مآلات تعدد محاولات تطبيق الشريعة في الدول واستعادة الخلافة الإسلامية
السياق السياسي في العالم بأسره اليوم
بالنسبة للمسلمين، وخاصة منذ الإطاحة بالخلافة العثمانية هو سياق علمانية متطرفة
ومعارضة للإسلام، كما أن موازين القوة في العالم باتت لغير المسلمين والعرب للأسف
وبهامش تفاضلي كبير، ولا حتى يقارن بالهامش التفاضلي في أيام الرسول صلى الله عليه
وسلم بين المسلمين وغير المسلمين، وذلك مع احتساب الاختلاف في التقدم الاقتصادي
والعلمي والتكنولوجي والعسكري، ولهذا فإن النظام العالمي القائم بقوته الساحقة لم
ولن يسمح للمسلمين بالخلافة وتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية بأي شكل من الأشكال،
وذلك مع الأخذ في الاعتبار أن النظر في هذا كله يتطلب معرفة كبيرة في التاريخ والجغرافيا
والسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع،
وليس فقط في علوم الدين والفقه الإسلامي، إضافة إلى معرفة خفايا المؤامرات
السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية من الآخر (عدو أو خصم أو
صديق) في هذا العصر، والخطط والتنظيم الذي يتمتع به هؤلاء في مواجهة الإسلام كدين
ودولة وأفراد، وأنهم أصحاب تاريخ وحضارة وخلافة إسلامية منذ القدم.
كل محاولات تطبيق الشريعة الإسلامية وبعدها استعادة الخلافة، تركزت على يد الإخوان
المسلمين والأحزاب التي تأسست على أساسها، أما المحاولات الأخرى فلم تقترب حتى من
التطبيق، حيث كانت وجهة نظرهم جميعا أن طريق ذلك يتم عبر أسلوبين متاحين، أولهما
هو طريق التعليم والدعوة لإقناع المجتمع بأكمله بضرورة العودة إلى الشريعة
والخلافة، وثانيهما هو طريق العمل من خلال السياسات الديمقراطية العلمانية
السائدة، وبعد وصول أصحاب هذه الدعوة للبرلمان والحكومة والسلطة يمكن البدء بعدها
بالتقدم لنشر الشريعة وتطبيق مبادئ الخلافة الإسلامية.
هذا ورأي جمهور
فقهاء العصر الحالي هو في مشروعية التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية في الدول
العربية والإسلامية القومية الحديثة، كما وقد تمت مشاركة الحركات والأحزاب
الإسلامية بالدول العلمانية والإسلامية في العمل السياسي ببلادهم على هذا الأساس،
وهكذا فإن كل من دافع عن سيادة الشريعة يقر بمشروعية التدرج فيها وأن ذلك ليس موضع
للاستنكار، حيث لا نزاع في التدرج في تطبيق الشريعة، وكل من انتصر لسيادة الشريعة
من أهل العلم والفضل أشار إلى مشروعية التدرج صراحة أو ضمنا، كما ولا نزاع أيضا في
لزوم الشريعة بالقدرة والإمكان، كما وأن حالات الضرورة الاستثنائية والظروف
القاهرة، لا تخرم مبدأ سيادة الشريعة بحال؛ وإنما قد ترفع الإثم عن التأخر الاضطراري
في إعلان تحكيم الشريعة والتدرج في تطبيقها.
وقد قال الفقهاء عن مسألة تطبيق
الشريعة بشكل تدريجي، أن هناك ثلاثة أنواع من التقدم، التقدم في التشريع، والتقدم
في الإبلاغ عن التشريع، وأخيرا التنفيذ التدريجي للتشريع، أي تطبيق الشريعة في
الحكم، والحكم بالشريعة بشكل تدريجي للحاجة إلى ذلك، كما وقال فريق من الفقهاء:
(إذا لم يتمكن الحاكم أو القاضي من تطبيق الشريعة على الفور، فعليه أن يطبقها
تدريجيا)، وهذا مبني على ثلاثة مبادئ إسلامية، أولها سقوط التكليف بالعجز وعدم
القدرة وامتلاك القوة، والثانية هي أهون الشرين، حيث يسمح بارتكاب أهون الشر إذا
كان الشر الأكبر لا يمكن إيقافه بخلاف ذلك، بمعنى إذا كان الحاكم يعتقد أنه إذا
نشر تطبيق الشريعة من شأنه أن يسبب الفوضى وسيسيطر العلمانيون مثلا، فلا بأس به أن
يرتكب أهون المنكر، وألا يطبق الشريعة إلا بالحد الأدنى العادل، ولا يسقط المشروع
كله، والثالثة هي العرض الأصح والأصلح عند التضارب بين مواقيت المصالح، فإذا عرض
على الحاكم أن شرور التقدم هي أكثر من شرور التأخير، فالأولوية للتأخير، وإن كان
التأخير أصلا ممنوعا دينيا، ولا شك أن التمايل والرجوع ليس من لا شيء، بل بحكمة
ونظريات علماء من خلفية دينية وفقهية معتبرة، إضافة إلى دراسة واقع الأحوال من
جميع الجوانب، داخليا وخارجيا معا، كما أن التأخير هنا ليس حالة عامة وعلى هوانه، بحيث
تجعل كل شيء أسهل وأيسر، بل إذا استطاع الحاكم أن يطبق الشريعة في حالة معينة
ويستفيد منها الأغلبية، فعليه التطبيق، وهنا يجب الانتباه إلى أن جواز التدرج لا
يسمح بالكذب والتزوير على الناس ليعتقدوا أنه الحق والعدل، ولكن يجب التوضيح لهم
وإفهامهم أن حكم الله تعالى وتشريعاته حق ولا غبار عليها، لكننا غير قادرين على
تطبيقها الآن، إلا إذا كان هذا التوضيح أيضا سيشعل المشاكل بشكل أكبر.
