الخلاف
الأوروبي حول التسوية الإقليمية ومفهوم سياسة الوفاق
الخلاف
الأوروبي حول التسوية الإقليمية والدولية
1-التسوية
في أوروبا الغربية والشرقية
لقد
عقد مؤتمر الصلح في أوروبا على أساس إنتهاء الحرب،حيث كان يهدف إلى تحقيق الأمن في
أوروبا وفي العالم،على أن يكون الأمن مبنيا على التسوية الأوروبية أي أن يكون
عادلا وشاملا،ولكن إتضح للدول المعنية بأن المعاهدات التي أبرمت كانت خارج نطاق
العدالة وكانت محدودة لبعض الأقاليم الأوروبية.
وعلى
الرغم من أن الدول المهزومة في الحرب العالمية الأولى لم تكن فريسة سهلة للدول
المنتصرة،إلا أنها خسرت مستعمراتها وعانت من مشاكل عديدة،حيث كانت التسوية
الإقليمية على حساب هذه الدول المهزومة وهي ألمانيا والنمسا والمجر والإمبراطورية
العثمانية،فقد خسرت ألمانيا إقليمي الألزاس واللورين لصالح فرنسا كما فقدت إقليم
آخر على حدودها الشرقية والشمالية لصالح بلجيكا وبولندا،بالإضافة إلى أنها فقدت كل
مستعمراتها في أفريقيا والجزر الموجودة في المحيط الهادي،كما خضعت منطقة الرين
الصناعية فيها للإحتلال العسكري وذلك كضمان لتنفيذ إلتزماتها بتعويض أضرار الحرب
وضمانة لبقائها منزوعة السلاح،أما النمسا فقد خسرت جزء كبير من أقاليمها لصالح
إيطاليا وبعض الدول البلقانية،كما أن المجر فقدت ثلثي أقاليمها لدول مجاورة،وأخيرا تركيا فقد خسرت أقاليمها المستعمرة للدول الكبرى والتي خضعت فيما بعد للإنتداب.
ولقد
أدت هذه التسوية الإقليمية إلى تفكك الإمبراطوريات السابقة،كما أنها خلقت دولا
جديدة بعضها كبير والآخر صغير،وقد كانت هذه الدول الجديدة تقوم على أساس مبدأ حق
المصير للأمم،ولكن هذا المبدأ لم يتحقق خارج القارة الأوروبية وذلك لأن الدول
الكبرى رأت بأن القوميات في أوروبا الشرقية لم تعطى الإستقلال بل فرض عليها
للإنضمام إلى قوميات مستقلة تختلف تاريخيا وثقافيا عنها،ومثال ذلك تكون
تشيكوسلوفاكيا من عدة قوميات مختلفة في كل شيء حتى اللغة،كما تكونت بولندا من عدة
قوميات منها بولنديين وألمان وروس ونمساويين وغيرها،لهذا أعتبرت التسوية
الإقليمية الأوروبية غير عادلة لأنها تجاهلت مبدأ القوميات وذلك على الرغم من أنها حررت
عدة أقاليم،ولكن هذا التحرير كان على حساب قوميات أخرى،كما أعتبرت هذه التسوية
غير منطقية لأنها فرضت على ألمانيا شروطا وإلتزامات في غاية القسوة منها التخلي عن
أقاليمها المستعمرة ودفع تعويضات للحلفاء بقيمة 32 مليار،وهذا ما جعل الشعب
الألماني يسعى للثأئر والإنتقام،لأنه عمليا كان مايزال يحتفظ بإستقلاله ووحدته مما
مكنه من النهوض عسكريا فيما بعد.
