مراحل تطور النظام العربي 1955 - 1970
مرحلة المد القومي (1955-1970)
تتوافق هذه المرحلة مع الحرب الباردة،حيث بلغ التوتر الدولي أشده بسبب إتساع مجالات العمل السياسي الخارجي لكل من القطبين إلى حدود لم يسبق لها مثيل في التاريخ السياسي لكل منهما،كما وكان الفكر السائد بينهما هو فكر التوسع الإستراتيجي،فكانت أمريكا تشكل الأحلاف العسكرية لتحيط بالسوفيات،بينما حاول الإتحاد السوفياتي بإستمرار النفاذ من هذا الطوق وتشجيع حركات التحرر وإثارة المشاكل في وجه الإستراتيجية الأمريكية،وإزاء هذا الوضع لم يكن أمام الدول حديثة الإستقلال إلا إتباع سياسة الحياد الإجابي حتى تبتعد بنفسها من تطاحن القطبين على أراضيها،ولكن نشأت مجموعة دول الحياد الإيجابي لم توفر للنظام العربي الحماية،بل أثارت هذه السياسة الولايات المتحدة الأمريكية على محاربتها ومنع إنتشارها بين البلدان العربية،لأنها كانت تحرض الشعوب على مقاومة المستعمر كما وكانت تشجع حركات التحرر الوطني،ولم تقف أمام الهجمة الغربية على البلدان العربية سوى ردة الفعل التي ولدتها وبعثتها الحركة القومية في الوطن العربي،والتي إستثمرها النظام المصري بسرعة وطرح نفسه في شخص عبد الناصر كرمز للحركة القومية العربية،وقد ساعدت الطاقة الأيديولوجية التي ولدتها الثورة القومية على جعل فكرة الحياد الإيجابي أكثر قبولا في الوطن العربي كما وأكسبها طابعا ثورياً،وقد كان من أثاره الرفض العربي لمبدأ أيزنهاور،بالإضافة إلى رد الفعل السلبي للسوفيات على الوحدة المصرية السورية،وزيادة القوة السياسية للقيادة المصرية في مواجهة الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي بشكل عام وفي سورية والعراق بشكل خاص.
ولكن النصف الأخير من هذه المرحلة والذي بدأ مع بداية الستينات شهد تطور مهم في النظام الدولي،حيث إنحسرت الحرب الباردة مع تولي جون كينيدي رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية،وإنتهاء أزمة كوبا عام 1962،وهذا كله أدى إلى تغير نوعي في علاقات الدولتين العظمتين بالدول العربية،حيث أصبحت تكتفي بتعهدات النظم الموجودة على حرمان الطرف الآخر من الإمتيازات الإستراتيجية ومراكز القوة والنفوذ،وعندما إنحسر هذا التوتر بين القطبين الذي ساد في فترة الحرب الباردة،أصبح مطلوب من الدول الصغرى لكسب تأييد دولة عظمى تقديم إلتزام إيجابي،أي بتقديم تنازلات سياسية وإستراتيجية تتناسب مع هذا التأييد،وبهذا تحول سلوك أعضاء دول عدم الإنحياز إلى الحياد المنحاز،ونتيجة لذلك أصبحت الدولتين العظمتين تضغط في سبيل تحقيق صداقة إيجابية مع بلدان النظام العربي.
