قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

نشر الشهوانية والإلحاد من خلال المفاهيم النفسية الحديثة

نشر الشهوانية والإلحاد من خلال المفاهيم النفسية الحديثة

- تحقيق الذات بين فرويد وماسلو -

يمثل سيغموند فرويد نموذجا صارخا للتناقض بين تنظيره وحياته الشخصية، وهو الذي يعتبر الأب المؤسس لعلم النفس التحليلي الذي أُحيط بهالة من القداسة دون أدلة علمية قاطعة، إذ كان مدمنا على الكوكايين قبل أن يقلع عنه ويتحول إلى الخمر، كما عانى من اضطرابات سلوكية وحياة جنسية غير مرضية باعترافاته هو شخصيا، إضافة إلى أنه كان يشعر بالامتعاض تجاه زوجته بسبب كثرة إنجابها، حيث كان له منها ستة أولاد، فلجأ بعدها إلى سلوكات غريبة وشاذة في حياته، إذ أقدم على علاقة محرمة مع أخت زوجته لسنوات طويلة واعتباره ذلك "علاقة طبيعية"، بل وتجاوز ذلك إلى الدعوة إلى تحطيم "تابو زنا المحارم" بزعم أنه شرط لتحقيق السعادة والتحرر النفسي!


فهذا الرجل الذي عاش حياة حافلة بالانحلال الأخلاقي من إدمان المخدرات إلى العلاقات المحرمة، هو نفسه الذي وضع منظومة مصطلحات نفسية فريدة شكلت قاموسا نظريا خاصا به، ومن أبرز تلك المصطلحات: "الهو" و"الأنا" و"الأنا العليا" و"اللاشعور" و"اللاوعي" أو ما يُعرف بالعقل الباطن، بالإضافة إلى مفهوم "العقدة" و"الكبت الجنسي" وغيرها، والتي أصبحت أركانا أساسية في مدرسته التحليلية، كما أنه صاحب النظرية الإشكالية التي تُرجع كافة السلوكيات الإنسانية إلى جذورها في مرحلة الطفولة المبكرة (حتى سن الخامسة)، مع تركيز مفرط على البُعد الجنسي؛ حيث ادعى أن أنشطةً مثل الرضاعة، والتعلم المبكر للذهاب إلى الحمام، بل وحتى مشاعر الطفل تجاه أمه، تحمل في طياتها دوافع جنسية كامنة تشكل الشخصية لاحقا، مع إرجاعه كل المشكلات النفسية للأفراد إلى "إساءات الطفولة".


كما ولقد أسس فرويد رؤيته الفلسفية على اعتبار أن علم النفس بديلا عن الدين، حيث كان فرويد يهودي الأصل، لكنه كان ملحدا معاديا للأديان بشكل صريح، فكان يكن كراهية لسيدنا عيسى عليه السلام وللدين المسيحي وللكنيسة وللمتدينين عامة، كما ولم يكن إلحاده سلبيا، وتجلى ذلك في مؤلفاته مثل "موسى والتوحيد" و"مستقبل وهم" والتي خصصهم لنقد مقومات وتجليات الشخصية الدينية، وهو ما يثير تساؤلات عميقة حول مدى مصداقية نظرياته التي أصبحت حجر أساس في العديد من المفاهيم النفسية الحديثة، رغم ما تتسم به من نزعة إلحادية وتركيز مفرط على الجانب الجنسي.


هذا وكان فرويد قد أكد أيضا أن الإنسان هو مصدر الأخلاق، وهو ما يجعله يستغني عن أي مرجعية دينية أو حتى ثقافية أيا كانت، داعيا إلى أن يكون الفرد مرجعية نفسه الأخلاقية ويعمل على تحقيق ذاته، وهي الفكرة التي تبلورت لاحقا في "هرم الاحتياجات" الذي وضعه ماسلو وأصبح مقدسا في كل دورة تدريبية في التنمية البشرية وعلم النفس الإنساني، حيث جعل تحقيق الذات قمة الهرم، مستمدا ذلك من الفلسفات الإنسانية التي تضع الفرد في مركز الكون، وقد انتشرت هذه المقولة على نطاق واسع حتى صارت تردد على ألسنة العامة بكثافة، وذلك من غير وعي بجذورها الفكرية المباينة للمنظور الديني التقليدي.


يشكل "هرم الاحتياجات" لأبراهام ماسلو - رئيس جمعية علم النفس الأمريكية عام 1968 - أحد أكثر النماذج انتشارا في حقول علم النفس والإدارة والعلوم الاجتماعية، والذي يصنف الحاجات الإنسانية إلى خمس طبقات متدرجة تصاعديا، بحيث تبدأ بالاحتياجات الفسيولوجية الأساسية كالأكل والشرب، تليها حاجة الفرد إلى الأمان والحماية من المخاطر والكوارث، ثم الحاجات الاجتماعية المتمثلة في تكوين أسرة والانتماء إلى جماعة، فالحاجة إلى التقدير والمكانة بين الناس واحترام الذات، وتأتي في قمة الهرم الحاجة إلى تحقيق الذات وهي أعلى مراحل تطور الشخصية الإنسانية.


