العدل الإلهي في التفاوت بين الخير والشر
نظرة الإنسان للمصيبة وأثرها النفسي
يتغير مفهومه جذريا إزاء ما يكمن في المصيبة من خير وشر، فما يراه البعض شرا قد يراه
آخرون خيرا، وهذه النسبية تكفي للاستدلال بها على وجود إله مطلق القدرة (الله
تعالى)، ومنزه عن خيارات الإنسان وقناعاته وأهوائه (حكمة إلهية)، وأكيد أن هناك
حكمة إلهية في المصائب الفردية والجماعية، وللمكلفين وغير المكلفين (أطفال
ومجانين)، حيث أعطى الله تعالى جميع خلقه قدرات هائلة على التحمل والصبر والتعلم،
لكن معظمها قد يبقى معطلا عندما لا يستخدمها أصحابها ممن يعتادون على الرخاء،
وكثير من الأسئلة الفلسفية والشكوك حول هذا الموضوع لا تخطر غالبا على أذهان عامة
الناس ممن يعانون من الأزمات والشدائد، بل تطرح عادة من قبل المعتادين أكثر على
التمتع بنمط حياة مريح وخالي من المنغصات، وهذا لا يعود بالدرجة الأولى إلى التفرغ
والتأمل، وازدياد فرص الاطلاع والمعرفة العامة، بل هو ناشئ أولا عن الرفاهية نفسها
التي تدفع الإنسان لا شعوريا إلى التمرد والتذمر معا (الفراغ الروحي والديني).
هذا ويكاد يكون من المجمع عليه أن
يميل الأشخاص الذين اعتادوا على المكابدة في الحياة إلى الإيمان بالله تعالى
وبالقدر، وذلك لأن المشقة التي اعتادوا عليها في حياتهم أبرزت طاقاتهم الكامنة،
حتى أصبح الصبر والمكابدة وتحمل الصعاب والشدائد من العادات التي لا تلفت نظرهم
ولا تستلزم الكثير من جهدهم، كما ولا تتولد في أذهانهم عادة تلك التساؤلات الدالة
على الكره والسخط لحياتهم، حيث فهم هؤلاء إن المصائب لا تكون كلها عقابا على ذنب
اقترفه الإنسان، بل تكون أيضا تربية وتزكية وبابا من أبواب الثواب في الآخرة، ومن
العجيب أن الأشخاص المتنعمين أنفسهم والذين يعيشون في رخاء وبحبوحة، ويعتقدون أنهم
لا يملكون الكثير من الصبر، قد يكتشفون فجأة أنهم قادرون على مكابدة ما يحل بهم من
مصائب ثم تجاوزها ونسيانها، بل كثيرا ما تتحول ذكرياتهم المؤلمة ذاتها إلى تجربة
ممتعة ومدعاة للفخر لما يكتسبونه بسببها من خبرة وقوة، ومع ذلك يبقى بعضهم يرى في
نزول المصائب شرا مطلقا لا ينبغي أن يسمح به الله تعالى، وهذه المعضلة بالنسبة
لهؤلاء (وجود الشر) هي ذات منشأ نفسي ومتغير لا عقلي ومنطقي.
قد لا نعرف على وجه الدقة الحكمة
النهائية من خلقنا وابتلائنا، إلا أننا نعلم يقينا أننا مكلفون، ومن بديهيات
التكليف أن يكون هناك ابتلاء، سواء بالنعم التي قد تطغى على الإنسان وتلهيه عما
خلق له، أو بالشدائد التي قد تلهيه أيضا وتسقطه في اليأس والقنوط، لكن المؤمن
الواعي والمجاهد لنزعات النفس يتخذ موقفا وسطا في كلا الظرفين، والتعامل الإيجابي
مع الظرفين المتناقضين لا يقدر عليه إلا المؤمن، لأنه نتيجة طبيعية للإيمان الواعي
بحكمة الله تعالى والتسليم له والرضا بقضائه، ومنه يمكن فهم التفاوت في الرزق من
حيث المال والجمال والصحة وغير ذلك من أمور بين الناس على أنه نوع من الابتلاء
والاختبار، وأن هذا التفاوت لا يتعارض مع العدل الإلهي مطلقا، وذلك لأن عين
الإنسان القاصرة تقف عند خلل ما في إحدى النعم وتغيب عنها نعم أخرى لا تحصى، ومع
أن أدواتنا البشرية قاصرة عن تعداد كل نعم الله تعالى على كل فرد منا، والتي تشمل
أدق تفاصيل مقادير الأمور مما يغيب عنا أصلا، فإن ما نعرفه من النعم وحده يكفي
لنجزم بأن الله تعالى إذا سلب من أحد عباده نعمة ما فإنه يعوضه بنعم أخرى كثيرة.
هذا ولا يوجد على وجه الأرض شخص واحد
اجتمعت لديه كل النعم بكمالها دون نقص، كما لا يوجد شخص آخر اختلت لديه موازين
النعم كلها، بل يتمتع كل منا غالبا بقدر ما من كل نعمة ولا تسلب منه بالكلية، وإن
سلبت منه إحداها تماما فإنه يرزق نعما أخرى تعوضه، ويكفي لكل سائل متشكك أن ينظر
في حال من هو أشد منه ابتلاء في نفس المجال الذي يجد نقصا فيه، ثم ينظر في نعم
أخرى يتمتع بها ولم تكن تخطر على باله مما قد حرم منه آخرون.
التفاوت بين الناس في النعم والمعيشة
هو من لوازم الحياة التي لا يمكن لها أن تستمر لو كان البشر كلهم متساوون في كل
شيء، بل كان من الضروري أن يسخر بعضهم لبعض، فيكون فيهم الرئيس والمرؤوس، والذكي
ومتوسط وقليل الذكاء، والغني والفقير، كي يكون بعضهم محتاجا إلى بعض ومسخرا له،
ولو تأملنا في تعقيد شؤون الحياة والمجتمعات، لرأينا أن كل فرد مهما علا شأنه
بحاجة إلى الآخرين مهما قل شأنهم كي تستمر الحياة، أما ما ينتج عن هذا التفاوت
والتسخير من طبقية وعنصرية واستعلاء وتجبر وظلم، فهي كلها من صنع الإنسان نفسه
الذي حذره الله تعالى على لسان كل الأنبياء والرسل من الغطرسة والظلم وعدم إقامة
العدل، ونهاه عن كل الأقوال والأعمال السيئة، وأمره بالتواضع والاحترام ولين
الجانب مع كل الناس.