كثيرا من المقولات الشعبوية التي يحتفي بها الجمهور، لا تكاد تغادر شفاه المثقفين العرب، كما ويفسح لها المجال الرحب في المنصات الإعلامية المختلفة سعيا وراء الانتشار السريع، وبذلك سقطت هذه النخب في فخ البحث عن منبر على حساب البحث وبث الحقيقة الكاملة.


كما أن الإعلام الشعبوي سواء كان حكومي أو معارضة هو غير موضوعي ويحاول تكريس الدجل والكذب والأوهام، والحقيقة عنده ذو طابع شعاراتي عاطفي، فمثلا الإعلام الشعبوي الحكومي يقول أن كل شيء بخير (الاقتصاد بخير، الثقافة بخير، المجتمع بخير، الأمن بخير، والمستقبل أيضا بخير...)، أما الإعلام الشعبوي المعارض يقول لا شيء بخير (كل شيء سيء)، بينما الواقع لا يتفق مع ما يقوله هذا ولا ما يقوله ذاك، فكل ما يقوله الطرفان لا يعدو كونه نوعا من التلفيق والارتجال لتغطية الفساد أو للمبالغة في الفساد.


طبعا أصبح مفهوم الآن لماذا تطغى الشعبوية على الصحف الحزبية، لكن ماذا بشان الصحف التي تدّعي أنها مستقلة، فهذا النوع من الصحف لديه دافع رئيسي لانتهاج الشعبوية، وهو الانتشار وكسب القراء وزيادة التوزيع، الأمر الذي يسهل عليها جذب المعلنين مما يعني ارتفاع العوائد المالية، ولكن هناك دوافع أخرى غير معلنة بوضوح، وهي الخلفية السياسية لملاكها وأهمية التعبير عن الحكومة بشكل أو بآخر، وكذلك دعم جماعة سياسية ما أو حزب سياسي أو دولة أجنبية، وهذه الصحف شعبويتها أخطر من شعبوية صحف الأحزاب كونها تستغل المواطنين البسطاء أبشع استغلال، وتبث سموما قاتلة باعتبار المواطن جاهل ولا يميز، بحيث يعملوا على توجيه وعي المواطنين وفق مصالحهم، فيكرسوا الضلال ويعمموا التضليل والكذب والأوهام، ومنهم من يبث معلومات تغذي انقسام المجتمع وتغذي الكراهيات، حيث تتقن هذه الصحف فنون اختراق عاطفة الجمهور، فتستغل القراء أشد الاستغلال، وتتمكن من التأثير عليهم ليقبلوا بتلقائية وثقة وعفوية المعلومات التي تريدها هذه الصحف.


هذا ودائما تكتظ المجتمعات الشعبوية بطائفة من الإعلاميين الذين هم أقرب إلى المنجمين وقراء الكف وقارئات الفنجان، حيث يقدموا أنفسهم بأنهم يعلموا ما في النفوس ويقرأوا المستقبل بكل دقة ويتنبؤوا بالأحداث كأنهم هم صانعوها، وذلك من خلال مقالاتهم المكتوبة أو ظهورهم على وسائل الإعلام المختلفة، بحيث يشرحوا للناس الوقائع والأحداث بعيدا عن المعالجة الهادئة الرزينة الهادفة إلى التوعية والتنوير، وكله بهدف شحن المواطن وتأجيج مشاعره لحساب طرف ما وضد طرف أو أطراف أخرى، ورغم ادعاء البعض منهم الانتماء لهذه الجهة أو تلك أو لهذه الفلسفة أو تلك أو لهذه العقيدة أو تلك، إلا أنهم في الأخير ليست لديهم قناعة فكرية بعينها أو منظومة مبادئ يدافعون عنها، فهم ينقلبون ويتقلبون بسرعة عالية من الضد إلى الضد، كلما اقتضت مصلحتهم ذلك.


أخيرا نقول إن الأفكار والأطروحات الشعبوية، لا يقصد بها أنها آراء محببة وشعبيتها عالية، إنما هي سطحية، هوجاء، وتفتقر للمنطق العلمي، لهذا يتوجب علينا تحديدا ألا نترك الساحة فارغة لهؤلاء الشعبويين، الذي يدعون بأنهم وحدهم القادرون على الوفاء بالوعود الإصلاحية والديمقراطية، وذلك لأنهم عاجزون عن ذلك.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart