التطبيع مع إسرائيل هدف المنظمات غير الحكومية ومنظمات التمويل الأجنبي
أما في اللغة فتأتي لفظة تطبيع على وزن تفعيل، وهي عملية وصيرورة دائمة وصولًا لتحقيق غاية محددة، لا خطوة واحدة عابرة سريعة أو غير سريعة، فالتطبيع نهج وأداء وعقلية، جوهره كسر حاجز العداء مع العدو الصهيوني بأشكال مختلفة، سواء كانت ثقافية أو إعلامية أو سياسية أو اقتصادية أو سياحية أو دينية أو أمنية أو إستراتيجية أو غيرها.
لكن بغض النظر عن الشكل، فإن فحوى التطبيع مع العدو الصهيوني يبقى واحدا، وهو جعل الوجود اليهودي الصهيوني في فلسطين أمرًا طبيعيًا، وبالتالي فإن أي عمل أو صمت أو تقاعس يؤدي إلى التعامل مع الوجود اليهودي في فلسطين كأمر طبيعي يحمل في طياته معنى تطبيعيًا، وهنا ندخل في صراع مبدئي وفورًا مع من لا يرى في التواجد اليهودي في فلسطين مشكلة، متجاهلًا أنه احتلال وأنه يمثل التجسيد الديمغرافي للفكرة الصهيونية في فلسطين، بحيث تراه يعترف به وبكل حماسة تحت ستار مقولات مخترقة تطبيعيًا بالتعريف، مثل مقولة (الدويلة الفلسطينية) و(الدولة الواحدة) و(قرارات الشرعية الدولية) وما شابه، وهي مقولات تتضمن قبولًا صريحًا بالتواجد اليهودي في فلسطين، وذلك من خلال ما يسمى بدولة (إسرائيل) بشكلها الحالي أو كدولة من المطلوب (إصلاحها ديموقراطيًا وسلميًا من الداخل)، إذًا الخلاصة هي أن جوهر التطبيع هو كسر حاجز العداء مع الكيان الصهيوني بهدف جعل الاحتلال الاستيطاني الإحلالي في فلسطين أمرًا طبيعيًا أو مقبولًا أو عاديًا.
أما كيف أن التطبيع مع العدو الصهيوني (إسرائيل) يتم تحت سقف القانون الدولي، فيجب أن نذكر أنه ونتيجة لإنشاء منظمة التجارة العالمية (WTO) بتاريخ 1/1/1995م وهي منظمة عالمية مقرها مدينة جنيف في سويسرا، مهمتها الأساسية هي ضمان انسياب التجارة بأكبر قدر من السلاسة واليسر والحرية، وهي المنظمة العالمية الوحيدة المختصة بالقوانين الدولية المعنية بالتجارة ما بين الدول في العالم، انطلقت رسميًا هذه المؤسسة وغيرها من المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى العمل على إضعاف الصلاحيات الاقتصادية للدول وتقويض سيادتها ومشروعيتها لحساب الشركات العابرة للقارات (متعددة الجنسيات)، وذلك من خلال فرض الخصخصة وإنهاء دولة الرعاية الاجتماعية.
إن تنفيذ الأجندة المذكورة أعلاه ترك فراغا في الدول، حيث إن انسحاب الدولة من حيز الاقتصاد، ومن حيز المجتمع أصبح يتطلب جهة أخرى لا تمثل حكومة معينة لملء هذا الفراغ، وذلك من أجل تحقيق استقرار نظام العولمة الجديد، فقوى العولمة هذه إذا قامت بإجراءات تفكيك الدولة الوطنية، دون صمام أمان، فإن ذلك قد يؤدي إلى ثورات شعبية تطالب بالتنمية المستقلة والتحرر والسيادة الوطنية، وهذا ما سوف يخرب ويعطل كل مشروع العولمة.
فالعولمة هي عملية اندماج الإقتصادات المحلية والوطنية والإقليمية والدولية في شبكة عالمية واحدة، وهو ما يتمثل بتزايد حركة رأس المال والسلع والخدمات والأفراد والمعلومات والتأثيرات الإعلامية والثقافية وغيرها عبر الحدود، بحيث تمثل الشركات والمؤسسات متعددة الجنسيات جوهر العولمة الأساسي والرئيس، منتجة بذلك برنامجًا وأسلوبًا جديدًا يتطلب إضعاف الدول المركزية وحتى الدول التابعة للإمبريالية منها، وإعادة إنتاج الجغرافيا السياسية على أسس جديدة ترتكز على الهويات الفرعية والمحلية والطائفية والعرقية والإثنية والجندرية وغيرها.
ومن هنا بدأ التركيز على دور ما يسمى بالمنظمات غير الحكومية ومنظمات التمويل الأجنبي كجهة تهدف بشكل رئيس إلى تحقيق استقرار نظام العولمة كصمام أمان سياسي ووظيفي، وذلك حتى لو قدمت نفسها بصورة غير سياسية لتفكيك الدولة الوطنية والإمساك بالقوة المجتمعية التي انسحبت الدولة من تغطيتها تحت شعار ما يسمى (مؤسسات المجتمع المدني).
فمنظمات التمويل الأجنبي غير الحكومية تقوم بطرح قضايا مهمة بالتأكيد، ولكنها ليست الأهم، بل غالبًا ما تكون القضايا التي تبعدنا عن القضية الرئيسة في المرحلة الراهنة، فنحن مجتمعات تعاني أساسًا من التخلف والتبعية والتجزئة والاحتلال، وهذه المنظمات مهمتها إدارة عوائق هذه المشكلات فقط، حيث تقوم بتفكيك القضية الوطنية إلى شذرات (قطع متناثرة) يسهل بعدها أن تتحول إلى تفاصيل تقنية يمكن توظيفها في ترقيع مساوئ النظام من زاوية إصلاحية، وذلك من خلال نخب من قادة أو ناشطين أو فاعلين أو مثقفين تقولبوا فكريا وأيديولوجيا في الفكر الليبرالي ممتدين محليًا ومرتبطين بالخارج، ليس فقط من الناحية المالية والتنظيمية، وإنما من الناحية الثقافية أيضًا، وكل ذلك يحصل في وطننا العربي.
نقول الوطن العربي، وليس العالم العربي؛ لأنه توجد حركة صهيونية ودولة محتلة غاصبة اسمها الكيان الصهيوني المحتل (إسرائيل)، فإذا ربطنا ما بين العولمة من جهة وما بين الصهينة من جهة أخرى، ينتج لدينا مشروع (الشرق أوسطية) وهو مشروع تغيير هوية وثقافة الوطن العربي لضرب القاسم المشترك الجامع (العروبة والإسلام) وإعادة إنتاج الجغرافيا السياسية للمنطقة من خلال تفكيك الدول على أسس طائفية وإثنية وعرقية وجهوية وغيرها كما ذكرنا سابقًا.
ففكرة إعادة إنتاج الجغرافيا السياسية للمنطقة وإعادة إنتاج هويتها وثقافتها (الشرق أوسطية) والتي تديرها منظمات التمويل الأجنبي هي تطبيع مفضوح؛ لأنه عولمة زائد صهينة، طبعًا منظمات التمويل الأجنبي استغلت كراهية الشعب العربي لأنظمته كما استطاعت فصل خطابها عن خطاب الأنظمة العربية، مقدمة نفسها للشعب العربي باعتبارها مدافعًا عن (الديموقراطية) و(حقوق الإنسان)، كما تمكنت من أن تنسي الناس دورها في تأسيس الكيان الصهيوني ودعمه وفي تسويق ما يسمى (العملية السلمية) وفي العدوان على العراق وعلى كل شعوب الأرض من أمريكا اللاتينية إلى فيتنام، بالإضافة إلى مساهمتها في ظهور معارضات عربية تدعو للتدخل الأجنبي لإضعاف الدول وتفكيكها وإعادة إنتاج هويات ودول جديدة، وكل ذلك بالتوازي مع جعل الكيان الصهيوني كيانًا طبيعيًا ومقبولًا في المنطقة، وجعل التسويات والمعاهدات الجسر الذي يعبرون عبره من مرحلة السلام مع دول إلى مرحلة السلام مع دويلات يهيمنون عليها (الشرق الأوسط الإسرائيلي).
هكذا فإن
السياق العام لمنظمات التمويل الأجنبي في بلادنا هو سياق تطبيعي بالضرورة، ومنه
فإن المساعدات الإنسانية التي تقدم للشعب الفلسطيني ما هي إلا مشروع تخفيض كلفة
الاحتلال على الاحتلال، وكدليل على أن القوة الكامنة وراء التمويل الأجنبي هي
نفسها القوة الكامنة وراء التطبيع، نذكر أن الوكالة الأمريكية للتنمية (USAID) لا تمنح اعتماداتها حسب الوثائق الخاصة بها حرفيًا: (لأية مجموعة
تدعو أو تولد التعصب أو العنف أو تمثل تهديدًا لوجود وشرعية وجود دول شرعية
وسيادية، مثل إسرائيل)، إذن فاتفاقيات السلام – أي التطبيع – لا تأتي من فراغ، بل
ثمة عمل طويل المدى أتى لينتجها، حيث تعتبر المنظمات غير الحكومية ومنظمات التمويل
الأجنبي أحد عناوينه وروافده الكثيرة.
رابط المقال
في ساسة بوست:
https://www.sasapost.com/opinion/normalization-with-israel/