ونتيجة لما سبق جاء الإنفصال السوري مرضي للدولتين العظمتين في آن واحد،لأن فشل التطبيق العملي الأول للوحدة العربية كان يعني للسوفيات تحقيق نظريته بأن الوحدة العربية هدف لا يتحقق إلا على أساس نضال إجتماعي ووحدة الطبقات العاملة العربية،كما وكان الإنفصال يعني أيضا تحقيق خطوة مهمة في السياسة الأمريكية الهادفة إلى عزل مصر الثورية عن التفاعلات العربية،وبهذا العزل ينفرط عقد النظام العربي،بحيث أصبحت هناك دول عربية صديقة للإتحاد السوفياتي مطلوب منها أن تكون معادية للإمبريالية التي تسعى لضرب الوحدة العربية،وهناك دول عربية أخرى صديقة للولايات المتحدة مطلوب منها أن تنتهز فرصة إنفصال العرب والضربة التي تلقتها القومية العربية،لتنتهج سياسة هجومية ضد التيار الثوري في الوطن العربي،وبهذا إتفق المطلوب من الأقطار العربية الصديقة للولايات المتحدة مع المهمة التي تحملت عبئها الولايات المتحدة لإثارة المتاعب لكل القيادات الثورية والوطنية في العالم الثالث التي قادت حركات الإستقلال الوطني وتزعمت حركة عدم الإنحياز،والتي حاولت تحرير إقتصاد بلادها من سيطرة الشركات الغربية الكبرى،وقد إتضح بعض أبعاد هذه المهمة خلال التحقيقات التي عقبت أزمة ووترغيت في أمريكا حين تبين حجم وتشابك العمليات التي قامت بها وكالة الإستخبارات الأمركية خلال أعوام الستينات في العالم الثالث،حيث تعددت صور التآمر ضد نظم العالم الثالث والتي إختلفت بإختلاف ظروفها الإقلمية والداخلية،وهي أساليب راوحت بين الإغتيال والتأثير في أسعار سلعة التصدير الأساسية التي يعتمد عليها إقتصاد الدولة والتشهير بالسمعة وتدبير الحروب الأهلية وحتى إلى الحصار الإقتصادي وشن الحروب.
-نمط الإمكانات
كانت أهم معالم هذه المرحلة هي الزيادة الهائلة في إمكانات النظام العربي السياسي،وبخاصة الدور الذي لعبته عقيدة النظام الثورية،إلا أنه بالنسبة للإمكانات الكلية تنقسم المرحلة إلى فترتين هما :
1-الفترة بين (1955-1961)
وفي هذه الفترة زادت إمكانات كل من مصر والعراق زيادة كبيرة،ففي مصر تحققت الزيادة في النواحي العسكرية وذلك لأغراض التسلح الخارجي،وقد كان سبب ذلك غارة غزة،والتي أغارت فيها إسرائيل على معسكرات الجيش المصري في القطاع وقتلت عددا من الجنود والضباط،كما ولقد كانت أهم صفقات السلاح لمصر في هذه الفترة هي الصفقة التشيكية من الإتحاد السوفياتي،والتي أضافت قوة إلى الإمكانات المصرية السياسية والإقتصادية والإعلامية،فأصبحت مصر بذلك قوة الجذب الرئيسية للحركة السياسية في الوطن العربي.
أما في العراق فقد زادت بعض الإمكانات ولكن أهمها كانت الإرادة السياسية العراقية التي وضعت نصب أعينها مقاومة إنتشار ظاهرة الإنقلابات العسكرية،وإنتهاز فرصة تقوقع النظام الجديد في مصر وإبتعاده النسبي عن المشاركة بفاعلية في النظام العربي خلال الفترة بين 1952-1954،كما زادت إمكانات العراق العسكرية والإقتصادية نتيجة إستقرار نظام الحكم والتأييد القوي من جانب الدول الغربية،بينما إستمرت الإمكانات السياسية في تناقص في مواجهة الهجوم الشديد من جانب النظام المصري ونجاحه في إحباط أهداف حلف بغداد في ضم بلدان عربية جديدة إليه،فقد كان إصرار النظام العراقي على التعاون مع الدول الغربية ذات النفوذ الإستعماري وبخاصة خلال أزمة السويس،من الأسباب المباشرة التي أدت إلى إنعزال العراق،الأمر الذي جعل التحسن في إمكانات العراق العسكرية والإقتصادية غير ذي تأثير،وإنتهى الأمر فيها بسقوط النظام الهاشمي عقب قيام الوحدة السورية المصرية في 1958،حيث أساء النظام الجديد إستثمار الإمكانات العربية.
2-الفترة بين (1962-1967)
شهدت هذه الفترة تراجع الإمكانات السياسية التي تمتع بها النظام المصري بسبب إنهيار الوحدة السورية المصرية،وهذا شكل صدمة كبيرة للرأي العام المصري،ونتيجة لذلك تقلص نفوذها ودورها في النظام العربي،ولكن عندما أتيحت لها الفرصة في اليمن عام 1962 سارعت القيادة المصرية إلى التدخل السريع وبشكل مكثف،ولقد كان تأثر الإمكانات السياسية لمصر بسبب قيام النظام المصري بالتأكيد على جانب الثورة الإجتماعية في طروحاته القومية،وبهذا الإرتباط بين الدعوة إلى الوحدة والدعوة إلى التغيير الإجتماعي والثوري،دعم تضامن القوى المعادية للوحدة وأفسح لها المجال لأن تناهض الفكر القومي الذي مثله النظام المصري،وبالإضافة إلى تعدد التوجهات العقائدية وعدم قدرته على إنجاز طموحاته الإجتماعية،أدى ذلك إلى تحميل النظام المصري أعباء جديدة في ظروف صعبة ومعقدة.
وفي سورية فقد ترسخت عقدة الذنب المترتبة على الإنفصال،وحتى بعد وصول التيار القومي للحكم لم تنشط الإمكانات السياسية السورية لأن مصر رفضت في معظم الوقت أن يكون تعاملها مع سورية على أساس الهياكل القومية فقط،ولكن بتدخل السوفيات عام 1966 مستخدمين ضغوطا شتى قبلت مصر بالتلاقي مع النظام السوري .
أما في السعودية فقد بدأ بعض التحسن في إمكاناتها السياسية،وذلك بعد تنحية الملك سعود وتحسين صورة الحكم السعودي،ومن ثم بدأ التحسن يمتد للإمكانات الإقتصادية بسبب إجراءات الإصلاح الداخلية.
وأخيراً وفيما يتعلق بالإمكانات العسكرية للنظام العربي في هذه المرحلة،فإنها شهدت إتساع الهوة بشكل لم يسبق له مثيل بينها وبين الإمكانات العسكرية الإسرائلية،وذلك على الرغم من إستمرار المعونات العسكرية السوفياتية وتواصل إنشاء المصانع الحربية في مصر،وتدفق الأسلحة الأمريكية على السعودية،وسبب ذلك كله كان أن التدفق الخارجي للأسلحة كان لصالح إسرائيل كماً ونوعاً وخصوصا صفقات الأسلحة الألمانية والفرنسية،كما أن القوة العسكرية المصرية أنهكت ماديا وبشرياً في اليمن،بالإضافة إلى إنهيار المؤسسة العسكرية المصرية بعد الإنفصال عن سورية وإنتهاء الوحدة.
-نمط السياسات
بينما كان الملك عبد الله ونوري السعيد يقودان حركة التغيير والمراجعة في النظام العربي خلال مرحلة تطوره الأولى بسعيهما المتواصل لإقامة شكل أو آخر من أشكال سورية الكبرى أو الهلال الخصيب،أصبحت مصر الطرف الأساسي المرجع في النظام خلال مرحلة تطوره الثانية ويأتي بعدها العراق .
وقد كانت السياسة المصرية في هذه المرحلة كرد فعل دفاعي في مواجهة الحلف العراقي الغربي،ثم تحولت بالممارسة وبتواصل النجاحات السياسية وزيادة إمكانات القيادة المصرية في المجالات المصرية والعربية والدولية إلى سياسة هجومية بالغة الحدة والعنف،لهذا تعتبر هذه المرحلة ثورية في تطور النظام العربي،وضمن هذا الإطار الثوري للنظام العربي تمحورت السياسات بين أعضاء النظام حول أربعة محاور ترافقت مع التطور التاريخي للمد القومي ومحاولات المراجعة الثورية والتي قادتها الزعامة المصرية خلال هذه المرحلة وهي:
أ-معركة الأحلاف والدفاع عن المنطقة بين (1955-1956)
وبدأت هذه المعركة بتوجه العراق إلى تركيا وتوقيع معاهدة تحالف معها،بحيث فسرت مصر هذا التحاف بمحاولة الغرب عزلها عن الوطن العربي ورغبة من العراق لزيادة نفوذه،ولقد حاولت مصر في البداية إقناع العراق بالعدول عن هذه السياسة ولكنها فشلت،فحاولت بعدها حصار السياسة العراقية وإحتوائها مستخدمة نفوذها في الجامعة العربية،ولكنها فشلت مرة أخرى،فبدأت بعد ذلك كله القيادة المصرية تستخدم بعض أساليب العنف،وقد دعمتها السعودية في كل محاولاتها هذه حتى يمنعوا العراق من تغيير شكل قلب النظام العربي.
وفي السعودية فقد إستمرت العلاقات بينها وبين مصر وثيقة،وذلك بسبب إهتمام مصر بصلات السعودية مع أمريكا،لإعتقادها بأن السعودية كانت سببا مباشرا في تعطيل إنضمام الولايات المتحدة لحلف بغداد،ولقد عقدت السعودية في هذه الفترة إتفاقات عسكرية مع مصر وإنضمت إلى هذه الإتفاقات اليمن في 1955 .
وفي سورية فقد تولى الحكم فيها بعد سقوط الشيشكلي إئتلاف حزبي يميل إلى العراق ويدعمها ضد محاولات مصر لإدانة العراق وعزله،إلا أنه بإنقسام الحزب الوطني في سورية تجاه قضية حلف بغداد،وتشكل جبهة جديدة من العناصر الوطنية المعادية للغرب ووصولها للحكم،أعلنت هذه العناصر تأييدها للسياسة المصرية ووقعت معها إتفاقية دفاع مشترك.
أما الأردن فقد إستمر الملك حسين على سياسة الملك طلال،وهي سياسة قامت على مهادنة مصر والسعودية،على الرغم من الضغوط الشديدة على الأردن من العراق وبريطانيا للإنضمام لحلف بغداد وخصوصا عام 1955 والتي أدت إلى أزمة سياسية شديدة فيها،حيث إستقال على إثرها الوزراء الفلسطينيون في الحكومة ونشبت تظاهرات في معظم المدن الأردنية،وهنا إستغلت مصر هذا الوضع ودعمته،وكانت نتيجة ذلك رفض الأردن الإنضمام لحلف بغداد وطرده للحاكم العسكري البريطاني غلوب باشا،وفي العام نفسه وقعت الحكومة الأردنية معاهدة دفاع مشترك مع القاهرة.
ب-المراجعة المصرية بين (1957-1958)
في هذه المرحلة وصلت مصر إلى مركز نفوذ في النظام العربي لا يتناسب بأي معيار مع حجم إمكاناتها الملموسة،وهذا ألقى على كاهلها بأعباء ومسئوليات أنهكت إمكاناتها المحدودة في المراحل اللاحقة لتطور النظام،وخلال هذه الفترة ساد القلق أطرافا
كثيرة منها:
1-السعودية: والتي أسرعت في عام 1957 في قبول مبدأ أيزنهاور،حيث أقنعت أمريكا السعودية بأن الأهداف المصرية تخدم الخطط السوفياتية في المنطقة وتشجع الشيوعيين العرب على تولي المراكز القيادية في أجهزة الإعلام وبعض المراكز الحساسة،فسارعت بذلك السعودية إلى تأييد الأردن في خلافه مع مصر،وفي الوقت نفسه أجرت إتصالات مع حكومة بغداد بغية تقريب وجهات النظر بين البلدين.
2-الأردن: وهو الذي شعر خلال هذه الفترة بأنه المستهدف الأول والأساسي من حملة المراجعة المصرية وأن الخناق يزيد عليه كلما إقترب النظامان المصري والسوري من الوحدة،وتأكد ذلك للأردن عندما جرت محاولة الإنقلاب العسكري ضده،فسعى سريعا لكسب تأييد السعودية والعراق وأعلن تأييده لمبدأ أيزنهاور.
3-لبنان: وقد كان أمام طوفان المشاعر الوحدوية التي إجتاحت سورية وإمتدادها داخل لبنان،فخرج كميل شمعون عن الخط اللبناني التقليدي وإنحاز ضد مصر وسورية مخالفا بذلك القواعد الرئيسية التي حكمت التراضي السياسي بين الطوائف اللبناني،ونتيجة لذلك أصبح لبنان الهدف بالنسبة لتطورات النظام العربي وخاصة المراجعة السورية المصرية.
4-سورية: والتي كانت بنهاية 1957 الحليف الفعال للسياسة المصرية،وصارت دليلا على نجاح السياسة المصرية أو فشلها،حيث بلغت الضغوط الخارجية عليها حدا فاق كل إمكاناتها لتحقيق الإستقرار السياسي الداخلي،فزادت محاولات الغرب والعراق لتدبير إنقلابات عسكرية فيها،كما وتضاعف النفوذ السوفياتي فيها،ونشط الشيوعيون السوريون نشاطا فائقا،وألقت القيادة المصرية بكل ثقلها وراء القيادات القومية والوطنية،فشعرت سورية في هذه الفترة بأنها تتحمل مسئولية تحقيق مهمة تاريخية للأمة العربية وهي الوحدة وأن مصر أداة تنفيذ هذه المهمة،ومع كل ذلك وحين تم إكتشاف تفاصيل الخطة الأمريكية لتدبير غزو تركي للأراضي السورية،تحققت للقيادة الفرصة ولم يعد أمام مصر سوى الأخذ بالحل الذي طرحته هذه القيادات.
ج-الوحدة المصرية –السورية بين (1958-1961)
يعتبر عام 1958 من أهم الأعوام في مراحل تطور النظام العربي،حيث تحققت نظرية وجود رأي عام عربي يؤمن بالوحدة العربية ويحلم بتحقيقها،وذلك عن طريق الوحدة السورية المصرية التي جاءت لتؤكد أن الوحدة هدف شعبي وقومي في الوطن العربي،وتأكدت خلال هذه الفترة الخطورة التي يمثلها الرأي العام العربي للأنظمة العربية الحاكمة،لهذا كانت جميع التفاعلات العربية خلال هذا العام عبارة عن ردود فعل لهذه الحماسة الشعبية الجارفة،ففي لبنان خشيت النخبة المارونية الحاكمة على نفوذها وسيطرتها فأشتعلت الحرب الأهلية للقضاء على التيار القومي المتصاعد،وفي العراق والأردن سارعت الأسرة الهاشمية بإقامة إتحاد بين الدولتين،ولكن حين هددت الحماسة الشعبية النظام في الأردن،أمر نوري السعيد رئيس الوزراء الإتحادي القوات المسلحة العراقية بالتوجه إلى عمان ولكنها عادت وإحتلت بغداد وأسقطت النظام الهاشمي،وفي اليوم التالي لسقوط النظام في العراق تدخلت أمريكا عسكريا في لبنان،وبعد يومين تدخلت القوات البريطانية لحماية نظام الحكم في الأردن،كما سارع النظام اليمني بطلب الإنضمام إلى دولة الوحدة المصرية السورية،وشهدت هذه الفترة مواجهة تونسية مصرية إنتهت بقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إحتجاجا على ما إعتبرته تونس هيمنة مصرية على الجامعة العربية .
ولم يتنه عام 1958 إلا وقد شعرت القيادة المصرية بأن دولة الوحدة ومشكلات النظام الحزبي السوري وتفاعلاته الحادة وعودة القوات الأجنبية إلى لبنان والأردن وسقوط النظام الهاشمي في بغداد،تحمل في ثناياها أخطار وسلبيات وتشكل عبئا سياسيا عليها يفوق إمكاناتها،وهذا كله جعل النظام العربي يبدأ بالإتجاه تدريجيا إلى الإستقطاب الأيديولوجي ولم يعد من الممكن الإرتكاز على نمط التحالفات المرنة.
د-الإستقطاب الأيديولوجي في النظام بين (1961-1967)
في هذه المرحلة أصبح العنصر الإجتماعي محور السياسات العربية،وقد كان لحزب البعث وأفكاره دورا في تحريك القيادة المصرية تدريجيا في هذا الإتجاه،لأنه على الرغم من فشل حزب البعث في تطبيق أفكاره على المستوى القومي إلا أن القيادة المصرية حاولت جعل هذه الأفكار ركيزة عملها العربي،فوضعت ميثاقا أضفت عليه الصبغة التقدمية وأقدمت على إجراءات داخلية وإحداث تغيرات جذرية في الهيكل الإجتماعي والسياسي المصري،ولكنها لم تنتظر حتى تكتمل هذه الخطوات بل وجعلت أيديولوجيتها الجديدة ركيزة عملها العربي،وحين بدأت ملامح التغيير تظهر في المنطقة العربية لمصلحة التيار التقدمي بوصول البعثيين للحكم في العراق،سارعت مصر للترحيب به بإعتباره رصيدا إيجابيا،وفي الوقت نفسه رفضت التعامل مع البعث في سورية،وهذا ماجعل التيار التقدمي العربي مهلهل وضعيف أمام التيار المحافظ .
وقد عملت مصر في هذه الفترة على إستخدام العمل العربي الجماعي كوسيلة لتحذر من نتائج إنهيار الوضع العربي،لأنها كانت واعية بالإنهيار المستمر في إمكاناتها الذاتية والإمكانات العربية بشكل عام،لهذا دعت إلى عقد مؤتمر قمة في 1964 تلاه مؤتمر آخر في الإسكندرية،كما وعملت أيضا على تهدئة خلافها مع السعودية،وبدأت بتخليص نفسها من إلتزامها العسكري في اليمن .
أما السعودية فقد ألقى الإستقطاب الأيديولوجي عليها مهمة قيادة التيار المحافظ في النظام العربي في مواجهة حادة مع مصر،حيث إستخدمت السعودية الدين لتحقق النصر على كل الأيديولوجيات العلمانية الأخرى التي سيطرت على النظام العربي منذ نشأته،بالإضافة إلى العمل على حث الدول الإسلامية والعربية على الدخول في حلف إسلامي،وكان كل هذا بتأييد أمريكي،وقد ساعدت هذه السياسة الهجومية للسعودية على بدء إستقرار الأحوال السياسية فيها بعد القلاقل التي كانت تحاول مصر جعلها في السعودية مستغلة الإنقسام داخل الأسرة المالكة،إلا أن تماسك الأسرة المالكة في السعودية أحبط أهداف القيادة المصرية،حيث تم تنحية الملك سعود بهدوء،وبعدها إتخذ الملك فيصل على الفور إجراءات إعادة الثقة إلى أعضاء الأسرة المالكة فتوحدت وراءه.
-نمط التحالفات
تطور نمط التحالفات خلال هذه الفترة تطورا مهما،حيث شهدت هذه المرحلة في نصفها الأول نمطا مرنا من التحالفات وذلك لأن المرونة كانت طبيعة مرحلة نشوء النظام العربي،وأيضا بسبب الضعف النسبي لإمكانات أطراف التحالفات أمام المرجع الرئيسي وهو النظام المصري وعدم توفر خيارات خارجية أو إجتماعية أمام الأطراف العربية الأخرى،أما في نصفها الثاني فكان النمط السائد يشوبه الجمود وذلك بسبب تغير السياسات وغلبة الإستقطاب المستند على أيديولوجيات إجتماعية،حيث ظهرت ضرورة تماسك أطراف التحالف الواحد،وعلى الرغم من عدم المرونة في هذا النصف الثاني إلا أن التحالف التقدمي لم يكن متماسكا بالمقارنة مع التحالف المحافظ،وذلك بسبب الشكوك وإنعدام الثقة بين أطرافه والشعور بالخطر من التحالف المحافظ وبالخطر المتربص لها من إسرائيل،وقد كانت هذه الأسباب المباشرة لتعريض المنطقة لحرب 1967 حيث بدأت نذر الحرب بينما كانت أطراف التحالف العربي مشتركة في أعنف حرب إعلامية شهدتها هذه المرحلة خصوصا بين مصر وسوريا وكان لكل منهما أسبابه الخاصة .
وقد كانت أهم العوامل التي ساهمت في هزيمة 1967 سواء قبل الحرب أو أثنائها هي : 1-إعداد إسرائيل لحرب 1967 والتخطيط لها منذ فترة طويلة.2- التعاون الكامل والتنسيق بين الولايات المتحدة وإسرائيل.3- وجود أطراف دولية مختلفة مهدت للحرب ولم تمنع نشوبها مثل الإتحاد السوفياتي وسكرتير عام الأمم المتحدة .5-وجود أطراف عربية عملت قبل الحرب على دفع القيادة المصرية نحو مواجهة مع إسرائيل لا أمل لها في الفوز فيها،كما وسدت أمامها فرص التراجع،حيث كان منها من يتمنى مثل نوري السعيد أن تكون المواجهة العسكرية بمثابة الضربة القاضية لها.6-تصرفت مصر في حرب 1967 وفق ممارساتها خلال تجارب سابقة رغم إختلاف الظروف،ووفق مفاهيم لم تعد قائمة أو حاسمة المفعول.7-إزدياد الضغط السوفياتي على مصر لتلتزم بالدفاع عن نظام البعث السوري،حيث دخلت مصر في إتفاقات عسكرية مع سورية لا تتناسب مع ما كان يضمره نظامها الحاكم للقيادة المصرية،وذلك بدليل إشتراكه في حملة التشهير ضدها لعدم إتخاذها إجراءات عنيفة ضد إسرائيل عقب الإشتباكات السورية الإسرائلية في نيسان 1967 .8-كانت الخلافات العربية قد وصلت إلى أوجها في هذه الفترة،وهذا ما أثر على سلامتها من جهة وعلى سلامة النظام العربي ككل من جهة أخرى.9- لم يحسن السياسيين العرب تقدير قيمة مصر بالنسبة للنظام العربي،كما وأخطأوا في تقدير أبعاد علاقاتهم مع الدول العظمى وخاصة أمريكا.10-كان عام 1967 هو العام الذي وصلت فيه الهوة بين الإمكانات العربية الكلية والإمكانات الإسرائيلية إلى أقصي إتساع لها منذ نشوب الصراع العربي الإسرائيلي .
وقد كان لهذه الحرب آثار مباشرة وغير مباشرة على جميع الأقطار العربية بإختلاف عقائدها ومذاهبها،وعلى الرغم من ذلك فإن إيجابيات النظام التي تولدت خلال مراحل تطوره الأولى وخلال معاناته الطويلة من الإنقسامات وفي عقب صدمة الحرب،دعمت صموده في أوقات كانت نهايتها تبدو في نظر أعداء النظام مسألة وقت،فقد عملت على النمو السريع لمنظمة التحرير الفلسطنية بدعم عربي ومصري بالخصوص،وقد كان من نواحي القوة والتماسك العربي إجتماع العرب في مؤتمر الخرطوم وأن يخرجوا متفقين منه رغم موقف سورية،حيث إستعادت الأمة العربية ثقتها وعملت على التعبئة لحرب إنتقامية،كما كسب النظام العربي من هذه الحرب إعترافا دوليا واسعا به نتيجة لقراراته الخاصة بالطاقة.
أما السلبيات والتحديات التي سادت أطراف النظام،هي فكرة الأخذ بالواقعية السياسية كأسلوب عمل في السياسة الخارجية لتحسين علاقاتها مع أمريكا وإستعادة الأرض المحتلة والتخفيف من حدة الخلافات الأيديولوجية والمشكلات الإقتصادية،وقد كان الظن أن الأخذ بهذه الواقعية سيكون ضمن إطار قومي وذا طابع تكتيكي،ولكن بعض الأطراف العربية بعد 1973 أخذت بالواقعية كأسلوب ثابت للعمل بل وتجاوزت أهدافها التكتيكية وتعرضت بأبلغ الضرر للأهداف القومية .
وأخيرا فإن الإيجابية الأساسية لسنوات نهاية هذه المرحلة،هي تمديد المرحلة الثانية في تطوير النظام عام 1970 وذلك بتأجيل النظام العربي إعترافه العملي بهزيمة 1967،وبذلك إستطاع أن يتخلص من نمط التحالفات غير المرنة بإستخدام إمكاناته إستخداما جيدا وتطوير علاقاته الخارجية وتنشيط قوى قومية جديدة كمنظمة التحرير الفلسطنية وثورتي ليبيا والسودان،وبفضل حرب الإستنزاف والتشغيل الكيفي للقاعدة الصناعية المصرية تمكن النظام العربي من الدخول في حرب رابعة ضد إسرائيل (حرب إستنزاف 1969-1970 )،وهذه الحرب أكدت للقوى المعادية للقومية العربية ضرورة الإسراع بتنفيذ أهدافها الرئيسية وفي مقدمتها عزل مصر عن تفاعلات النظام العربي.