مراحل تطور النظام العربي 1945- 1955
مرحلة النشأة (1945-1955)
شهدت هذه المرحلة تشكيل النظام العربي في ظل تحولات دولية مهمة،حيث كان
أهمها إنتقال النظام الدولي من نظام توازن القوى الذي (دمرته الحرب العالمية
الثانية) إلى نظام القطبين الذي (نتج عن إتفاق الحلفاء)،وقد كان تأثير هذه التحولات
على النظام العربي في مرحلة مبكرة من نشأته وتطوره،حيث أن المنطقة العربية لم تكن
تابعة لأي من القوتين العظمتيين وإنما لقوى أخرى خسرت مواقعها على قمة النظام
الدولي،لهذا فإن النظام العربي نشأ وبدأ مراحل تطوره في ظل تفاعلات دولية مهمة،حيث
كانت جميع الأطراف الدولية تتلمس طريق المستقبل،فالإتحاد السوفياتي خرج منهوك
القوى من الحرب العالمية الثانية فضلا على أنه لم يكن قد فجر قنبلته الذرية الأولى
بعد،كما وتصورت كل من بريطانيا وفرنسا أن تحافظ كل منهما على الدور الذي كانت تلعبه قبل الحرب في النظام الجديد،أما الولايات المتحدة فكانت بين واقعها الجديد من
إنتصارها وتملكها للقوى النووية وبين ضعف حلفائها.
وسرعان ما توالت الأحداث الدولية،فكانت البداية في البلقان ثم إشتدت
الضغوط السوفياتية على كل من تركيا وإيران،وتفاقمت الأزمة في برلين حتى فجر
السوفيات أول قنابله الذرية،ومنها أصبح النظام الدولي الجديد مكون من قطبين،حيث بدأت
الولايات المتحدة بممارسة دور نشط في المنطقة العربية مستندة إلى النفوذ المتراكم
للدول الإستعمارية الأوروبية،فدعت إلى مشاريع للدفاع عن الشرق الأوسط والحلف
المركزي،وكان كل ذلك لرسم حدود المنطقة لمصلحة نظام شرق أوسطي وليس لنظام عربي،وذلك في سبيل ضم إسرائيل للنظام الجديد على الرغم من أنها غير عربية،وهكذا كان
النظام العربي ومنذ نشأته مخترق غربيا في محاولة للتحكم في تطوره والتأثير في
مساراته،وقد إستمرت هذه المحاولات في جميع مراحل تطوره.
-نمط الإمكانات
تشكل النظام العربي من سبعة أطراف بالإضافة إلى الجامعة العربية،حيث تفاعلت هذه الأطراف جميعا مع الوحدات العربية التي كانت مستعمرة،وبهذا التفاعل
إكتسب النظام بعداً ثوريا بالإضافة إلى البعد الذي شكلته أفكار التحدي للغزوالصهيوني،وقد تشابهت هذه التفاعلات مع ما كان يجري في أمريكا اللاتنية حين حاول سيمون
بوليفار وخوان مارتين تحرير بلدانهم وتوحيدها،لكن الإختلاف كان في عدم وجود قادة
على هذا المستوى في الوطن العربي،رغم أنّ دعوة كامل الجماهير العربية في ذلك
الوقت كان للوحدة أقوى،فضلا عن إختلافات أخرى تتعلق بموقع الوطن العربي والظروف
التاريخية والدولية وتعارض مشاريع
القيادات السياسية المنادية بتوحيد الوطن العربي وخلافاتهم الشخصية .
وقد إقترنت نشأت النظام العربي بعدم وجود القوة الذاتية الكافية
لضمان إستقلال حركته الدولية،وكان سبب ذلك أن معظم أطرافه خاضعة لإحتلال عسكري
أجنبي بالإضافة إلى وجود قيود عسكرية وتبعية إقتصادية ونفوذ سياسي خارجي،ولكن على
الرغم من ذلك كله فقد وجدت بعض الإختلافات في بعض الدول العربية،وذلك بسبب طبيعة ودرجة
النمو الإجتماعي والإقتصادي فيها،ومثال ذلك الإمكانات المصرية المتفوقة نسبيا
والتي كانت تسمح لها بأن يكون لديها موقع متميز عن بقية الأطراف لولا أنها شهدت
خلال هذه المرحلة أزمات سياسية داخلية متلاحقة،حيث تسببت هذه الأزمات إضافة إلى أثار
معركة فلسطين في إضعاف الإمكانات المصرية وحالت دون قيامها بالدور الفعال الذي كان
يمكن أن تمارسه في إطار النظام.
-نمط السياسات
لقد نشأ النظام العربي في ظل توازنات معينة،حيث كان واضحا أن بعض أطراف
النظام كانت تسعى لرسم حدودها على حساب جيرانها،ومن العوامل التي ساعدت على هذا
التنافس هي سهولة تغلغل أي طرف في شئون الطرف الآخر،وذلك بسبب التشابك الأسري
والقبلي عبر الحدود الجغرافية وبحكم الحافز الوحدوي والقومي وضعف الشعور بالإنتماء
للدولة،لأنها كانت ظاهرة ناشئة في النظام العربي،وعدم قدسية تلك الحدود السياسية
لأن تاريخها يرجع إلى عهد قريب،والنظر إليها من جانب القوى الداعية للقومية العربية
على أنها ميراث العهد الإستعماري .
وقد أعتبر شرق الأردن أول أطراف المراجعة في النظام العربي لأنه عمل
منذ البداية على تغيير أنماط إمكاناته وقواعد تفاعلات النظام،وسعى إلى إنشاء دولة
سورية الكبرى تحت قيادته،وفي الوقت نفسه كان العراق يحاول التقارب مع سورية لإقامة
وحدة معها،بينما إنتهزت السعودية الخلافات في الأسرة الهاشمية وإنتهجت سياسة منع
أي توسع جغرافي أو سياسي للنفوذ الهاشمي في قلب الوطن العربي،وقد أيدت بشدة جميع
القوى المناهضة للملك عبدالله في سورية وفلسطين.
أما مصر ففي البداية لم تكن تهتم لمنطقة القلب العربي بما يسمح لها
بالتدخل بفاعلية فيها ولأنها كانت مشغولة بقضيتها الوطنية وأزماتها السياسية
الداخلية،ولكن بعد الحرب العالمية الثانية إزداد الإهتمام المصري بالوطن العربي،لأن حكامها كانوا يرون أن مصلحتها تتنافى وقيام تكتل عربي في بلاد الشام (مشاريع
الهاشميين في العراق والأردن)،حيث أن ذلك سوف يخل بالتوازن القائم في النظام
العربي،وهو التوازن الذي يضمن لها نفوذا أوفر نسبيا على بقية الأطراف،لهذا سعت
مصر لإنشاء منظمة إقليمية عربية تسمح لها بمركز متميز داخل النظام العربي،كما تعزز
مركزها التفاوضي مع بريطانيا لتحقيق جلاء قوات الإحتلال الأجنبي عن أراضيها،أما
فيما يخص العلاقات بين مصر والغرب،فكانت النظرة إلى الغرب مزدوجة،حيث الكراهية
لسياسته الإستعمارية من جهة والإعجاب بتقدمه والرغبة في تقليده من جهة أخرى،لذلك
شهدت هذه الفترة تمسك القيادة السياسية الجديدة بسياسة مصر قبل الثورة،وتبين ذلك
من خلال رفض مصر للإشتراك في منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط،ولكن في الوقت نفسه سعت
لتوطيد علاقاتها بالولايات المتحدة والحصول على أسلحة منها،أما بالنسبة للإتحاد
السوفياتي فكانت القيادة المصرية معادية لها بسبب أن السوفيات لعبوا دورا كبيرا في
تسليح المنظمات العسكرية الصهيونية والإعتراف بالدولة الجديدة (إسرائيل).
وقد إختلفت الإتجاهات السياسية العربية في هذه المرحلة،وهي الإتجاهات
التي حددت في جملتها معالم نمط سياسات الدول العربية،ففي الأردن شعر الملك عبد
الله بأنه لم يأخذ نصيبه كاملا في تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى،فعمل على
تحقيق حلم سورية الكبرى بزعامته وذلك من خلال الوحدة بين الأردن وسورية مع إعطاء
لبنان إستقلالا ذاتيا داخل إطار الدولة الكبرى،ولكن هذه الوحدة فشلت بسبب علاقة
الملك عبد الله ببريطانيا،ثم عرض الملك عبد الله فكرة إقامة وحدة أردنية-عراقية،ولكن محادثاته لم
تصل إلى أكثر من معاهدة صداقة وتحالف،ومن ناحية فلسطين فقد وعد اليهود فيها بحق
الإدارة الذاتية داخل مناطق تجمعهم،كما تدخل في السياسة الداخلية الفلسطنية
بإنشاء تحالفات مع بعض العائلات ضد عائلات أخرى.
وفي العراق،فقد أقام نوري السعيد علاقات العراق مع البلدان العربية
على أساس خطة تنفذ من مرحلتين هما:1-إقامة دولة سورية الكبرى دون إشتراك العراق
فيها على أن يكون لليهود في فلسطين إستقلالا ذاتيا. 2-إنضمام العراق إلى دولة
سورية الكبرى في دولة الهلال الخصيب وبعدها تنشأ الجامعة العربية،ولكن مشاريع نوري السعيد لم تحظى بالقبول العربي وذلك بسبب ميوله وإرتباطاته بالإستعمار
البريطاني،كما شهدت هذه الفترة تحدي العراق للدور المصري في النظام العربي
لإضعافه.
أما في سورية،فقد كان التيار الجمهوري فيها قويا،كما كان العداء
للإستعمار جذريا وعنيفا،وكانت النخبة السياسية السورية تدرك جيدا موقعها من
الصراعات العربية كهدف بل وكمركز لأي دولة عربية كبرى تقام في قلب النظام
العربي،وعلى الرغم من ذلك إنقسم السياسيون في سورية في أواخر الأربعينات حول مسألة
الوحدة مع العراق،فكانت الكتلة الوطنية مع الوحدة بينما المعارضين للوحدة فقد
شجعوا مصر والسعودية للتدخل ضد هذه الوحدة وإفشالها.
كما أن السعودية إنتهجت سياسة ثابتة طوال هذه المرحلة تستند إلى
الإصرار على مقاومة أي مشروع لسورية الكبرى أو الهلال الخصيب،كما كان صوت الملك
عبد العزيز مسموعا لدى العديد من التيارات السورية الوطنية والقومية،وذلك نتيجة
لمواقفه المعادية للسياسات البريطانية والفرنسية،ولما لم يكن للولايات المتحدة بعد
دور كبير في التأثير في تطورات السياسة العربية،لم تأخذ الحركات الوطنية والقومية
على السعودية علاقاتها الوثيقة بالولايات المتحدة.
وأخيرا فإن لبنان واليمن
نجحتا في الإحتماء بالنظام العربي ضد ما تصوره حكامها من خطر يأتي من مصادر عربية
مباشرة،فبينما نجح الموارنة كطائفة مسيطرة في لبنان في تحقيق التراضي الذي ضمن
إستقلال لبنان،نجح حكام اليمن في تجسيد عزلتهم وتأكيد حمايتهم مما تصوروه أطماع
سعودية،إلا أنه في الحالتين كان الإعتماد على النظام إعتماداً سلبيا،بحيث أن
تفاعلاته لم تكن بالكثافة أو الحدة التي تمس أوضاعهما الداخلية.
-نمط التحالفات
نتيجة التطلعات وطبيعة التفاعلات المتداخلة
إكتسب النظام العربي قدرة نادرة على تشكيل رفض التحالفات،فالوجود الهاشمي في
العراق والأردن أدى إلى قيام تحالف طبيعي بين السعودية ومصر والوقوف ضد أطماع
بريطانيا في المنطقة،التي كانت تشكل عائقا دون تحقيق وحدة النيل وتمثل تهديدا
للسعودية وتحرمها من ممارسة نفوذها على إمارات الخليج،ولأن بريطانيا كانت تشجع
الأسرة الهاشمية على تحقيق أحلامها.
إنّ معظم المعالم الأساسية لأنماط التحالفات
في النظام الإقليمي العربي بدأت تتضح في هذه المرحلة،فلبنان تمسك منذ البدأ بسياسة
تفادي الدخول في التحالفات حتى لا يتعرض توازنه الداخلي للخطر،وقد حافظ على هذه السياسة
في جميع المراحل،إلاّ أنه عندما فرض عليه التحالف تعرض كيانه وإستقلاله للخطر،أما سورية
فقد كانت دائما في قلب التحالفات العربية أو هدفا لها،والذي ميّز سورية أنها كانت
الطرف الأصغر في أي تحالف دخلت فيه ولكنها كانت أيضا الطرف الساعي إلى قيامه أو
فرطه،وقد تراوحت السياسة السورية بين حلف مع العراق وحلف مع السعودية ومصر ولكن
التيار الغالب في سورية كان يميل إلى التحالف السعودي المصري،على الرغم من ضغوط
الأسرة الهاشمية على النخبة السياسية السورية لدعم الحلف مع العراق.