كما أن قاعدة
التدرج والرفق في التطبيق، مناطه الحكم بالشرع والشريعة، وليس رغبة الشعب وعدم
رغبتهم، فالسيادة للشريعة لا للأمة، وسيادة الأمة والشعب تابعة وخاضعة لسيادة
الشريعة، لا العكس كما يقرر أهل الأهواء، وهذه المسألة من مسائل الإجماع التي لا
يتصور الخلاف فيها، هذا ويقول الإمام ابن تيمية في التمييز بين قاعدة (التدرج)
وبين مبدأ (إرادة الشعب): (فليس حسن النية بالرعية والإحسان إليهم، أن يفعل ما
يهوونه ويترك ما يكرهونه، وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ولو
كرهه من كرهه؛ لكن ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه)، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: (والله إني لأريد أن أخرج لهم
المرة من الحق، فأخاف أن ينفروا عنها، فاصبر حتى تجيء الحلوة من الدنيا، فأخرجها
معها، فإذا نفروا لهذه سكنوا لهذه).
هذا ومع كل ما
تم ذكره فإن هناك مجموعة من الفقهاء لا تسمح بالتقدم ولا تسمح للقاضي أو الحاكم
بالاستيلاء على السلطة إلا إذا كان متأكدا من أنه سيحكم أثناء ذلك بتطبيق الشريعة،
وقناعة هؤلاء تقوم على العزلة والانكفاء عن السلطة والحكم، والعمل على الإصلاح العام
لحين تحسن الظروف، وهناك أيضا من الذين يفرقون بين العمل في السلطة التشريعية أو
التنفيذية أو القضائية، والمبدأ السائد بين المدنية العلمانية والدين في كل دولة،
إلا أنهم يمنعوا الحكم بالمثل العلمانية، ومنهم أصلا من يحرم العمل السياسي ويمنع
أو يحظر المشاركة في الانتخابات.
طبعا هناك
تيارات أخرى خارج التصنيف، مثل الطائفة التي تكتفي بالدعوة من خلال التعليم فقط،
والانفصال عن السياسة على أساس أنه عندما يكون المجتمع جاهزا، فإن الله تعالى سوف
يعين بنفسه خليفة أو يهيء الظروف لحكمه، وهناك من يرى أنه يمكنك المشاركة السياسية
في ظل ظروف قصوى وفي أقرب الحدود، وقد يسمح بالتقدم كمفهوم ولكن ليس لمدة الحكم أو
المشاركة في القاعدة السائدة في بلد لا يطبق الشريعة، وهؤلاء خطتهم تتمثل في إيجاد
رأي عام في الخلافة والخلفاء والشريعة من خلال الدعوة والتعليم، ثم تعيين خليفة في
الوقت المناسب وإيجاد من يحميه، ثم الإعلان عن الدولة والخلافة الإسلامية، ومعارضة
ومحاربة كل من يرفضها.
كما وهناك تيار
تنظيم الجهاد السلفي، وطبعا هم يحرمون العمل بالسياسة، وكثير منهم يكفر من يشارك
فيها، لكن هذه المجموعات تسرع في تعيين خليفة حتى لو لم تسمح الظروف بذلك، وأكثر
تساهلا مع العنف وتبريره، وأعتقد أن داعش هو الأكثر تطرفا في هذا التيار، لكن هناك
مجموعات أخرى من التنظيمات الجهادية كالقاعدة أعلنت أهدافها علنا فيما يتعلق
بالخلافة والجهاد، وهي أيضا جزء من هذا التيار، حيث تحاول عسكرة المجتمع وتنفيذ
العمليات والتفجيرات، والذي يتطلب منها درجة معينة من التآمر والتقوى للقيام بذلك،
حيث أن الأمر يتطلب حسب وجهة نظرهم معارك وحروب ضخمة، كما ومن علم هذه الجماعات أن
مبررات هذه الجرائم الجماعية وتدمير مدن بأكملها والتخلي عن الناس هو لعودة
الخلفاء والخلافة، لكن هذا المنطق لا يدوم طويلا عند مقارنته بالظلم الذي قد
يرتكبه التيار الأول عندما يستسلم للعلمانية مؤقتا، بمعنى أنه إذا كان قتل ونهب
الملايين من الناس مبررا للخلافة، فإن تطبيق العلمانية لفترة مؤقتة من الزمن يصبح
أيضا مبررا بل وأهون على العباد والبلاد.