قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الجماعات الوسيطة الوظيفية

 الجماعات الوسيطة الوظيفية

الجماعات الوظيفية تتكون دائما من عناصر بشرية غريبة عن المجتمع الذي تعيش فيه، وذلك حتى يمكنها أن تضطلع بوظائف كريهة أو مشبوهة أو متميزة تتطلب الموضوعية وعدم الإنتماء مثل التجارة والربا والقتال والبغاء، ولذا نجد أن موقف أعضاء الجماعات الوظيفية من المجتمع يتسم بالحياد والنفعية، فهم ينظرون إلى مجتمع الأغلبية باعتباره سوقا أو مصدرا للربح، كما ينظر أعضاء المجتمع إليهم باعتبارهم أداة لتنشيط التجارة أو القتال وغيره، كما وكان ينظر إليهم في المجتمعات التقليدية باعتبارهم وسيلة لا غاية وأداة من أدوات الإنتاج لا أكثر، ولذلك كان أعضاء الجماعة لا حرمة لهم في كثير من الأحيان (فهم غرباء)، والغريب في معظم الأحوال مباح لا قداسة له.


هذا وفي العادة يتركز أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة في قطاعات إقتصادية بعينها ويبرزون فيها، الأمر الذي يجعلهم مركزا للكره والحسد من الآخرين، وعلاوة على ذلك يدافع أعضاء الجماعة الوظيفية عن مراكزهم الإقتصادية هذه بشراسة وضراوة غير عادية نظرا لعدم وجود بدائل أخرى متاحة أمامهم، فهم عادة ما يفتقدون الخبرة اللازمة للزراعة والصناعة، ولا يعرفون كثيرا من الحرف بسبب غربتهم وتنقلهم، كما أنهم يدافعون عن مراكزهم الإقتصادية عن طريق شبكة الأقارب والعائلات، الأمر الذي يثير حولهم الشائعات عن عمق بغضهم وكرههم لأعضاء الأغلبية في كل مجتمع هم موجودون فيه، وفي كثير من الأحيان يحقق أعضاء هذه الجماعات الوظيفية الوسيطة، تراكما للثروة بشكل أسرع من أعضاء مجتمع الأغلبية، وذلك نظرا لإستعدادهم لحرمان أنفسهم من كثير من مباهج الحياة، فهم غير منتمين إلى المجتمع كما أن الثروة هي مصدر قوتهم ومبرر وجودهم، فمثلا في حالة اليهود في بولندا كانت الأرستقراطية البولندية تؤكد مكانتها عن طريق الإنفاق والتبذير، وأصبح هذا هو المثل الأعلى لقطاعات الشعب البولندي كافة، الأمر الذي لم يشارك فيه أعضاء الجماعة اليهودية الذين كانوا يؤثرون الإدخار وسرعة تراكم الثروة، وهذا الوضع يزيد بلا شك حسد الجماهير وكرهها لهم.

لكن أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة وبرغم غربتهم وتميزهم، كانوا يجدون أنفسهم في قلب الصراعات المختلفة في المجتمع، وبخاصة الصراعات الناشبة بين أعضاء النخبة الحاكمة وبين الطبقات الأخرى للمجتمع، خصوصا الطبقات الشعبية (عامة الشعب)، إذ أن قطاعات من النخبة الحاكمة كانت تستخدم أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة لضرب بعض طبقات المجتمع لاستغلالها أو كبح جماحها (الثورات)، فأعضاء الجماعة هم سوط في يد الحاكم أو هكذا كان يراهم المحكومون، ولكنهم أيضا كبش الفداء الذي يتم التخلص منه عند الحاجة أمام الهجمات الشعبية، فالأداة هنا أصبحت ليست غاية في ذاتها.

والجماعة الوظيفية الوسيطة كما أسلفنا  تضطلع بوظيفة مهمة في المجتمع، وبالتالي فإن وجودها في حد ذاته لا يؤدي بالضرورة إلى تحول العداء الكامن إلى هجوم شعبي، لكن مثل هذا التحول يحدث في ظروف معينة من بينها ما يلي:

 - المراحل الإنتقالية، وذلك حينما تحل طبقة جديدة محلية أو عالمية محل الجماعة الوظيفية الوسيطة، أو حينما تطور الدولة أجهزة مركزية تضطلع بوظائف هذه الجماعة.

 - تزايد نصيب الجماعة الوظيفية الوسيطة من الثروة مع تزايد الفقر في المجتمع أو في بعض شرائحه.

 - تزايد أعداد أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة، وهو ما يزيد من بروزهم.

 - غياب الأعداء المشتركين للأغلبية ولأعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة، أو تحالف أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة مع العدو الخارجي.

 - وضوح أعضاء الجماعة وتميزهم بعلامات عرقية أو ثقافية لا يمكن محوها مثل اللون أو شكل العيون أو اللغة.

 - وجود تميز ثقافي أو ديني أو عرقي أو إجتماعي يساهم في عزل الأقلية عن الأغلبية، فالعزلة هنا ليست على مستوى واحد وإنما على جميع المستويات.

هذا ولتوضيح النقاط الأخيرة، يمكن الإشارة إلى وضع الصينيين في إندونيسيا، والهنود في جنوب أفريقيا، ويهود اليديشية في أوكرانيا حينما كانت تابعة لبولندا، فالنخبة الحاكمة كانت هولندية مسيحية في إندونسيا، وإنجليزية مسيحية في جنوب أفريقيا، وبولندية كاثوليكية في بولندا، كما وكانت الجماهير إندونيسية (جاوية) مسلمة أو وثنية في إندونيسيا، وسوداء وثنية في جنوب أفريقيا، وأوكرانية أرثوذكسية في أوكرانيا، أما الجماعة الوظيفية الوسيطة التجارية، فكانت صينية كونفوشيوسية في إندونيسيا، وهندية (هندوكية أو مسيحية أو مسلمة) في جنوب أفريقيا، ويهودية في أوكرانيا، كما كانت تفصل الجماعة الوظيفية الوسيطة عن النخبة وعن الجماهير عدة سمات أخرى (لغوية وثقافية)، وحينما يصل التدرج إلى هذه الدرجة من التبلور، وحينما تدعم الإختلافات الدينية والثقافية والعرقية الإختلافات الطبقية، تصبح التربة مهيأة لإنفجارات إجتماعية هائلة ذات أبعاد عرقية، وذلك كما حدث مثلا بالفعل في إنتفاضة شميلنكي للأوكرانيين ضد السيادة البولندية الكاثوليكية (طبقة النبلاء البولنديين) على السكان الأرثوذكس، وغيرها الكثير في مناطق متنوعة وللأسباب الموضوعية ذاتها.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart