الحق بالشماتة من الخصوم في الحروب بين النقاش الأخلاقي والسياق الاستراتيجي
- أهمية التفريق بين المشاعر الفطرية والأحكام الشرعية -
تعد القضية المتعلقة بالمشاعر المختلطة والمتناقضة التي ترافق الأزمات والحروب، أحد المسائل المعقدة التي تثير العديد من التساؤلات بين أبناء الأمة العربية والإسلامية، وهي مسألة تتجلى في الوقت الحالي بشكل واضح في السياق الحربي والسياسي الذي يجري في المنطقة العربية، خاصة في غزة فلسطين ولبنان وسوريا، حيث أن هذه المشاعر أصبحت تتباين بين مشاعر الشماتة والفرح، أو على النقيض منها من مشاعر الحزن والأسى تجاه ما يحدث.
الكثير من الناس يشعرون بالفرح اليوم حين تشارك جماعات إسلامية أو مقاومة مثل حماس والجهاد وحزب الله في قتال الاحتلال الإسرائيلي، وذلك لأن هذه الجماعات تسهم في التخفيف من معاناة الفلسطينيين في غزة وفلسطين المحتلة عامة، ومع ذلك، يبقى هذا الفرح قضية نسبية تعتمد على السياق والحالة، فالفطرة تقتضي أن يشعر المسلم بالفرح حين يرى من يقاتل الظلم والاحتلال، ولكن في الوقت نفسه لا يجب أن يُنسى أن هناك جوانب أخرى تتعلق بعقائد وأفعال هذه الجماعات، خاصة فيما يتعلق بمواقفها وأفعالها الأخرى.
مؤخرا ومع اشتعال فتيل الحرب في لبنان وسقوط بعض قادة حزب الله قتلى، ظهرت مشاعر الفرح بين بعض العرب والمسلمين، وخاصة من المكون السني، فمثلا بالنسبة للعديد من السوريين الذين عانوا من وحشية المليشيات التابعة للنظام الإيراني (حزب الله)، وتعرضوا لظلم كبير من حزب الله وداعميه خلال الصراع في الثورة السورية، يشعرون بمشاعر مختلطة، منها الفرح والشماتة بأن حزب الله يتعرض لهجمات من قبل العدو الصهيوني، والذي قد يكون شعورا طبيعيا بالنسبة لهم، إذ يرون في ذلك نوعا من الانتقام الإلهي ممن ظلمهم، كما يرى هؤلاء أيضا أن دماء أبنائهم وأهلهم ليست أقل قيمة من غيرهم، وأن أولئك الذين قتلوهم وقتلوا المدنيين عموما لا يمكن أن يغسلوا أيديهم من هذه الدماء، ولكن حتى هذا الفرح لا يخلو من التعقيد، وذلك لأن الذي يضربه اليوم هو عدو مشترك، مما يجعل المشاعر متناقضة ما بين الفرح بالانتقام والحزن لضعف جبهة المقاومة ضد إسرائيل.
هذا ورغم وقوفنا بجانب كل أشكال المقاومة ضد الكيان الصهيوني في المنطقة، يجب أن نتفهم أيضا شعور الآخرين ممن دفعوا ثمنا باهضا، دما وهدما وتهجيرا من بعض فصائل المقاومة في بلدانهم، ولا نقلل منه أو نحتقره، ولهذا حين يشعر طرف ما بالفرح والشماتة تجاه مكون يعتبره ظالما له، خاصة بعد أن يتعرض هذا الظالم لضرر ولو كان من قبل عدو مشترك، فإن هذه المشاعر تكون مفهومة وإن كانت لا تخلو من التعقيد، فمن الطبيعي من المنظور الفطري البشري، أن يشعر من ظلم بالفرح حين يرى ظالمه يتعرض للإيذاء أو الضعف، لكن هذه المشاعر وإن كانت فطرية، يجب ألا تتجاوز أيضا حدا معينا يجعل الشخص يتبنى مواقف ولاء وبراء غير متوازنة، ولهذا ينبغي التفريق هنا بين المشاعر الفطرية وبين الأحكام الشرعية التي قد تفرض على المؤمن أن يكون أكثر توازنا.
الأمور المتعلقة بالتحالفات السياسية والعسكرية تختلف عن الولاءات القلبية والعقدية، كما أنه من الممكن أن تتقاطع المصالح بين الأمة العربية والإسلامية (السنية)، وجماعات مثل حزب الله أو دول مثل إيران (شيعية) في سياق مقاومة العدو المشترك، لكن ذلك لا يعني بالضرورة تبرير أفعالهم أو التغاضي عن عقائدهم التي تتضمن أخطاء وبدعا من وجهة نظرنا، فالتحالف لتحقيق مصالح الأمة العربية والإسلامية لا يجب أن يؤدي إلى تمجيد المتحالف معه أو منحه الشرعية الدينية في كل الأحوال.
هذا وغالبا ما يتولد النقد حول هذه الأفكار والمشاعر المتضاربة في الصراعات الإقليمية من ردود فعل عاطفية تتجاهل الواقع المعقد، كما إن تجاهل هذه الحقيقة أو اعتبارها مجرد مبالغات عاطفية قد يؤثر سلبا على فهم الصورة الكاملة، فمثلا الكثيرون اليوم يرون أن الشماتة بقتلى حزب الله والمليشيات التابعة لإيران في سوريا ولبنان مبررة أخلاقيا، حتى لو كان من يقتلهم هو عدو آخر، فحزب الله الذي كان ينظر إليه كرمز للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، انخرط في الحرب السورية، وقتل المدنيين تحت ذرائع طائفية، مما أفقده الكثير من الدعم الشعبي الذي تمتع به سابقا في العالم العربي والإسلامي، وهنا لا يمكن أبدا إنكار أن دماء السوريين ليست أقل قيمة من غيرهم.
ولكن في هذا السياق يصبح من الضروري النظر إلى القضية بشكل شامل يتجاوز الأحداث الراهنة، مع استعادة السياق التاريخي لفهم المعادلة الأوسع التي تواجه الأمة العربية والإسلامية، بحيث يبقى الحق الأخلاقي للشماتة مطروحا داخل نطاق النقاش الأخلاقي، إلا أن النقاش حول جدوى هذه الشماتة في السياق الاستراتيجي الأوسع أمر مختلف تماما، حيث أن البعض يرى أن الاحتفاء بمقتل خصوم سياسيين أو عسكريين قد يساهم في تعميق الانقسامات الطائفية ويعقد الصراع في المنطقة، ولهذا فإنه على المستوى الاستراتيجي، يفضل بعض المحللين التركيز على الصورة الأوسع والبحث عن سبل للتعايش وتحقيق الاستقرار بدلا من التشفي والانتقام.
كما أنه في خضم هذا الصراع المعقد في منطقة الشرق الأوسط، يعتمد بعض الأطراف للأسف على خطاب شعبوي يتغذى على المشاعر والاحتقان الطائفي، وهذا الخطاب غالبا ما يكون موجها لشريحة من المجتمع لا تهتم بتحليل القضايا السياسية بشكل عميق، أو قراءة التاريخ والمشاريع الاستراتيجية للقوى الكبرى، أو حتى الفهم الكامل لمصالح القوى المحلية والإقليمية والدولية، وهؤلاء يتبنون مواقف حادة وسريعة تعتمد على الانفعال بالأحداث اليومية، وذلك دون النظر إلى التبعات البعيدة المدى لهذا الخطاب، وهناك أيضا من يقف في وسط هذا الصراع، محاولين التوازن بين طرفين يتبادلان الاتهامات بالتبعية لإيران أو التآمر مع إسرائيل، وهؤلاء لا ينحازون لأي طرف بشكل كامل، ويرون أن كلا من الطرفين ظالم ومخطئ أخلاقيا وسياسيا باختلاف الساحات بينهما، ومن هذا المنظور يعتقدون أن الحل يكمن في الابتعاد عن المصالح الضيقة لكل طائفة أو جماعة والتركيز على المصالح الأوسع التي تخدم استقرار المنطقة ككل.
هذا ومن المهم أن نشير أخيرا إلى أن عدم المشاركة في موقف ما لا يعني بالضرورة الموافقة عليه كاملا، كما أن الموافقة على بعض القضايا لا يعني أيضا التأييد الكامل لكل تفاصيلها، ولهذا فإنه فيما يتعلق بفرح البعض أو شماتتهم بما يحدث لجماعات مخالفة لهم مثل حزب الله وغيره، لا يجوز اعتبار هذا الفرح ولاء للعدو الصهيوني أو خيانة للقضية الفلسطينية، فهذا الفرح نابع من الألم الناتج عن الظلم الذي تعرض له طيف من هؤلاء في سوريا والعراق من قبل هذه الجماعة، كما ومن المهم أيضا أن نتفهم أن الحزن الذي قد يشعر به البعض لما يحدث في لبنان أو لفقدان حزب الله لقادته وقواته لا يعني بالضرورة تبريرا لأفعاله في دول أخرى، أو حتى تقليلا من شأن انحرافه العقدي، وهذا الفهم يمكن أن يساعد في تهدئة التوترات وإيجاد مساحات للحوار والتفاهم بين الأطراف المختلفة، كما أن إساءة الظن بكل هؤلاء وإسقاط مشاعرهم لا يعدو كونه عبئا إضافيا لا جدوى ولا طائل منه.