كما
قد أدت هذه التسوية إلى خلاف حاد بين فرنسا وبريطانيا هدد أمن أوروبا،وكان سبب
الخلاف هو حول الأسلوب الذي يجب أن يتبع مع ألمانيا،حيث كانت فرنسا تريد إضعاف
ألمانيا بشكل مطلق وتفرض عليها شروط إقتصادية وعسكرية قاسية للغاية حتى يتحقق لها الأمن
والإستقرار وذلك بسبب تاريخ التنافس الفرنسي الألماني في أوروبا على مر التاريخ،أما بريطانيا فكانت تريد إتباع أسلوب معتدل مع ألمانيا وذلك بعد أن إطمأنت على
سلامتها وتفوق قواتها العسكرية على القوات الألمانية،كما عملت بريطانيا على تقوية
ألمانيا تدريجيا وذلك لسببين هما : أ-حتى تكون ألمانيا قادرة عسكريا وإقتصاديا
وسياسيا على وضع حد للإقتحامات الشيوعية القادمة من الإتحاد السوفياتي والتحركات
اليسارية الداخلية التي تهدف لتغيير الأوضاع السياسية في القارة الأوروبية. ب-عدم
جعل فرنسا أقوى قوة برية في أوروبا حتى لا تصبح أعلى شأنا من دول أوروبا الأخرى.
كما
كانت هذه السياسة تهدف إلى إعادة التنافس بين فرنسا وألمانيا،لهذا عارضت بريطانيا
سياسة فرنسا بشأن التعويضات التي فرضت على ألمانيا كعقوبة على الأضرار التي أصابت
الحلفاء عقب الحرب،لهذا عندما طالبت ألمانيا بتأجيل دفع التعويضات لعدم قدرتها
على ذلك وأنها ستنهار إقتصاديا،وافقت بريطانيا عل هذا المطلب بينما عارضته فرنسا،ولكن أمريكا تدخلت في هذا الوقت لحل الأزمة بين جميع الأطراف المتصارعة،حيث تكونت
لجنة خبراء قامت بدراسة الأوضاع الإقتصادية الألمانية،ونتج عن أعمال هذه اللجنة
مشروع درور الذي حاول التخفيف العبء عن ألمانيا و لكنه لم يحدد مدى زمني لدفع هذه التعويضات،ثم جاء مشروع يونج الذي خفف التعويضات
من 32 مليار إلى 8 مليار،كما أنه حدد
المدى الزمني لدفع التعويضات بتسعة وخمسين عاما،بالإضافة إلى أنه أعطى الحق لألمانيا في
تأجيل الدفع إذا كانت الأوضاع الإقتصادية والصناعية فيها متدهورة.
ومن
ناحية أخرى كانت التسوية الإقليمية الأوروبية غير منطقية لأنها أغفلت الإتحاد
السوفياتي،حيث إن روسيا إنسحبت من الحرب العالمية الأولى بعد نجاح الثورة الشيوعية
فيها،وذلك عندما قام النظام الجديد بإنهاء الحرب مع ألمانيا بموجب معاهدة برست ليتوفسكك والتي فرضت على روسيا التنازل عن الأقاليم الغربية لصالح ألمانيا،وقد عجزت روسيا
عن إسترجاع هذه الأقاليم عقب الحرب لأنها كانت منهكة في حرب أهلية من جهة ومعرضة
لضغوط خطيرة من قبل الدول المنتصرة من جهة ثانية،إلا أنها تمكنت بعد أربع سنوات
بعد الحرب العالمية من التغلب على التمرد الداخلي والتدخل الخارجي وبالتالي حققت
النجاح الذي كانت تخشى منه الدول الأوروبية الكبرى آن ذاك،ولكن نجاح الشيوعية في روسيا لم يعطها
الإعتراف الدولي مباشرة،حيث إستمرت الدول الكبرى الأوروبية في الإعتداء عليها ومحاولة
حصارها كي لا تنهض وتكون دولة قومية لها نفوذ وتقدير دوليين،ولكن إستطاعت روسيا
أن تحقق النجاح في سياستها الداخلية والخارجية حتى حصلت على الإعتراف الدولي
وإنضمت إلى عصبة الأمم في 1934.
2-التسوية
خارج أوروبا
أ-الشرق
الأوسط
لقد
أبرم الحلفاء عدة معاهدات سرية أثناء الحرب العالمية الأولى لتقسيم الشرق الأوسط
بينهم بعد إنهيار الدولة العثمانية،حيث تم إقتسام الشرق الأوسط العربي بين فرنسا
وبريطانيا،فحصلت فرنسا على لبنان وسوريا فيما حصلت بريطانيا على العراق والأردن
وفلسطين،وقد تم إخضاع هذه الدول العربية الأسيوية لنظام الإنتداب بالرغم من وعد
بريطانيا للشريف حسين في عام 1915 بأنها سوف تحترم وتعترف بأن تكون الأماكن
الإسلامية المقدسة والجزيرة العربية ضمن حكومة إسلامية مستقلة،وقد كان نظام
الإنتداب هذا وسيلة حديثة للإستعمار بحيث أعطى الدول الكبرى الحق الشرعي في إحتلال
مناطق وقوميات أجنبية تحت شعار الإستقلال،ولكنه كان إستعمار جديد يفرض على
القوميات الخضوع للدول الإستعمارية،وعلى الرغم من ذلك فإن الإنتداب ساعد العرب
على توحيد مقاومتهم ضد الغرب،حيث أن الفترة بعد الحرب العالمية الأولى كانت من أهم
الفترات الزمنية في نشوء القومية العربية وتطورها وهذا أدى إلى نشوء الثورات
المتعاقبة ضد السياسات الإستعمارية التي كانت تمتاز بالخداع وعدم الإنسانية.
ب-الشرق
الأقصى
لقد
كانت أكثر الدول المستفيدة من مشاركتها في الحرب العالمية الأولي ونتيجة معاهدات
الصلح هي اليابان،حيث حصلت على إمتيازات عديدة في الشرق الأقصى كما أنها إستولت
على الجزر التي كانت تابعة لألمانيا في المحيط الهادي،وقد كان هذا التوسع الياباني
يثير مخاوف كبيرة من جانب الولايات المتحدة التي خشيت من منافسة اليابان لها،لهذا
عملت الولايات المتحدة على إبرام معاهدة مع الدول الأوروبية الكبرى وذلك لوضع حد
للتوسع الياباني،وقد إنتهجت أمريكا هذا الأسلوب الدبلوماسي لكي لا تقف أمام
اليابان بمفردها بإعتبارها الدولة الوحيدة المعادية للتوسع الياباني،وهكذا كانت أول
معاهدة أبرمتها أمريكا بهذا الصدد هي معاهدة (القوى الخمس) بينها وبين اليابان
وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وقد حددت هذه المعاهدة التسلح البحري بين الدول
المشاركة،كما حددت هذه المعاهدة نسب القطع البحرية الثقلية لكل دولة،أما السفن
الحربية الخفيفة والغوصات فلم تحددها،وقد نجحت أمريكا في هذه المعاهدة لإنها
إتفقت مع بريطانيا على وضع حد للتسلح البحري الياباني،كما وتلت هذه المعاهدة معاهدة
أخرى تعرف بمعاهدة (القوى الأربع) وكانت بين الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا
واليابان،حيث ألزمت هذه المعاهدة الدول الموقعة عليها بإحترام حقوق الدول الأخرى
في المحيط الهادي والتشاور فيما بينها لتسوية أي خلاف بينهم،ثم عقدت بعد ذلك
المعاهدة الثالثة والتي عرفت بمعاهدة (القوى التسع) وكانت بين الولايات المتحدة
وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان والبرتغال وبلجيكا والصين وهولندا،وقد ألزمت
هذه المعاهدة الأطراف فيها بإحترام إستقلال الصين وسلامة أراضيها،كما نصت على أن
تلتزم هذه الدول بمبدأ المساوة بينها فيما يتعلق بالتجارة مع الصين،وقد أدت هذه
المعاهدات الثلاث إلى إخفاق الإمتيازات التي حصلت عليها اليابان في الشرق الأقصى
ولا سيما في الصين،كما كان من نتائج هذه المعاهدات حدوث إنقلاب عسكري في اليابان أطاح بالحكم المدني،وهذا أدى بأن تنتهج اليابان سياسة جديدة تهدف إلى توسع اليابان في الشرق الأقصى
بصرف النظر عن التحديات من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
مفهوم
سياسة الوفاق
مع
إنتهاء الحرب العالمية الأولى،شهدت أوروبا مشاكل إجتماعية وإقتصادية كبيرة خاصة
في الفترة بين 1919-1923،وقد أثرت هذه المشاكل على المجتمع الأوروبي بشكل عام،بالإضافة
إلى أن العديد من القوميات التي كانت خاضعة للإستعمار أصبحت مستقلة وإتبعت سياسة
إقتصادية تعتمد الإنتاج والصناعة المحلية،وكان نتيجة ذلك أن الدول الكبرى فقدت عدة
أسواق مهمة لتجارتها،ولكن هذه الفترة لم تدم إذ تلتها فترة نهوض إقتصادي بشكل عام
إبتداءا من عام 1924،وقد كان من نتائج هذا التغيير أن الدول الأوروبية إنتهجت
سياسة جديدة،وهي سياسة الوفاق والتفاهم والتي توجت بإتفاقيات لوكارنو عام 1925
ومشروع يونج للتعويضات.
