مناقشة تفنيد الأساس الفقهي لجرائم الشرف
المعلوم أن ما يسمى بـ (جرائم الشرف) جنس تندرج
تحته الكثير من الصور، وبعض هذه الصور مدان عند جميع الفقهاء، كقتل الزوجة أو ذات
الرحم المحرّم، وذلك للاشتباه بكونها فعلت الفاحشة دون أي دليل على ذلك.
لكن هذا لا ينفي أن من جرائم الشرف ما لا يعدم
تبريرا له عند بعض المذاهب، وهذه الحقيقة التي يحاول بعض الناس إنكارها بشدة، وكأن
كل ما تأتي به المذاهب ملحق بالدين الحنيف ضرورة!!
جرائم الشرف قسمان:
الأول: ما يختص بالزوجة
لو افترضنا أن زوجا دخل على زوجته، فرآها متلبسة
بالزنا، فأخذته سورة الغضب فقتلها، فلذلك حالتان:
الأولى: أن يثبت زناها بشهادة أربعة شهود،
فحكمها أن دمها هدر عند الفقهاء، لأن عقوبة الزاني المحصن القتل، وإن كان يؤدب من
جهة إفتئاته على الإمام فقط!
- (انظر: الأم للشافعي،٧/٧٦، وحاشية الدسوقي، ٤/٢٣٩)
ولكن في ذلك نظر، فإن قتل الزاني المحصن بالرجم
فيه إشكالات أصولية كثيرة، ومخالفة لحكم القرآن الذي أطلق الجلد مائة جلدة حدا
للزناة دون تفصيل، ثم إن الأصل في الحدود أن يقيمها الإمام، لأنه لو أقامها
الأفراد فستكون فوضى، وهذه الحالة نادرة الوقوع، إن لم تكن مستحيلة، لذلك فليس لها
كبير أثر في موضوع جرائم الشرف.
الثانية: ألا يثبت زناها بشهادة أربعة شهود،
فعلى الزوج القاتل الإثم والقصاص عند عامة الفقهاء، لأن المشروع للزوج في هذه
الحالة اللجوء إلى اللعان.
- (انظر: الأوسط لابن المنذر، ١٣/٩٨، وفتح
الباري لابن حجر، ٢١/٦٥١)
فقد روى مالك في الموطأ (٢١٥٤) أن عليا رضي الله
عنه قال في زوج قتل زوجته وادعى زناها: (إن لم يأت بأربعة شهداء فليُعط برمته)، أي
يشد بحبل للقصاص.
هذا وقد ذهب الحنفية إلى أن على القاتل القصاص،
لكن فعله جائز بينه وبين ربه، ولا إثم عليه، وقد أقرّ العيني، وهو من الحنفية،
بمبالغة أصحابه في هذا، وقال: (وبالغ أصحابنا في هذا، حيث قالوا: رجل وجد مع
امرأته أو جاريته رجلا يريد أن يغلبها ويزني بها، فله أن يقتله، فإن رآه مع امرأته
أو مع محرم له، وهي مطاوعة له على ذلك، قتل الرجل والمرأة جميعا)!
- (انظر: عمدة القاري للعيني، ٢٤/٢١)
الثاني: ما يختص بذات الرحم المحرم
وهنا للأسف فقد توسّع متأخرو الحنفية في قاعدة
قتل الزوجة المتهمة بالزنا، ولو لم يثبت زناها، فقاسوا عليها ذات الرحم، فنصّوا
على أن للرجل قتل ابنته أو أخته أو غيرهما من المحارم في حال تلبسهن بالزنا، ولو
لم يثبت هذا الزنا بشهادة الشهود، وجعلوا هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!!،
فقد قال الحصكفي: (لو كان مع امرأته وهو يزني بها أو مع محرمه وهما مطاوعان،
قتلهما جميعا).
