كيف تم خلق معضلة تحديد مفهوم المدنيين بدقة في الحروب الحديثة
كثرة الاختلاف حول مفهوم المدنيين والفئات التي يشملها في العصر الحالي، يعود إلى صعوبة التفريق الدقيق بين المقاتلين وغيرهم من غير المقاتلين (المدنيين)، وذلك يعود لأسباب عدّة أهمها:
أ- زيادة عدد المقاتلين
والتوسع في ذلك من قبل الدول والأخذ بنظام التجنيد الاجباري، ناهيك عن ازدياد
أعداد الأفراد اللازمة لخدمة هذه الجيوش، وذلك من خلال الامدادات والعمل في
التسليح والصناعة العسكرية وغيرها بما يصعب معرفة المدنيين من غيرهم.
ب- تطور وسائل
الحرب ومنها الجوية وأساليبها، وصعوبة التحديد بدقة بين قصف المقاتلين وغيرهم، حيث
أظهرت الحربان العالميتان أن الأطفال والنساء كانوا الفئة الأكثر تعرضا للغارات
الجوية، كما كان لظهور أسلحة الدمار الشامل تأثيرا بالغا في القضاء على مبدأ التفرقة
بين المقاتلين وغير المقاتلين (المدنيين)، وقد كانت (هيروشيما وناجازاكي) خير مثال
على ذلك، بالإضافة إلى استخدام أسلحة جديدة وفتاكة ضد الأفراد وكذلك في البيئة
المستهدفة، والتي منها الألغام الأرضية والقنابل المسيلة للدموع والفسفورية وغيرها،
بحيث يصعب هنا التفرقة على من يتم استخدامها.
ج- اللجوء إلى
أساليب الحرب الاقتصادية والتي ظهرت لقهر إرادة العدو، ومن الجدير ذكره هنا أن
اللجوء إلى أساليب الحرب الإقتصادية تنعكس آثاره المباشرة على غير المقاتلين (المدنيين)
أكثر من المقاتلين أنفسهم، بحيث اعتبرت بريطانيا في الحرب العالمية الأولى الطعام
من المهربات (الممنوعات) المطلقة على نحو لا يميز بين المقاتلين وغير المقاتلين
(المدنيين).
د- توافر
الأسلحة بلا قيود وخاصة الأسلحة الحربية الصغيرة، ففي غالبية النزاعات الدولية
كانت الإصابات والوفيات في صفوف المدنيين الناجمة عن الأسلحة التقليدية الكبيرة
مثل الدبابات والطائرات والسفن الحربية أقل من تلك التي تسببها الأسلحة الصغيرة
والخفيفة، والتي تصل على نحو مستمر ومتزايد إلى أيدي الجيوش النظامية والخاصة
والميلشيات والجماعات المتمردة وحتى المنظمات الإجرامية التي تضفي المزيد من
التعقيد على العمليات العسكرية، حيث بوسع أي إنسان أو حتى الأطفال تشغيل هذه
الأسلحة واستعمالها، وغالبا ما يتيسر الحصول على أسلحة وبنادق سريعة الطلقات (أوتوماتيكية)
بسعر يقل بكثير عن تكلفة الإنتاج.
هـ- تغير النظام
العالمي الحالي، وذلك بانهيار النظام العالمي القائم على الثنائية القطبية وقيام
النظام العالمي الجديد، وهذا أدى إلى تغير الأساليب القتالية وإلى تحول في طبيعة
وأشكال الحروب، مما زاد بدوره في صعوبة التفرقة بين المقاتلين وغير المقاتلين (المدنيين)
عند دخول هذه الأشكال من الحروب حيز التنفيذ، حيث وجدت أنواع ومسميات للحروب جديدة
تخدم مصلحة النظام العالمي الجديد نذكر منها:
1- الحروب
الوقائية أو الاستباقية: والذي ظهر في ظل الهيمنة الأمريكية على العالم، وذلك على
يد كاتب الدولة الأمريكي للخارجية هنري كيسنجر، حيث يتيح الوضع الجديد لواشنطن
بتوجيه ضربات عسكرية دون أن تعرض مصالحها للخطر خاصة إذا كانت ضد دولة ضعيفة، وتتمحور
هذه الحروب على استراتيجية جديدة لواشنطن تختلف عن استراتيجيتها القديمة التي تجسد
العدو وتعرّفه ضمن دول معينة، وسبب انتهاج الولايات المتحدة الأمريكية هذه الاستراتيجية
الجديدة، هو الرغبة في فرض هيمنتها على العالم وسيطرتها عليه، وكان من أبرز
المعارضين له فرنسا وألمانيا وغيرهما من دول العالم.
2- الدولة
المارقة: وقد سمح هذا المصطلح لأمريكا بإنزال عقوبات اقتصادية وعسكرية ضد بعض
الدول، وذلك دون اللجوء إلى المؤسسات الدولية (الأمم المتحدة).
3- الاحتواء
المزدوج: وقد ظهرت هذه العبارة سنة 1993م للتعبير عن استراتيجية تقضي بعزل إيران
والعراق وكوريا الشمالية عن المحيط الدولي.
4- الحرب على
الإرهاب: وقد استخدم هذا المصطلح بعد هجمات 11 سبتمبر 2001م، حيث تركزت هذه الحرب
في بدايتها على تنظيم القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان وبعدها العراق.
5- محور الشر: وهو
المصطلح الذي وصف به الرئيس الأمريكي، جورج بوش الابن، بتاريخ 31 /1/ 2002م، العراق
وإيران وكوريا الشمالية بأنها تقع ضمنه، وأنه يسلح نفسه لتهديد سلام العالم (السلم
العالمي)، وذلك بمعنى أن تلك الدول تسعى لامتلاك أسلحة للدمار الشامل باختلاف
أنواعها، وبالتالي تشكل خطر ليس على الولايات المتحدة فحسب بل على العالم بأسره.
وهكذا نرى كيف
أن أثر تنفيذ هذه الاستراتيجيات الحربية على المدنيين في الدول المحتمل أن يكون
فيها عدو لأمريكا وغيرها من الدول العظمى، قد أبرز مأساة حقيقية مثلا في أفغانستان
والعراق، فالحرب هناك أدت إلى قتل الكثير من المدنيين، مما جعل إطار هذه الحروب
الحديثة يقوم على قتل المدنيين، وذلك بدعوى الصعوبة الكبيرة في التفرقة بين
المقاتلين وغير المقاتلين (المدنيين) بالتحديد، حيث أن هؤلاء (المدنيين) يعيشون
على أرض واحدة مع المقاتلين أين تدور عليها وفي سمائها كل المعارك، مع العلم أن كل
ذلك لا يمنع أو يسقط وجوب تطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني على هذه الصراعات
الحديثة.
ولهذا يقول مايكل وولتزر مؤلف الكتاب الشهير
(الحروب العادلة والحروب غير العادلة)، والذي يعد من كبار منظري العلاقات الدولية
الذين كتبوا بعمق وإسهاب حول نظريات الحرب وبخاصة فكرة الحرب العادلة، أن الحرب
يجب أن تكون مقيدة إلى الحد الأدنى، وأن لا تتخطى الأطراف المتحاربة في الزي
العسكري، وهي بين الجيوش وليس الشعوب، ومعظم الحروب إن لم يكن كلها ليس هناك أسباب
حقيقية ومقنعة لخوضها، فكل طرف متحارب يزعم أن حربه عادلة، إلا أن مسؤولية حماية
المدنيين وعدم تعريضهم لخطر الموت مسؤولية الجيوش المتحاربة.
لكن مواقف وممارسة الجيوش تقوم على أساس العقيدة العسكرية، والتي ترتكز على
أن (حياة الجنود أهم من حياة المدنيين)، وبالتالي فإن الأولوية في ميدان الاشتباك
يجب أن تكون لحماية حياة الجندي حتى لو أدى ذلك إلى قتل المدني، وتبعا لهذه
الأولوية تتشكل الممارسة العسكرية العملياتية، والتي تعتمد على كثافة نيران هائلة
وتدمير مناطق مدنية كاملة، بحيث تنطلق في ذلك من رؤية ذاتية وغير موضوعية تفترض أن
الحرب العادلة هي في جانب طرف ما، وبالتالي فإن جنوده يخوضون حربا مفروضة عليهم من
قبل (معارضين – إرهابيين) يختبئون خلف دروع بشرية، أما المدنيون على الطرف الآخر
فهم في آخر سلم الأولويات، والمسؤولية عن حياتهم تقع على عاتق من يعرضهم للخطر، وهكذا
يكون التخلي في تلك الحرب عن المسؤولية الأخلاقية التي يجب أن يلتزم بها أي جيش أو
طرف محارب.
أما حين يختلط مقاتلون أو إرهابيون مع مدنيين، فمن المؤكد أن كل جيش سوف
تكون له حسابات وردود أفعال مختلفة، وذلك إزاء التغير في سيناريوهات الحرب، فعندما
يكون المحتجزون المدنيون موالون له ستكون خيارات التدخل العسكري محدودة جدا
ومختلفة عن اتساعها ومرونتها المتوقعة عما ستكون عليه فيما لو كان المدنيون موالون
للطرف الآخر أو حتى لو كانوا محايدين.
ولهذا يجب أن تكون مسؤولية أي جيش إزاء المدنيين متناظرة، بمعنى أن المدنيين المتواجدين في طرف الجيش أو الموالين له ليسوا أرقى مرتبة من المدنيين في الطرف المقابل أيا كان هذا الطرف والعكس صحيح أيضا، وذلك لأنه من دون تطبيق هذه السياسة الموحدة والنظرة التي ترى المدنيين غير محاربين، فإن اتهام أي طرف للآخر بأنه يستخدم المدنيين كدروع بشرية يصبح فارغا، وذلك لأن نفس النظرة المستهترة بالمدنيين تتساوى عند الطرفين في هذه الحالة، ولهذا فإن هناك كثير من النقاشات حول مفهوم المدنيين اليوم في العالم، يراد من ورائها تقليص رقعة الحرب وقصرها بين المتحاربين فقط وليس توسيعها، بخاصة لجهة التفريق بين موقفهم المؤيد للجيش أو الطرف المحارب الذي يمثلهم وبين ممارستهم غير الحربية.