إشكالية الحب والكره لأردوغان وحزبه ومشروعه ونهجه
لقد فهم الرئيس
التركي، رجب طيب أردوغان، جيدا أهم وأبرز النظريات الاستراتيجية الغربية للوصول
إلى السلطة وممارسة الحكم، وذلك قبل أن يقدم نفسه كرجل سياسي، محافظ دينيا أو
إسلامي جديد، بحيث طبق أفكار ومبادئ هذه النظريات السياسية عمليا وبعبقرية نادرة
حتى مع انتباه أعدائه وخصومه ومحاولاتهم الدائمة للإطاحة به، وذلك كله في سبيل أن
يقبله الغرب ليحكم دولة مهمة مثل تركيا، بدلا من النظام القومي والعلماني الذي
كانت تحكم به منذ سقوط الخلافة العثمانية.
أردوغان أعلن
نفسه نظريا أنه سياسي علماني، رئيس وزراء وبعدها رئيس لجمهورية
علمانية تقدس أتاتورك، لكنه مارس عمليا وضمن حدود الممكن الإسلام، وتحول إلى حد ما من الحلم الأوروبي لتركيا إلى الواقع الإسلامي، وهذا ما جعل ملايين المسلمين يقدرونه ويبجلونه، لأنه أشعرهم بالفخر الضائع وسدّ بعض
الثغرات منذ غياب الخلافة عن بلاده والأمة الإسلامية جمعاء، وذلك مقارنة بباقي
القادة العرب والمسلمين الذين يرفعون شعارات الإسلام فقط لكسب شرعية سلطة الحكم،
وأثناء الممارسة يتم تحطيم الإسلام بالقوة والظلم والنهب، كما وأن بعضهم لا يرفع
شعارات الإسلام أصلا، بل يحارب الدين علانية وفي وضح النهار دون أية مواربة أو
خجل.
النظام التركي
لا يزال يمثل ديمقراطية علمانية لا يوجد فيها شخص أو حزب فريد من نوعه، وكان
أردوغان ولا يزال يتحرك ضمن هذا الهامش المتاح له، والكثير للأسف مازال لا يفهم أو
يستوعب أن قسما من الجيش والمخابرات والحكومة والإعلام ورجال الأعمال والشعب في
تركيا ضد الرئيس نفسه وحزبه، كما وسيظلون ضده وخارج سلطته حتى بعد تعديل النظام من
برلماني إلى رئاسي، وحتى بعد أي تعديل دستوري آخر ينجح فيه أردوغان وحزبه، كما ولن
يوجد أي يساري علماني في تركيا أو خارجها إلا وسيدين مشروع أردوغان ذو الطابع
الإسلامي الواضح، ولهذا فإن هناك صراع شبه يومي بين أردوغان وحزبه من جهة، وبين
خصومه العلمانيين في الداخل وفي الخارج.
الغرب حذر ويحذر
دائما وصراحة من قدوم السلطان أو الرئيس الإسلامي أردوغان، وكأن عاصمة الخلافة
العثمانية كانت كافرة واليوم أتى رئيس مسلم لأسلمتها، وذلك رغم أن أردوغان يعلن
دائما أنه علماني، ولكن بحكم صفاته وأفعاله واهتمامه بالأمة الإسلامية، مقارنة
بالحكام الآخرين على الأقل، يسارع أحباؤه وأعداؤه لإطلاق هذه الألقاب عليه، ثم
يحكمون عليه بناء على ذلك، طبعا قد يكون الخيار الأنسب للشعب التركي، حزب العدالة
والتنمية وأردوغان، إلا أن هذه التجربة مطلوبة للبقاء في تركيا وعدم نقلها من
الحركات الإسلامية وتعميمها في أي دولة عربية أو إسلامية أخرى، وذلك حتى لا تجرؤ
شعوب هذه الدول على الانتفاضة والقيام بالثورات لإسقاط أنظمتها وانتخاب أمثال
أردوغان وحزبه.
ولهذا أيضا
انطلقت غيرة السعودية وإيران من أردوغان وحزبه، وذلك لأنه دخل على الخط منافسا
جديدا وقويا لقيادة العالم الاسلامي، ولم توفر وسائل الإعلام الإيرانية على وجه
الخصوص فرصة لانتقاد طموح أردوغان العثماني، وكأنها تتذكر العداء التاريخي بين
الشيعة الصفويين والدولة العثمانية السنية، ولهذا السبب كانت وسائل الإعلام
السعودي أيضا تنتقد أردوغان وحزبه للمنافسة على الزعامة الإسلامية، إلا أنها وفي
الوقت نفسه كانت تهب لنصرة ومساعدة تركيا في مواجهة إيران العدو بالنسبة لها.
النقطة الرئيسية
التي يركز عليها المنتقدون لأردوغان ومشروعه، خاصة من الإسلاميين باختلاف مذاهبهم
وتوجهاتهم، هي علمانية أردوغان وحزبه كما يبدو، وهذه المواقف المتشابهة والمشتركة
للإسلاميين العرب المنتمين وغير المنتمين إلى السلطة، هي بسبب أنهم يفكرون بنفس
العقلية ويجمعون نفس الحجج، حيث ينبع الكثير من نقدهم من خلفيتهم السياسية
والاجتماعية والثقافية في بلدانهم، والتي برمجت عقولهم على أن الحاكم هو الوحيد
الذي يسيطر على كل شيء في البلد، وذلك كما هو الحال للأسف في مزارع الحكام العرب
التي تسمى أوطاننا، وهؤلاء لا يستوعبون أن الحكومة الديمقراطية
المختلطة في تركيا، والتي لا يسيطر عليها أردوغان وحده ولا حزبه بشكل كامل، لا
يمكن أن تقوم بتغيرات وتحولات جذرية في المجتمع التركي دون أن تسقط أو يتم
تغييرها، ومن يعتقد غير ذلك فهو قاصر الفهم للسياسة ولمبادئ سلطة الحكم في الأنظمة
العلمانية السائدة في العالم اليوم.
المطلوب من
هؤلاء المنتقدين أن يقدموا لتركيا نموذج فكري، وبديل سياسي ناضج،
وقابل للحياة ومستداما، وأولا وأخيرا قابل للتطبيق، أما الطلب من أردوغان وحزبه
التحول إلى حاكم إسلامي وتطبيق الشريعة في الحكم، فإن هذا في السياسة يسمى
بالإصلاح والتغيير الجذري، وهذا المفهوم في نظري عاطفي وغير واقعي، كما أن أردوغان
لا يملك القوة الكافية، داخليا وخارجيا ليكون كذلك، وهؤلاء أصلا لن يكتفوا بذلك حتى لو اتبع دينهم، حيث سيصفقون له في البداية وعندما
تدخل تركيا في حرب أهلية أو يطيح الغرب بأردوغان، لن يندفع أحد من هؤلاء لإنقاذه
وإنقاذ البلاد.
ولهذا فإن هؤلاء
المنتقدون لأردوغان وعلى رأسهم بعض المشايخ، ما زالوا ينددون به لأنه لم يغلق بيوت
الدعارة ولم يمنع الشذوذ، كما ولا يمنع هؤلاء من التظاهر وتنظيم أنفسهم، وهذا طبعا
يعني بالنسبة لهم أنه موافق عليهم ومساند لهم، وبنفس المعنى يمكننا القول إن سماحه للمعارضة بالوجود وتنظيم الأحزاب والتظاهر
دليل على موافقته عليها، وهذا غير صحيح، بل إن المبرر القانوني لذالك كله هو مبدأ
علمانية الدولة، والتي يمثلها أردوغان وحزبه ويعمل من خلالها، إلا أنه في الوقت
نفسه يعمل على استبدال مظاهر (الزنا واللواط) بمظاهر الحجاب والمدارس الدينية
والمساجد، حتى أن تقارير إعلامية غربية تقول حرفيا أن الجماعات الشاذة (المثلية)
تشتكي من تقويض حقوقها في ظل حكومة أردوغان وحزب العدالة والتنمية.
أما بالنسبة
للمنتقدين من الجماعات التابعة للسلطة في البلاد العربية، فالأمر أبسط وأسهل عليهم،
وذلك لأن هؤلاء ينتظرون فقط التعليمات إلى أين توجههم، ومن هنا يمكن أن نفهم مثلا انتقاد بعضهم لحالة الطوارئ التي فرضها أردوغان على
بلاده بعد محاولة الانقلاب في تموز 2016، وتحسرهم على تقييد حرية التعبير
السياسي، وهذه الكلمات للمفارقة مكتوبة من أشخاص داخل دول لا تعرف الحرية
والبرلمانات والأحزاب، وتعتبر المعارضة فاحشة قد تؤدي إلى الكفر، وهؤلاء سوف يبقون
يطالبون أردوغان وحزبه بالتغيير، وهم لن يغيروا مواقفهم مهما فعل، ويكفيهم فقط ولي
أمرهم أن يغير رأيه وينتهي الموضوع، ويعود أردوغان وحزبه أبطال الوطن، كما وسيقرعون طبول الحب والمودة له ولحزبه ولتركيا، وذلك لأن الحق والحقيقة بالنسبة لهؤلاء هي مع ولي الأمر دائما، حيث يتناوبون
معه أينما استدار وولى وجهه.
ما سبق ذكره كله لا يمنع أبدا من انتقاد أردوغان
وحزبه ونهجه، حيث أن هناك اتهامات له بالمساهمة في تدمير سوريا بحجة القضاء على
النظام فيها سابقا، وذلك من خلال تسليح المعارضة وإيواء وتدريب عناصرها، إضافة إلى
تسهيل مرور المقاتلين إليها باسم الجهاد في سوريا، وهو الذي يدعم الثوار والثورة
اليوم وساهم في إسقاط نظام بشار الأسد، ولا ننسى هنا الظلم وإراقة الدماء وقتل
المدنيين في العمليات العسكرية التي تخوضها تركيا ضد الأكراد في تركيا وشمال
العراق وسوريا، كما أن هناك اتهامات بأن الآلاف من أتباع الداعية فتح الله غولن قد
تعرضوا للظلم وتم تسريحهم من وظائفهم، لكن أنصار أردوغان يبررون كل ذلك بضرورات
الأمن القومي والسلم المجتمعي لتركيا.
كما ولا يمكننا تجاهل ميول أردوغان الاستبدادية، والتي ظهرت بوضوح في خلافه مع أصدقائه المقربين أمثال عبد الله جول وأحمد داوود أوغلو وهيكان فيدان وغيرهم، إضافة إلى انتقاد أردوغان أنه لا يوجد في حزبه من ينوب عنه أو يخلفه، وأنه لم يخلق القادة الذين يمكن أن يثق بهم أنصاره، فالقائد الحقيقي هو الشخص الذي يصنع القادة أيضا ولا يقود نفسه فقط، لكن جنون الحب لأردوغان من أنصاره، يغمرهم ولا يجرؤون على اتخاذ مواقف لمعارضة ذلك، كما وأن أردوغان يصر دائما على خطاب المؤامرة في كثير من المواقف، وهذا صحيح برأيي لكن ليس إطلاقا، فعلى سبيل المثال هناك أخطاء هيكلية في الاقتصاد التركي، لكن أردوغان يركز فقط على انهيار الليرة بسبب الحروب الاقتصادية على بلاده، وليس على السياسات الخاطئة التي يتبعها هو وحزبه أيضا، ويمكن سحب ذلك على المجالات الأخرى من اجتماعية وثقافية ودينية وسياسة خارجية وغيرها.