أ-معاهدات
لوكارنو
بعد
فشل عصبة الأمم في حل المشكلات بين الدول الكبرى التي كانت تتبع سياسات متعارضة
ومتناقضة مع مبادئ ميثاق العصبة من حيث الأهداف والوسائل،دعت حكومة ألمانيا إلى
عقد مؤتمر لوكارنو الذي جمع بين كل دول أوروبا الغربية وذلك لتبادل وجهات النظر
المختلفة في المسائل السياسية،وقد كان هدف ألمانيا من هذا المؤتمر أن تتفاهم مع
خصومها وأن تحرر أراضيها المستعمرة في منطقة الراين،كما وقد أسفر هذا المؤتمر عن عدة
إتفاقيات عرفت (بإتفاقيات لوكارنو) والتي أسفرت بدورها على : 1-قبول ألمانيا في عصبة
الأمم عام 1926. 2-إتفاق بريان-كليوج بشأن تحريم الحرب عام 1928. 3- إحترام الحدود
بين فرنسا وألمانيا وبين ألمانيا وبلجيكا والإعتراف بها. 4- حققت بإستمرار منطقة
الراين كمنطقة منزوعة السلاح. 5-كما أنها أثبتت أن أي نزاع بين ألمانيا من جهة
وفرنسا وبلجيكا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا من جهة أخرى سيحل عن طريق عرض القضية أمام المحكمة
الدولية أو عن طريق المفاوضات مع إثبات هذه الإتفاقيات على المحافظة على الوضع
الراهن (النزاع الحدودي بين ألمانيا وبولندا لم يحل لشدة تعقيده). 6-قبول خطة يونج
للتعويضات عام 1928،وأخيرا يجب أن نذكر أن فرنسا قبلت بإتفاقيات لوكارنو لأنها
ظلت محتفظة بتفوقها العسكري في القارة الأوروبية،كما أن هذه الإتفاقات أتهمت بأنها
أدت إلى سياسة الإسترضاء بعد أن تولى النازيون السلطة في ألمانيا.
ب-مشروع
يونج
لقد
تم مشروع يونج في عام 1928 وذلك لدفع التعويضات،وقد خفض هذا المشروع التعويضات
المفروضة على ألمانيا من 32 مليار إلى 8 مليار تدفع خلال 59 سنة،وإذا كان الإقتصاد
الألماني متدهور فتلغى هذه التعويضات وذلك بعد رضا الأطراف المعنية،وهذا ما حصل
فعلا حين ظهرت الأزمة الإقتصادية عام 1929 ولم تقدر ألمانيا على السداد،فتدخلت
الولايات المتحدة الأمريكية لتأجيل دفع الديون لمدة عام،وفي عام 1932 وافقت الدول
الدائنة لألمانيا وهي فرنسا وبلجيكا وبريطانيا وإيطاليا على إنهاء دفع التعويضات
الألمانية ولكن بشرط تسوية قضية ديون الحرب مع الولايات المتحدة،وقد وافقت تلك
الدول على هذه السياسة بسبب تدهور الإقتصاد العالمي،وقد ظلت قضية التعويضات هذه
معلقة حتى نشوب الحرب العالمية الثانية في عام 1939.