حزب الله من المقاومة إلى الإختراق مرورا بالطائفية
لم يشهد العالم العربي والإسلامي في
العقود الأخيرة تنظيما مسلحا تطور في قدراته العسكرية ووسع نفوذه السياسي مثل حزب
الله اللبناني، وهو الذي تأسس في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي في فترة من
الفوضى كان يشهدها لبنان، حيث كانت الدولة ضعيفة وغائبة إلى حد كبير نتيجة الحرب
الأهلية، والمقاومة الفلسطينية في حالة ضعف، وفي هذا السياق بدأ الحزب بتدريب
الشباب الشيعي، خصوصا من جنوب لبنان وبيروت على القتال ضد قوات الاحتلال
الإسرائيلي.
وقد كان هذا التدريب جزءا من
الأيديولوجيا الرسمية للحزب، والتي تنص على أن هذه الجماعة عبارة عن حركة جهادية
تتبع مشروع ولاية الفقيه الإيراني، مما ربط الحزب ارتباطا وثيقا بالنظام الإيراني،
وهدفها الأساسي مواجهة ودحر الاحتلال الإسرائيلي عن لبنان، وتحول الحزب تدريجيا
بذلك إلى لاعب سياسي رئيسي داخل لبنان ووكيل قوي لإيران في المنطقة، كما واستمرت عمليات الحزب العسكرية ضد القوات
الإسرائيلية وجيش العملاء اللبنانيين المساند لهم حتى مايو/أيار 2000م، وذلك عندما
قررت إسرائيل سحب قواتها من جنوب لبنان، وقد حقق هذا الانسحاب للحزب شعبية هائلة
في العالم العربي والإسلامي.
هذا ورغم أن اتفاق الطائف في 30 أيلول/سبتمبر 1989، وهو وثيقة الوفاق
الوطني اللبناني التي وضعت بين الأطراف المتنازعة في لبنان بوساطة سورية/سعودية،
أنهت الحرب الأهلية اللبنانية، وذلك بعد أكثر من خمسة عشر عاما على اندلاعها،
وأعادة تأكيد السلطة اللبنانية في جنوب لبنان (التي كانت تحتلها إسرائيل)، نصت على
نزع سلاح الميليشيات المسلحة، إلا أن حزب الله اعتبر أن الاحتفاظ بسلاحه ضرورة
لتحرير ما تبقى من الأراضي اللبنانية المحتلة مثل مزارع شبعا.
ولهذا وفي
يوليو/تموز 2006، دخل حزب الله في مواجهة واسعة مع إسرائيل، أسفرت عن حرب كبيرة
ومدمرة للبنان، وعلى الرغم من الخسائر في الأرواح والممتلكات، فقد نال الحزب إشادة
كبيرة من الجماهير العربية والإسلامية بفضل أدائه العسكري وصمود مقاتليه ضد الجيش
الإسرائيلي، كما لعبت خطب حسن نصر الله، الأمين العام للحزب، دورا كبيرا في تعزيز
هذا الدعم الشعبي، وأصبحت صور نصر الله رمزا للمقاومة في الشوارع العربية
والإسلامية، وارتفعت أسهم الحزب عاليا كقوة رئيسية في مواجهة إسرائيل، لكن الصورة
اللامعة لحزب الله بدأت تتراجع نسبيا بعد أحداث 7 مايو/أيار 2008، وذلك عندما
اجتاح الحزب بيروت وواجه خصومه السياسيين من قوى 14 آذار بالسلاح، وهذا التصرف
عمّق الانقسامات الداخلية في لبنان وأثار انتقادات شديدة للحزب، خاصة وأنه استخدم
سلاح المقاومة ضد خصومه في الداخل.
بعدها شكلت
الحرب في سوريا عام 2011 نقطة تحول رئيسية في مسيرة حزب الله، حيث أن الحرب
السورية كشفت التناقضات العميقة داخل الحزب، والذي كان يعتبر نفسه مقاوما للاحتلال
الإسرائيلي وللهيمنة الأمريكية في لبنان، لكنه تحول إلى ذراع إيرانية تتبع أجندة
طهران دون النظر إلى القيم الأخلاقية أو المبادئ التي تأسس عليها، ودور حزب الله
في الحرب السورية عزز من مكانته كوكيل إيراني، وتحولت صورته من مقاومة للاحتلال
الإسرائيلي إلى ميليشيا طائفية تدعم نظام بشار الأسد، حيث تدخل الحزب بشكل مباشر
في الصراع السوري بحجة حماية المقدسات الشيعية وبذريعة الحفاظ على محور المقاومة
ضد إسرائيل.
هذا ورغم
محاولات الحزب الحفاظ على صورته كمقاومة، إلا أن تواطؤه في المجازر ضد المدنيين
السوريين، خصوصا من السنة، ودعمه اللامحدود للنظام السوري، أثبت أن ولاءه الأول هو
لإيران، وليس للقضايا اللبنانية أو الفلسطينية أو حتى العربية عموما، حيث أصبحت
قيادة الحزب، وعلى رأسها حسن نصر الله، تعمل بتنسيق مباشر مع المرشد الأعلى
الإيراني علي خامنئي، كما وكانت كل التحركات العسكرية والسياسية الكبرى لحزب الله
في سوريا تتطلب موافقة إيران، وهذا أثار غضبا واسعا في العالم العربي
والإسلامي عليه، وأفقده جزءا كبيرا من شعبيته السابقة.
تعرض حزب الله خلال الثورة السورية
إلى اختبار قوي أفقده كثيرا من أسس شرعيته التي عمل على تثبيتها في أذهان العرب
والمسلمين على مدار سنوات طويلة، حيث مثلت فكرة سقوط النظام السوري الهاجس الأخطر
لحزب الله وإيران، وقد أثبت حزب الله نفسه كحليف موثوق به، ولم يتردد في التورط
المباشر بمقاتليه وقادته العسكريين من الصف الأول في الأزمة السورية للدفاع عن
مصالح دمشق وطهران، وهنا وقع حزب الله في خطأين قاتلين لأي حركة مقاومة، أولهما
أنه ترك القرار النهائي له بيد إيران، وهي السبب غالبا في عدم دخول الحزب مؤخرا الحرب
الحقيقية مع إسرائيل عندما كان الوقت مناسبا لها، وذلك تجنبا لانزلاق تخشى إيران
أن يطالها ومستعدة للتضحية بأي شيء لتجنبه، وثانيهما هو تبنيه لسلوك وتنظيم الجيوش
النظامية، وهو الفخ الذي وقع فيه الحزب على ما يبدو بعد الحرب السورية، بحيث أصبح
يتصرف وكأنه جيش حقيقي يتمتع بغطاء جوي متكامل، بعدد أفراد ضخم ومؤسسات شبه
حكومية، وقيادة أركان تجتمع بشكل طبيعي في المقرات الرسمية وتتحرك بين الناس علنا.
تدخل حزب الله في الحرب السورية لدعم
نظام بشار الأسد، ساهم في توسع الحزب وزيادة قوته، لكنه أيضا كشف عن نقاط ضعفه،
حيث أن متطلبات هذه الحرب الطويلة أدت إلى إضعاف آليات الرقابة الداخلية للحزب
وفتح الباب للاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي على مستوى كبير، وكان مجرد تحديد
هوية أحد عناصر حزب الله، يتم إدخال أنماط تحركاته اليومية المراقبة في قاعدة
بيانات ضخمة، وهذا مكّن إسرائيل من الحصول على الكثير من القدرات والمعلومات
الاستخباراتية المخزنة في انتظار استخدامها مستقبلا، ومن خلال الجمع بين التطور
التكنولوجي والصبر الاستراتيجي وإعادة توجيه جهودها التجسسية، وصلت هذه العمليات
مؤخرا إلى اغتيال قيادات الصف الأول بالحزب كلهم وصولا لاغتيال نصر الله، وهو
إنجاز فشلت إسرائيل في تحقيقه منذ عام 2006 سواء باغتيال نصر الله أو توجيه أي
ضربات قاتلة للحزب.
وهكذا كان دخول سوريا ودعم نظام بشار
الأسد هو الخطأ الاستراتيجي الفادح الذي كشف كل مستور، وكان بمثابة الكنز الثمين
لجمع البيانات واختراق حزب الله من قبل المخابرات الإسرائيلية والأميركية وغيرهم،
حيث كان على أفراد ومقاتلي الحزب أن يكشفوا عن أنفسهم في سوريا، واضطرت هذه المجموعة
السرية فجأة إلى البقاء على اتصال وتبادل المعلومات مع جهاز الاستخبارات السوري أو
مع أجهزة الاستخبارات الروسية الفاسدة، والتي كانت تخضع كلها لمراقبة منتظمة من
قبل الأميركيين والإسرائيلين.
ولهذا فإن ما حصل مؤخرا من أحداث
واغتيالات وانكشاف حجم الإختراق غير الطبيعي للحزب وبيئته، مفتاحه الأساسي كله كان
مشاركة الحزب في إجهاض الثورة السورية وتعاونه بشكل مباشر مع الجيش السوري والقوات
الروسية لدعمهم في جرائمهم بحق السوريين، حيث كان الحزب قبل سوريا يتمتع بتحصينات
أمنية معقدة تحمي شبكة قياداته من أي استهداف إسرائيلي، لكن بمجرد دخول الحزب في
سوريا أصبح تعامل كافة قياداته وكوادره على المكشوف وبشكل مفتوح ومباشر مع الجهات
السورية والروسية المخترقة بالكامل من أمريكا وغيرها، وذلك لضمان عدم تجاوزهم
للحدود المرسومة لهم، وهذا وفر كمية ضخمة من المعلومات الأمنية عن هياكل إدارة
الحزب وقادته وأماكن تواجدهم، مما مكّن من تتبع شبه كامل لكافة كوادر الحزب لا
سيما القيادات الكبرى، ومسار حركتهم في سوريا ولبنان ولغاية تحصيناتهم، بل حتى صور
وإعلانات النعي لتحديد محل إقامتهم ومعرفة أسرهم وعائلاتهم وأصدقائهم وأماكن
نشاطهم.
أخيرا نقول هناك سياسة عسكرية حكيمة توصي بتجنب
المواجهة المباشرة قبل اكتمال جميع عناصر القوة، بما في ذلك تجنب الجعجعة وتوزيع
التهديدات يمينا وشمالا لتجنب لفت الأنظار، وقد أثبتت هذه السياسة نجاحها إلى حد
كبير بالنسبة للصين مثلا، إلا أنه في المقابل هناك سياسة عسكرية أخرى تعتمد على
استراتيجية الاحتواء ومحاولة استباق خطر التهديدات المحتملة من خلال منع اكتمال
عناصر قوة المنافسين قبل أن تصبح تهديدا حقيقيا، وذلك من خلال تضخيم قوتهم وإظهار
الخوف منهم، وربما منحهم بعض الانتصارات البسيطة هنا وهناك من أجل استدراجهم وحشد
الجبهة الداخلية ضدهم، وهو ما تقوم به أمريكا وإسرائيل في حروبها في المنطقة، وهي السياسة
التي يميل فيها هؤلاء دائما إلى المبالغة في قوة أعدائهم من أجل ضمان أقصى حد من
الحشد داخليا وخارجيا ضدهم وتعظيم صورة النصر لاحقا، وهو ما يبدو أنه الفخ الذي وقع
فيه (حزب الله وإيران) ودفعهم إلى الغرور والاستهانة نسبيا، واستدرجهم
أحيانا إلى توهم القوة عندهم أكثر من اللازم والضعف عند الخصوم، وليجدوا أنفسهم في النهاية واقعين في فخ عدم الجهوزية الكاملة أثناء
المواجهة الحقيقية.