- (انظر: حاشية ابن عابدين، ١٢/٢١٤)
ولنا أن نتصور خطورة هذا الأمر، وذلك حين تعلم
أن قوانين العقوبات العربية التي منحت قاتل احدى محارمه العذر المحل أو المخفف، إنما
اتكأت على مذهب الحنفية في هذا! بل إن من
الحنفية من توسّع، فأجاز قتل الزانية مطلقا، ولو لم تخص القاتل بقرابة أصلا!
هذا وقد أخطأ الشيخ محمد أبو زهرة، فعزا هذا
القول الشاذ إلى مالك! (العقوبة لأبي زهرة، ص٣٩٦)، وهذه النسبة باطلة قطعا، لأن مالكا يمنع قتل
الزوجة في هذه الحالة، فلا شك أنه لذات الرحم المحرم أشد منعا وتحريما، بل ولم
يثبت هذا عن أحد من الفقهاء المتقدمين، فيما بلغه بحثي ووسعي، وإنما هو من صنيع
متأخري الحنفية كما سلف.
ولا شك أن إلحاق ذات الرحم المحرم بالزوجة في
غاية البعد، فإن العار الذي يلحق الزوج من زنا الزوجة اشد وأعظم، لأنه قد يُلحق
بالزوج أولادا ليسوا من صلبه، أما زنا ذات الرحم المحرم فهو لا يعيبها إلا نفسها
شرعا، فإن كل نفس بما كسبت رهينة، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
وهذا كله على التسليم بصحة الأصل الذي قاسوا
عليه، وهو لا يصح، فإن الله تعالى قد جعل للرجل فكاكا من زوجته الزانية باللعان،
لكن الأخت والبنت والأم تبقى ذات رحم مهما فعلت وأذنبت، كما أن الرجل يبقى ذا رحم
لهنّ مهما فعل وأذنب، وهي علاقة دم لا يمكن الفكاك منها أصلا.
كما ولا شك أن المسلم مطالب بتربية بناته على
الأخلاق الفاضلة، ولكن وقوع انحراف البنات بعد ذلك ليس من ذنب والدهنّ، وقد وقع
بعض أبناء الأنبياء بالمعصية، بل والكفر، فما عاب ذلك آباءهم أصلا.
ومعلوم أن قتل البنات مخافة العار كان من أفعال أهل
الجاهلية التي ذمّها الله تعالى في كتابه الحكيم في غير موضع، فإذا كان الأمر
كذلك، فلماذا انتشرت جرائم الشرف بين كثير من المسلمين؟
لا شك أن الانفلات من ضوابط الدين، والارتداد إلى
أعراف الجاهلية والبداوة، من أكبر العوامل في ذلك، ولقد ساهمت بعض الأحاديث
الموضوعة في جعل الأب مؤاخذا بانحراف بناته أو تبرجهن، فضلا عما هو أكبر من ذلك،
بل جعلت بعض تلك الأحاديث الأخ والعم والابن محاسبين بذلك، ولمشايخ الخرافة باع
كبير في نشر هذه الأحاديث، كما وانتشرت أيضا بعض الاحاديث الضعيفة في ذلك، مثل حديث
(ثلاث لا يدخلون الجنة) وجعل منهم الديوث، مع أن هذا الحديث ضعيف، ومداره على عبد
الله بن يسار الأعرج، وهو مجهول لم يوثقه أحد، أما تحسين من حسنه، فهو من التساهل.
- (انظر: مسند احمد، ١٠/٣٢٢، وتهذيب التهذيب
لابن حجر، ٢/٤٦٠)
كما أن الدياثة ليس لها معنى محدد في اللغة، وهي
كلمة ليست عربية، لذلك فقد توسّع العوام في معناها، مما أعطى مفاهيم سلبية، أدت
فيما أدى إلى انتشار جرائم الشرف.
- (انظر: لسان العرب ٢/١٥٠)
الدكتور صالح السهيل - باحث في علوم الشريعة