الله سبحانه وتعالى دوما يقول في القرآن الكريم: (يا أيها
الذين آمنوا) قاصدا بذلك الرجال والنساء معا،ولا يوجد في القرآن كله آية تقول: (يا
أيها الذين آمنوا ويا أيتها اللواتي آمنتنّ) ما عدا قوله تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ
وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ
وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ
وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ
كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب 35)،حيث فصلت هذه الأية المذكر عن المؤنث،والسـبب
في ذلك هو أن الله تعالى في هذه الآية لا يعدد بل يصنف درجات الإيمان من المرتبة الأدنى
إلى المرتبة الأعلى وهي:
1- (المسلمين والمسلمات): أي الذين يؤدون شعائر الإسلام فقط
وهم الغالبية العظمى،حيث لا يوجد في كل القرآن الكريم آية تقول: (يا أيها الذين أسلموا)،فالإسلام
أدنى مرتبة من الإيمان لقوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات 14).
2- (المؤمنين
والمؤمنات): وهذه الفئة هي التي يخاطبها الله دوما بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهم الذين يحققون الشروط التسعة الواردة في
قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ
الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)
(التوبة 112)،فبعد الإيمان تأتي البشرى والبشائر،وبدون تحقيق هذه الشروط التسعة السامية من الأخلاق والتصرفات الحميدة سنبقى
مسلمين فقط،وينطبق علينا قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا
وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات 14).
كما يرجى الإنتباه بدقّة أن بين هذه الصفات التسعة لا يوجد
صفة (الإعتداء على الأخرين)،وأن كلمة (السائحون) تعني المتفرغون لمساعدة الغير في الشدائد.
3- (القانتين والقانتات): والقنوت ليس دعاء أو صلاة فقط ولكن
القنوت هو الطاعة المطلقة مع الرضا التام،وهذا ما طالبت به
الملائكة الكرام مريم
عليها السلام،حيث قال تعالى: (يَا مَرْيَمُ
اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (آل عمران 43)،وهذا ما طالب به الله سبحانه نساء النبي رضي الله
عنهن جميعا وأرضاهن،حيث قال تعالى: (وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا
أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا) (الأحزاب 31).
وقد وصلت السيدة مريم إلى مرتبة القنوت،حيث قال
تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ
الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ
رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) (التحريم 12)،ونلاحظُ هنا أن الله تعالى قال: (من القانتين)
ولم يقل (من القانتات) أي بدّل صيغة المؤنث بصيغة المذكر،والسـبب في ذلك أن عدد القانتين
قليل جدا بين المؤمنين،وذلك مع أن كلمة (القانتات) موجودةٌ في القرآن،خاصة في هذه الآية
التي نناقشها الآن (الأحزاب 35)،والذي يجدر ذكره هنا أن الزوجةُ (الصالحة) هي التي
تحقّق (القنوت)،حيث قال تعالى:
(فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ
حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) (النساء 34).
4- (الصادقين والصادقات): وهم الذين ينطقون بالصدق في
كافة الأحوال ومنهم يوسف عليه السلام،حيث قال تعالى: (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ)
(يوسف 27).
5- (الصابرين والصابرات): ومن هذه المرتبة كان أيوب عليه
السلام،حيث قال تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ ۗ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ
ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص 44)،كما ويجب التمييز هنا بين درجات الصبر،حيث قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران 200) وقال تعالى: (رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ
لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (مريم 65) ودرجات الصبر هي:
- التصبر: وهو الصبر بتكلف والشعور بالضيق والملل وهو أدنى
الدرجات.
- الصبر: وهو الحالة الوسطى،حيث الصبر بصمت وهدوء وتحمل.
- الصبر الجميل: وهو الصفة الأساسية للشخص بحيث يكون من طبيعته
الصبر وبدون شكوى،وهذه الدرجة وصل إليها يعقوب عليه السلام،حيث قال تعالى: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف 18).
أما أعلى درجات الصبرعلى الإطلاق،فقد وصل إليها من كل البشرية
فقط خمسة من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وهم (أولوا العزم) (نوح - إبراهيم
- موسـى - عيسـى - وسيد أولي العزم هو محمد)،حيث قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ
لَهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً
مِنْ نَهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) (الأحقاف 35)،وأخيرا فإن الصبر يعتبر هو الشرطُ
الرئيس لدخول الجنة،حيث قال تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ) (القصص 80).
6- (الخاشعين والخاشعات): ومنهم مجموعة من الأنبياء والرسل
الكرام،بحيث ذكرهم الله تعالى في سورة الأنبياء وهم : (موسى - هارون - إبراهيم - لوط
- أسحاق - يعقوب - نوح - داوود - سليمان - أيوب - إسماعيل - إدريس - ذو الكفل -
يونس - زكريا - يحي - مريم – عيسى)،حيث قال تعالى عنهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا
ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء 90).
7- (المتصدقين والمتصدقات): وهم الذين قال الله تعالى
عنهم: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم
بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ
وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة 274)،وهذا الإنفاق ليس المقصود به
مال الزكاة لأن الزكاة هي للبخلاء من المسلمين،فهم يعطون المال بلا مقابل لعدة فئات
من الناس،حيث يقول الله تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ
أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ
وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ) (البقرة 177).
8- (الصائمين والصائمات): والمقصود هنا الصوم بحرف الواو
وليس الصيام بحرف الياء،لأن الصيام يأتي مع المرتبة الأولى (المسلمين والمسلمات) لأنه
ركن من أركان الإسلام وهو في شهر رمضان،أما الصوم هنا فمعناه قول الحق مع الآخرين،ويأتي
الصوم بهذا المعنى في كل أيام السنة،وذلك مثلما فعلت السيدة مريم عليها السلام والتي
كانت تأكل وتشرب ثم قالت للناس،حيث قال تعالى: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا
فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) (مريم 26)،وبتحقيق الصوم يتخلّص المجتمع من الكثير
منَ المشكلات والخلافات ولكن مع الصيام نجد إزدياد المشكلات في المجتمع بحجة الصيام
وضيق الخلق.
9- (الحافظين فروجهم والحافظات):
ونلاحظ هنا أن الآية الكريمة تقول (الحافظين) ولم تقل الممسكين مثلا،وذلك لأن
الحفظ أقوى وأشمل،فالذي يحفظُ فرجه فإنه يحفظه حتى منَ الأمراض السارية،ولذلك
تقول الآيات عن الذين يمارسون الجنس خارج إطار العلاقات الزوجية أنهم عادون وليس
معتدون فقط،فكلمة عادون تدل على شمولية العدوان مثل العدوان على النفْس وعلى
الآخرين وعلى المجتمع،حيث قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء
ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (المؤمنون 5 - 7) ولذلك ربط الحافظون
لفروجهم مع المؤمنين وليس المسلمين.
10- (الذاكرين الله كثيرا والذاكرات): وهي أعلى مراتب الإيمان،لذلك
كان اأسوتهم الحسنة إمام المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين،ففي ذات سورة
الأحزاب يقول تعالى: (لَّقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب 21).