المفارقة أن ماسلو نفسه قد اعترف بضعف السند العلمي الرصين لنظريته وافتقارها للأدلة العلمية الكافية، كما وقد اعترف في أواخر حياته بأن جميع نظرياته تحمل في جذورها آثارا لكراهية أمه، الناجمة عن سوء معاملتها له في طفولته، ومع ذلك فقد انتشرت كالنار في الهشيم وخاصة مؤخرا عبر منصات التواصل الاجتماعي وبرامج التنمية البشرية، حيث يتم ترويجها باستمرار دون وعي بأصولها الإلحادية وهدفها الأساسي في نزع الشرائع السماوية واستبدالها بما يسمى "شرع تحقيق الذات"، وهو ما قد يتجلى أيضا في مقولة: "لا تقل قال الله أو قال الرسول، بل أنت فقط مصدر الأخلاق".


وتكمن خطورة هذه النظرية في تركيزها على جعل "تحقيق الذات" - بوصفها فكرة وضعية إنسانية - قمة الغايات الإنسانية بديلا عن مفهوم العبودية لله تعالى، مما يعكس نزعة إلحادية تسعى لاستبدال المرجعية الدينية بقيم نفسانية مادية، والأكثر إثارة للدهشة أن هذه النظرية غير المثبتة علميا قد تحولت إلى مادة تدريسية في كليات الإدارة والتنمية البشرية وكأنها مسلَّمة لا تقبل النقاش، بينما تمثل في جوهرها محاولة لخلق "دين جديد" يُعلي من شأن الذات البشرية ويحلّها محل الدين السماوي.


وهكذا يمثل أبراهام ماسلو، وهو أحد أعمدة علم النفس الحديث اليوم، نموذجا صارخا آخرا لمحاولة استبدال الدين بعلم النفس، حيث أعلن صراحةً أن نظريته عن "تحقيق الذات" - التي تحتل قمة هرم الاحتياجات - تشكل بديلا للدين وليس مجرد مكمل له، حيث ترفع هذه النظرية الإنسان إلى مرتبة "شبه إلهية" وفقا لتعبيره عن الأفراد المتحققين ذاتيا، والتي تمثل رؤيةً إلحادية تهدف إلى جعل الذات البشرية مصدرا للأخلاق، متجاوزة المصادر الدينية، وتكشف هذه الظاهرة عن آلية تسويق الأفكار تحت غطاء العلمية بينما تمثل في جوهرها مشاريع فكرية تخدم الإلحاد وتعزز وجوده في المجتمعات المعاصرة.


وهكذا شكلت فكرة هذه المفاهيم النفسية الحديثة في جوهرها محاولة متعمدة لوضع شرعة بديلة للدين، صاغتها عقول ملحدة تسعى إلى تأسيس "عبادة جديدة" تتمحور حول تقديس الذات الإنسانية، ولا تقف عند حدود كونها مجرد نظريات نفسية، حيث باتت تنتشر هذه الأفكار على نطاق واسع حتى صارت تطرح وكأنها مسلمات لا تقبل النقاش، بل وتحولت مع غيرها من المفاهيم النفسية الحديثة إلى أدوات لهدم البنى الدينية والأخلاقية الراسخة، وتبرير ونشر الانحلال والإباحية والشذوذ والإلحاد وغيرها من موبقات، وذلك عوضا عن أن تكون وسائل لترشيد وتعديل السلوك الإنساني وإصلاحه.


وأخيرا يؤدي بنا التحليل والدراسة إلى خلاصة مفادها أن العديد من المصطلحات النفسية الشائعة مثل "تحقيق الذات" و"هرم الاحتياجات" وغيرها تحمل في طياتها حمولة فكرية خطيرة، إذ إنها صدرت عن شخصيات إلحادية فاسدة أخلاقيا، سعت إلى تقديم بديل للدين تحت غطاء "علمي" زائف، حيث يؤكد نيكولاس كينز في كتابه "11 عقبة في العلاج النفسي" أن علم النفس بقي حتى عقد السبعينيات يفتقر إلى الأسس العلمية التجريبية، مما دفع الممارسين إلى اعتماد مقولات المؤسسين دون تمحيص أو نقد، وتقديس رواد هذا المجال مثل فرويد وكارل يونج وكارل روجرز وأبراهام ماسلو ورفعهم إلى مرتبة "القديسين" الذين تستقى منهم مفاهيم الصواب والخطأ، وذلك على الرغم من حقيقة أنهم كانوا في أصولهم الفكرية ملحدين ومنحلين أخلاقيا، مما يجعل من الاعتماد على نظرياتهم أساسا للأخلاقيات والعلاقات الإنسانية إشكالية عميقة، والمأساة الحقيقية تكمن في استهلاكنا المعاصر لهذه المفاهيم كمسلمات، وذلك دون إدراك أنها لم تكن سوى تبريرات فلسفية لإباحية مؤسسيها الذين عانوا من اضطرابات نفسية عميقة وكراهية للدين، مما يطرح تساؤلا جوهريا حول مدى معقولية بناء تصورنا للعلاقات الإنسانية والأخلاق على نظريات وضعها أناس كانوا يبحثون في الأساس عن مبررات لانحرافاتهم بدلا من السعي لاكتشاف الحقيقة.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart