تطور ديناميات نظام الحزبين في أمريكا تاريخيا
لقد تم تشكيل الأحزاب الأمريكية في
البداية استنادا إلى آراء سياسية وأيديولوجية مختلفة ومتنوعة، وذلك حول كيفية حكم
الأمة الأمريكية الوليدة (الجديدة)، إلا أن الحزبان الرئيسيان اللذان ظهرا وسيطرا
على المشهد السياسي للحكم في السنوات الأولى لتاريخ الولايات المتحدة كانا:
- (الحزب الديمقراطي/الجمهوري): وهو
الذي تطور لاحقا إلى الحزب الديمقراطي، وقد كان هؤلاء معروفون أيضا باسم جمهوريي
جيفرسون، وهم من أنصار حقوق الولايات لتكون حكومات فيدرالية محدودة، حيث كانوا
قلقين من إمكانية إساءة استخدام السلطة من قبل حكومة مركزية قوية على كامل
الولايات، ولهذا دعوا إلى تفسير صارم للدستور وفي أضيق الحدود، كما كانوا يعتقدون
أنه يجب أن تكون الحكومة أكثر زراعية اقتصاديا، وأن تركز على حريات الأفراد
اجتماعيا وسياسيا، وهكذا كان أكبر داعم لهم هم سكان الولايات الجنوبية والمناطق
الريفية (الزراعية).
- (حزب الفيدراليين): وهو الحزب الذي
اندثر فيما بعد، حيث كان الفيدراليون من أنصار حكومة فيدرالية قوية وبسلطة مركزية
على كامل الولايات، بحيث أن هذه الحكومة المركزية ضرورية لاستقرار وتقدم الأمة
الأمريكية الشابة الجديدة، كما كان الفيدراليون يفضلون تفسيرا غير صارم للدستور،
والتوسع في فهم مواده بما يتناسب مع المتغيرات المستجدة، وهو الذي بدوره سيمنح
الحكومات الفيدرالية للولايات مزيدا من السلطات الخاصة بها، إضافة إلى أنهم كانوا
أكثر انتماء للمصالح التجارية والحضرية الصناعية، ولهذا كان داعميهم يتركزون غالبا
في الولايات الشمالية الشرقية.
لكن مع مرور الوقت، فقد حزب
الفيدراليين تدريجيا تأثيره في الحياة السياسية الأمريكية، وتفرّق أنصاره واندثر
ككيان مستقل ومنافس للآخرين في النهاية، مما ترك حزب الديمقراطيين/الجمهوريين كقوة
سياسية ووحيدة مهيمنة على الحياة السياسية، وذلك إلى أن عانى بعدها حزب
الديمقراطيون/الجمهوريون أيضا من انقسامات داخلية خطيرة، وفي منتصف القرن التاسع
عشر تقريبا، تحول تدريجيا إلى ما يسمى اليوم بالحزب الديمقراطي، والذي استمر في
التطور وتكييف توجهه على مرّ السنين، بحيث وصل إلى أفكار ومبادئ وتصورات خاصة به
تميزه عن الحزب الآخر (الحزب الجمهوري).
هذا وفي نفس الوقت تقريبا، أي في
منتصف سنوات القرن التاسع عشر 1850م، ظهر حزب سياسي جديد يعرف باسم (الحزب
الجمهوري)، وذلك بهدف رئيسي وهو معارضة انتشار الرق (العبودية) في أقاليم الولايات
الجديدة، حيث جذب هذا الحزب (الجمهوري) تحالفا من النشطاء المعارضين للرق، وأعضاء
سابقين في حزب الأراضي الحرة، وبعض من القادة والأفراد الشماليين، وهكذا نما الحزب
الجمهوري تدريجيا في النفوذ، وأصبح في نهاية المطاف واحدا من الأحزاب السياسية
الرئيسية في الولايات المتحدة، وتنافس غالبا مع حزب الديمقراطيين.
وهكذا تطورت بعدها ديناميات نظام
الحزبين في أمريكا مع مرور الوقت، وذلك من خلال التعاطي مع مختلف القضايا
والأيديولوجيات التي كانت سائدة في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي بدورها شكلت
منصات لاجتذاب الجماهير (المصوتين) لكلا الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، وهذا على
الرغم من أن بعض الأفكار والأيديولوجيات داخل كل حزب، والقضايا وأولويات كل حزب قد
تحولت مع مرور السنين إلى النقيض، إلا أن الهيكل الأساسي لنظام الحزبين الثنائي قد
بقي ملامحا مميزا للسياسة الداخلية الأمريكية.
هذا وقد أبرز السياق التاريخي تحول
حزب الجمهوريين من أصوله الأقل تحفظا إلى أصول أكثر تحفظا، وخصوصا بعد الحرب
الأهلية التي حدثت داخل الولايات المتحدة في الفترة من عام 1861م إلى 1865م، كما
وتحول الحزب الديمقراطي من موقف أكثر تحفظا إلى موقف أكثر تقدما وأقل تحفظا،
وخصوصا بعد قانون حقوق الإنسان المدنية أثناء رئاسة (ليندون . ب . جونسون)، كما أن
الطيف داخل كل حزب، وذلك من المعتدلين والمحافظين والليبراليين والعناصر اليسارية
أو اليمينية المتطرفة، أكدت أن الأصوات المتطرفة في كل حزب غالبا ما تكون هي
القوية والمتصدرة (ليست الأغلبية دائما)، وذلك من باب أنهم هم الذين يصدرون الضجيج
الأكبر (الصوت الأعلى)، بحيث يشعروا الآخرين بأن أصواتهم في الحزب هي الأكثر عددا
وتتغلب على كل المنافسين، ولكنهم في الواقع والحقيقة هم أقلية نسبيا، حيث أنهم لا
يحققون نجاحا كبيرا في الانتخابات كما هو متوقع منهم.
كما ويذكر في هذا السياق أن الحزب
الجمهوري عموما شهد تمردات متعددة ضد قيادته، والتمرد كان يأتي غالبا (دائما) من
اليمين المتطرف، حيث إن اليمين المتطرف هو الذي يتمرد ضد القيادة وغالبا ما يطيح
بها، أما بالنسبة للحزب الديمقراطي فإن التمرد غالبا كان يأتي من الوسط، وذلك لأن
اليسار يعلم أنه ضعيف نسبيا وغير قادر على التمرد في المقام الأول، ومع ذلك تبقى
هذه التحولات ليست ثابتة في ديناميات الأيديولوجيات السياسية في داخل الأحزاب
الديمقراطية والجمهورية، والتي تؤثر فيها العوامل التاريخية والديموغرافية
والثقافية والاجتماعية، فمثلا كانت ولاية تكساس تاريخيا ديمقراطية ولكنها أصبحت
جمهورية مع تقدم الزمن، وبالمثل كانت ولاية كاليفورنيا تنافسية للجمهوريين ولكنها
أصبحت أكثر ديمقراطية مؤخرا.
هذا وهناك تأثير للعوامل الجغرافية
على تفضيلات الأحزاب، حيث تميل المناطق كثيفة السكان نحو اليسار والمناطق قليلة
الكثافة نحو اليمين، كما ويظهر هذا النمط نفسه عبر الولايات، حيث تصوت المناطق
الحضرية عموما للديمقراطيين والمناطق الريفية للجمهوريين، إضافة إلى أن هناك أيضا
تأثير لمجموعة من العوامل الأخرى على تفضيلات الأحزاب، وذلك مثل العمر والجنس
والتعليم والدين والقيم الاجتماعية والثقافية، حيث أن الأجيال الأصغر سنا عادة
تميل نحو الديمقراطيين بسبب الأفكار التقدمية للحزب، بينما يميل الأفراد الأكبر
سنا وأولئك الذين لديهم شهادات مهنية عادة نحو الجمهوريين بسبب القيم الاقتصادية
المحافظة نسبيا، حيث أن الرسالة الجمهورية ترتكز غالبا على النظرة التقليدية
والمحافظة للحزب، كما وتركز على تضخيم القضايا المثيرة للجدل لتحفيز القواعد
الانتخابية، وهذه الطريقة قد تكثفت في السنوات الأخيرة، والتي تستهدف جذب الناخبين
من خلال استراتيجية التركيز على الصراعات الثقافية المنبثقة عن القضايا
الاجتماعية، والتي بدورها تحذر من انتشار الخوف والتقسيم والفوضى في البلاد، كما
أن وسائل التواصل الاجتماعي مؤخرا قد زادت من تأثيرات الرؤى السلبية والمخاوف بين
الشبان والناس بشكل عام، إضافة إلى تأثيرات نمو الاقتصاد والقضايا المعيشية
والبيئية وكيفية تأثيرها على المستقبل، وتطور القوى العالمية وأثرها على المشهد
الدولي وتأثيرها المحتمل على الولايات المتحدة.
لكن الجدير بالذكر هنا أنه وبالرغم من
التفاعل المعقد بين الأحزاب السياسية، والقضايا الاقتصادية الاجتماعية، والعوامل
الديموغرافية، والقيم الاجتماعية والثقافية داخل الولايات المتحدة، والتي يمكن من
خلالها تحليل طبيعة المشهد السياسي السائد وديناميات الأحزاب، والمرشحين وفرصهم في
الفوز، وسلوك الناخبين، والنتائج المحتملة للانتخابات، والسيناريوهات المحتملة
للمستقبل، إلا أن السيطرة التاريخية للرجل الأبيض في احتلال معظم المناصب الحكومية
وصولا إلى رئاسة الولايات المتحدة، مازال يعكس الطابع التقليدي (العنصري)،
والتغيير بوتيرة أبطأ مقارنة ببقية الدول الغربية للحياة السياسية الأمريكية.
أخيرا من المهم أن نلاحظ أن توقع النتائج السياسية للانتخابات الأمريكية غير مؤكد دوما، حيث تلعب العديد من المتغيرات أدوارا مختلفة في تغيير الديناميات، والتي يمكن أن تتأثر بآراء الجمهور المتباينة، والعوامل الاقتصادية، والأحداث العالمية، والتطورات الغير متوقعة جميعها في مسار الانتخابات والحكم اللاحق للبلاد، مما يجعل أن هناك انقساما داخليا دائما في الحكومة والأحزاب والمعارضة، والذي بدوره يخلق تحديات تواجه تمرير السياسات والتشريعات للحزب الفائز، والذي قد يمتد إلى التأثير المحتمل لانقسامات داخل نفس الأحزاب الحاكمة، وذلك من خلال تكوين الكونغرس والتعينات الحكومية والفيدرالية، والصعوبات المحتملة الناتجة عنها في تمرير كل التشريعات المطلوبة وإدخالها حيز التنفيذ في السنوات اللاحقة.