مصالح فقه الموازنات بعد دخول المدينة المنورة
- الامتناع عن قتل المنافقين -
بهجرة الرسول
الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بدأت المرحلة المدنية، وهي
مرحلة الجهاد وبناء الدولة، ومرحلة إعلاء صرح الإسلام الحضاري، ونشر نوره في
الآفاق، وتحقيق سنة استخلاف الله تعالى لعباده الصالحين في الأرض.
هذا وفور وصول
النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة باشر بوضع اللبنات والأسس لهذه الدولة، وكان
البدء بالأمور التي تحظى بالأولوية وهي:
1- بناء المسجد
النبوي الذي يعد مركز الحكم والقضاء، والتوجيه العلمي والتربوي، ومركز بناء وإعداد
القادة، وكان لبناء المسجد أحقية السبق لأنه مصنع الرجال ومنار الإسلام.
2- إنشاء مجتمع
متماسك متحاب، وذلك عن طريق عقد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهذا الإنشاء
كان له حق الأسبقية والأولوية أيضا، لأنه لا يمكن بناء دولة متحضرة من مجتمع متفكك
متنافر.
3- وضع قانون
ودستور يحدد هوية الدولة الوليدة ومرجعيتها عند التحاكم والتقاضي، والقوانين التي
تحكمها، فالأمم المتحضرة هي التي تحكمها القوانين، ويخضع شعبها كله لقانون ينظمهم
في عقد واحد، ولقد تمثل ذلك في دستور المدينة المسمى بالصحيفة.
هذه هي أبرز الأولويات
التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم أسسا لدولته الناشئة، لتأتي بعدها المراحل
الأخرى من الدعوة والجهاد، ونشر الإسلام وتوسيع رقعة الدولة وغيرها، لكن من أهم
الخطوات التي اتخذت في المرحلة المدنية لبناء دولة الإسلام هي:
الامتناع عن قتل
المنافقين
يقول جابرا رضي
الله عنه: (غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى
كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا، فغضب الأنصاري غضبا شديدا، حتى
تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فخرج النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى أهل الجاهلية؟. ثم قال: ما شأنهم؟. فأخبر بكسعة
المهاجري الأنصاري، قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها خبيثة، وقال
عبد الله بن أبي ابن سلول: أقد تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز
منها الأذل. فقال عمر: ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث لعبد الله، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه.
ولما توفي ابن أبي،
جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه و،سلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن
فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي
عليه، فاعترضه عمر – رضي الله عنه – وحاول منعه وقال له: إنه منافق، فلم يستجب له
النبي وصلى عليه.
إن في قتل رسول
الله صلى الله عليه وسلم للمنافقين مصلحةً كبيرة، تتمثل في التخلص من الطابور
الخامس الذي يعكر على المسلمين صفو حياتهم، وتطهير للصف المسلم من عناصر التخذيل
والإفساد، وفيه إعزاز للدين بقمع الكفر، ولكن هذه المصالح ستؤدي إلى مفاسد عظيمة
تربو عليها، فالكف عنهم يدرأ هذه المفاسد التي من أعظمها هزّ الثقة بالمسلمين وزرع
قالة السوء عنهم، حيث سينتشر بين الناس أن محمدا يعامل معتنقي دينه بالقتل
والتصفية الجسدية، فالتغاضي عن قتلهم هو الأولى لما يحقق من مصالح تربو على مصلحة
استئصالهم، لذا اقتضت حكمة الرسول دفع المفسدة الكبرى بارتكاب المفسدة الصغرى، أو
التخلي عن المصلحة الصغرى، تحقيقا للعديد من المصالح والتي منها:
1- درء السمعة
السياسية والإعلامية السيئة التي ستشاع عن الرسول ودعوته، فالفرق كبير جدا بين أن
يتحدث الناس عن حب أصحاب محمد لمحمدا، وبين أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه،
ولا شك أن وراء ذلك محاولات ضخمة من العدو للدخول إلى الصف الداخلي في المدينة،
بينما هم يائسون الآن من قدرتهم على شيء أمام ذلك الحب وتلكم التضحيات.
يقول ابن قيم
الجوزية رحمه الله في ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين
مع كونه مصلحة، لئلا يكون ذريعةً إلى تنفير الناس عنه، وقولهم: إن محمدا يقتل
أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، ومن لم يدخل، ومفسدة
التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل).
2- الحفاظ على
وحدة الصف المسلم، وذلك لأن لابن أبي أتباعا وشيعةً مسلمين مغرورين، ولو فتك به
لأرعدت له أنوف، وغضب له رجال متحمسون له، وقد يدفعهم تحمسهم له إلى تقطيع الوحدة
المسلمة، وليس في ذلك أي مصلحة للمسلمين ولا للإسلام، وإنها لسياسةٌ شرعيةٌ حكيمةٌ
رشيدة في معالجة المواقف العصبية في حزم وقوة أعصاب وبعد نظر.
3- كما أن في
العفو مصلحة شرعية، وهي تأليف قلوب قومه وتابعيه، فقد كان يدين له بالولاء فئة كبيرة
من المنافقين، فعسى أن يتأثروا ويرجعوا عن نفاقهم ويعتبروا ويخلصوا لله ولرسوله،
ولو لم يجب ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سبة وعارا على ابنه
وقومه، فالرسول الكريم اتبع أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهي فانتهى.
هذا ولقد كان
لتسامح الرسول صلى الله عليه وسلم مع رأس المنافقين أبعد الآثار فيما بعد، فقد كان
ابن أبي ابن سلول كلما أحدث حدثا كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه ويعرضون
قتله على النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول يأبى ويصفح، فأراد رسول الله أن يكشف
لسيف الحق عن آثار سياسته الحكيمة، فقال: كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم
قلت لي لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم لقتلته، فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري.
4- إكرام ابن
عبد الله بن أبي المسلم الصادق وعدم فتنته عن دينه بفعل ما قد يخدش شعوره ويهز
علاقته بإخوانه المؤمنين، لذلك رأيناه هو نفسه يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ليقول له: يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي ابن سلول فيما بلغك عنه، فإن كنت
فاعلا، فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل
أبرّ بوالده مني، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى
قاتل أبي يمشي بين الناس، فأقتله، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا.