أداء الواجبات مع أداء النوافل بين التقديم والتأخير
أداء الفريضة
شرط في قبول النوافل، فجنس الفرض أفضل من جنس النفل، والأدلة على ذلك كثيرة منها
قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (وما تقرب إلي عبدي بشئ أحب
إلي مما افترضته عليه)، لأنه لا يصح التقرب بالنوافل إلا بعد أداء الفرائض. أما إذا
كان فعل المستحب (النفل) يفضي إلى فساد راجح على مصلحته ولكن دون فساد ترك الواجب،
فإن تركه أولى من فعله، لأن مقصد الشارع عدم تفويت المصلحة مهما كان حجمها، ويكون
المستحب الذي هو فاضل في هذه الحالة، مفضولا، فلا يقدم عليه المكلف، وكذلك إذا كان
المندوب يؤثر في كمال الواجب وإحسانه فإن الأولى ترك هذا المندوب ومن أمثلة ذلك:
- تقديم كل
فريضة على نوعها من النوافل، كتقديم فرائض الطهارة على نوافلها، وفرائض الصلاة على
نوافلها، وفرائض الصدقات على نوافلها، وفرائض الحج والصيام على نوافلهما.
- تقديم حق الوالدين
على صلاة وحج وجهاد التطوع.
- الأمر
بالفرائض أفضل من الأمر بالنوافل، والإعانة على الفرائض أفضل من الإعانة على
النوافل.
- فروض الكفايات
أفضل من النوافل، فصلاة الجنازة أفضل من صلاة التطوع، قال ابن عبد البر: (هذا أصح
في النظر، لأن الفروض التي على الكفاية أفضل من النوافل).
- المسارعة إلى
قضاء الفوائت من الفرائض الكثيرة أولى من الاشتغال عنها بالنوافل، وأما مع قلة
الفوائت فقضاء السنن معها حسن.
- إذا كان
الإمام يرى فصل الوتر عن الشفع أفضل، لكنه يؤم قوما يرون أن الوصل أفضل، فالأولى
أن يوافقهم، تحصيلا لمصلحة التأليف، وكذلك إذا كان يرى أن المخافتة بالبسملة أفضل
أو الجهر بها أفضل، وكان المأمومون يرون خلاف رأيه، فمصلحة موافقتهم بفعل المفضول
عنده راجحة على فعل الأفضل عنده، ويؤخذ من هذا أن الحرص على وحدة الأمة أولى من
الدخول في المسائل الخلافية.
- إذا كان
الطبيب لا يتمكن من إتقان فحص مريضه مع صوم النفل فإنه يتركه، وكذلك الحال مع
المدرس الذي لا يستطيع أداء واجبه التدريسي مع صوم النافلة فإنه يترك الصوم.
- العمل وتحصيل
الرزق أفضل من نوافل العبادات، لأن النفقة على الأهل والأولاد من الواجبات.
- تقديم
الصناعات والتخصصات التي يحتاجها الإسلام على نوافل العبادات، لأنها من فروض
الكفايات وهي مقدمة على النفل.
هذا وموضوع (تعارض
الواجبات مع النوافل) هو مما يجهله كثير من الناس، مما يؤدي إلى وقوعهم في كثير من
الأخطاء والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
- كثير من الناس
لا تفوتهم نوافل الصلاة، ولكن لا يحسنون حتى قراءة الفاتحة وهي ركن من أركان
الصلاة.
- البعض يهتم
بالأذكار والأوراد ولا يولي اهتماما بالفرائض الاجتماعية مثل إنكار المنكر ومقاومة
الظلم الاجتماعي والسياسي.
- البعض يقوم
الليل وعنده عمل في الصباح، مع أن إحسان العمل فريضة والتفريط فيه خيانة للأمانة
وأكل للمال بالباطل، وكذلك صوم النفل مكروه في حق من يوهنه الصيام عن القيام بعمله
بشكل جيد.
- من الأغنياء
من يكثر الحج وينفق الأموال الطائلة ولا ينفق عشر عشرها في مساعدة الفقراء
والمساكين والمنكوبين، ولا في إنشاء مدرسة إسلامية أو مستوصفا لعلاج المرضى في
بلاد منكوبة من بلاد المسلمين.
وقد ذكر الغزالي
رحمه الله أمثلة لمن أهمل قاعدة تقديم الفرائض على النوافل في كتابه الإحياء،
وينعتهم الغزالي بالمغرورين، فمنهم طائفة يحرصون على النوافل ولا يعظم اعتدادهم
بالفرائض فترى (أحدهم يفرح بصلاة الضحى، وبصلاة الليل، وأمثال هذه النوافل، ولا
يجد للفريضة لذة، ولا يشتد حرصه على المبادرة بها في أول الوقت)، كما ويذكر فرقةً
أخرى أهملوا الفرائض واشتغلوا بالفضائل، وهم الموسوسون الذين لا يرضون بالماء
المحكوم بطهارته في فتوى التشريع، ويقدرون الاحتمالات البعيدة قريبة في النجاسة،
فإذا آل الأمر إلى أكل الحلال، قدروا الاحتمالات القريبة بعيدة، وربما أكلوا
الحرام المحض، ولو انقلب هذا الاحتياط من الماء إلى الطعام، لكانت سيرتهم أشبه
بسيرة الصحابة، فقد توضأ عمر – رضي الله عنه – بماء من جرة نصرانية مع احتمال وجود
النجاسة، وكان مع هذا يدع أبوابا من الحلال مخافة من الوقوع في الحرام.
هذا وممن أخل
بهذه القاعدة أيضا الأغنياء الذين اشتغلوا بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها
إلى نفقة، كصيام النهار وقيام الليل وختم القرآن، فهؤلاء اشتغلوا بطلب فضائل هم
مستغنون عنها، وأهملوا الفرض المنوط في أعناقهم وهو إنفاق الأموال على الفقراء
والمحتاجين، كما وممن أخل بهذه القاعدة أيضا فرقة من أرباب الأموال، يحرصون على
بناء المساجد والمدارس والقناطر وما يظهر للناس كافة، ويكتبون أساميهم بالآجر
عليها، ليتخلد ذكراهم ويبقى بعد الموت أثرهم وهم يظنون أنهم قد استحقوا المغفرة
بذلك، ولو كلف واحد منهم أن ينفق دينارا، لا يكتب اسمه على الموضع الذي أنفق عليه
لشق عليه ذلك ولم تسمح به نفسه، والله مطلع عليه كتب اسمه أو لم يكتب، فهؤلاء لم
يراعوا الترتيب بين الخيرات، واشتغلوا بالنوافل وأهملوا الفرض المترتب عليهم وهو
إنفاق أموالهم على المساكين، وهم لا يفعلون ذلك خيفة من أن لا يظهر ذلك للناس، ومنهم
أيضا طائفة من أصحاب الأموال يحرصون على إنفاق المال في الحج، فيحجون مرة بعد مرة
أخرى، ويتركون جيرانهم جياعا لا يواسونهم.
كما ولابد من
الإشارة هنا إلى أمر مهم، وهو إذا كانت مصلحة النفل أكبر من مصلحة الفرض، فهل يقدم
عليه؟ وذلك كمن زكى بخمسة دراهم وتصدق بعشرة آلاف درهم،حيث يقول العز بن عبد
السلام رحمه الله: (فيحتمل في مثل هذا أن يكون الفرض أفضل من النفل، من غير نظر في
تفاوت المصلحتين، ويحتمل أن يخص الحديث بالعملين المتساويين في المصلحة، كدرهم
الزكاة مع درهم الصدقة، وشاة الزكاة مع شاة العقيقة، ولكن فيه مخالفة لظاهر
الحديث، وليس ببعيد من تفضل الرب أن يؤجر على أقل العملين المتجانسين أكبر مما
يؤجر على أكثرهما)، والراجح في المسألة أن الفرض وإن كان قليلا أفضل من كثرة النفل
للآتي:
- النص صريح في
ذلك ولا مدفع يدفعه من دليل آخر، حيث قال عليه الصلاة وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل:
(وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).
- أن المكلف
بقيامه بالفرض يسقط ما تعلق بذمته من تكاليف وينجو من العقاب بخلاف النفل، فلو أدى
ما أدى من النوافل، وبقيت الفروض في ذمته لا تنجيه عند خالقه، وكفى بهذه فضيلة
ومنزلة يتطلبها كل مكلف إذ النجاة هي الغاية.
- أن من أكبر
مقاصد شرعية النوافل تتميم وتكميل الخلل الواقع في الفرائض وجبر النقص الحاصل جراء
إقامتها، فكيف تكون أفضل منها وهي بمنزلة الفرع من الأصل.
ويذكر الإمام
القرافي رحمه الله أن القاعدة العامة في بيان المفاضلة تعتمد على مقدار المصالح،
فكلما زادت المصلحة ارتقت منزلة العمل، حيث يقول رحمه الله: (فإن أوامر الشارع
تتبع المصالح الخالصة أو الراجحة، ونواهيه تتبع المفاسد الخالصة أو الراجحة، حتى
يكون أدنى المصالح يترتب عليه الثواب، ثم تترقى المصلحة والندب، وتعظم رتبته حتى
يكون أعلى رتب المندوبات تليه أدنى رتب الواجبات، وأدنى رتب المفاسد يترتب عليها
أدنى رتب المكروهات، ثم تترقى المفاسد والكراهة في العظم حتى يكون أعلى رتب
المكروهات يليه أدنى رتب المحرمات، هذا هو القاعدة العامة).
كما ويذكر أن
الأصل في كثرة الثواب وقلته هو كثرة المصالح وقلتها، ويذكر أمثلة على ذلك منها أن
التصدق بدينار أعظم من التصدق بدرهم، وسد خلة الولي الصالح أعظم من سد خلة الفاسق
الطالح، لأن مصلحة بقاء الولي والعالم في الوجود لنفسه وللخلق أعظم من مصلحة
الفاسق، وهذه القاعدة العامة في غالب موارد الشريعة، وبعد أن بين القاعدة العامة
يذكر استثناءات، حيث يذكر أن في الشريعة مندوبات أفضل من الواجبات وثوابها أعظم من
ثواب الواجبات، وذلك لأن مصالحها أكبر من مصالح الواجبات من ذلك ما يلي:
- إنظار المعسر
بالدين واجب وإبراؤه منه مندوب، وهو أعظم أجرا من الإنظار، وسبب ذلك أن مصلحته
أعظم.
- من صلى وحده
ثم أعاد جماعة حصل له السبع وعشرين ضعفا مع أن الإعادة غير واجبة عليه، فصار وصف
الجماعة المندوب أكثر ثوابا من الصلاة الواجبة، وهو مندوب فضل واجبا.
- مثوبة الصلاة
في المسجد الحرام أعظم بمئة ألف صلاة في غيره، مع أن الصلاة فيه غير واجبة، فقد
فضل المندوب الواجب الذي هو أصل الصلاة من حيث هي صلاة.
هذا وينتهي
القرافي رحمه الله إلى الخلاصة الآتية وهي: (إن الواجب يقدم على المندوب، والمندوب
لا يقدم على الواجب حيث كانت مصلحة الواجب أعظم من مصلحة المندوب، أما إذا كانت
مصلحة المندوب أعظم ثوابا فإنا نقدم المندوب على الواجب).
