أزمة الرئاسة في الجزائر وعجز النظام
أزمات عديدة عاشها الجزائريون في السنوات الخمس الماضية، وذلك في ظل
غياب الرئيس عن المشهد السياسي للبلاد منذ بدء عهدته الرابعة في 2014، فيما حضرت
صورته بديلا عنه في بعض المناسبات الوطنية، وحضرت خطاباته ومراسلاته المكتوبة
بديلا عن الخطاب المسموع والحماسي، لهذا كان يصعب على المتابع فهم إصرار النظام
الجزائري التمسك بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة كمرشح لولاية خامسة قبل عدوله عن ذلك
تحت ضغط الجماهير والمظاهرات، وذلك على رأس أكبر دولة أفريقية من حيث المساحة،
ويقطنها 40 مليون نسمة، وهو شخص مقعد لا يستطيع القيام بحاجياته الخاصة دون مساعدة،
حيث كان قد تعرض لجلطة دماغية في أبريل/ نيسان 2013 جعلته مقعدا، وأفقدته القدرة
على الكلام بطريقة عادية.
غياب الرئيس وغياب معلومات موثوقة عن حالته الصحية أفسح المجال
للإشاعات التي تداولتها مختلف وسائل الإعلام والصحف
داخل البلد وخارجه، ما خلق
ضبابية شديدة حول هوية خليفته، كما خلقت حالة من الفراغ في ظل غياب الرئيس عن
القيام بمهامه كحكم بين مختلف الأجهزة والمصالح الحكومية، التي بدا وكأنها دخلت في
صراع محموم فيما بينها لتحديد من ستكون له الكلمة الأخيرة في تعيين الرئيس القادم،
هذا ورغم كل القوة التي استجمعها الرئيس في بداية عهدته الرابعة فإنها لم تغير من
واقع أنه لا يستطيع ممارسة مهامه بصورة منتظمة، وذلك رغم حرصه على ترؤس مجلس
الوزراء للتوقيع على بعض القوانين واستقبال بعض رؤساء الدول الذين يزورون الجزائر.
الرئيس بوتفليقة لم يعد يحكم، كما أن غيابه عن الحضور السياسي على
المستوى الداخلي والخارجي لأشهر متتالية دفع كثيرين
للتساؤل حول حقيقة دور
بوتفليقة في اتخاذ القرار السياسي للبلاد، حيث بدأ البعض إعادة ترتيب الفواعل
والعلاقات الجديدة في هدوء تام، محافظين على الوضع القائم في الظل وذلك في مسرحية
سياسية، فالرئيس مريض وعاجز عن تسيير الدولة، وهناك أطراف تتكلم باسمه، والأصوات
الشعبية بدت فاقدة الثقة في أهلية الرئيس لاستكمال العهدة الخامسة، وعن عدم قدرته
على اتخاذ القرارت السياسية للبلاد، وكذلك رفضا للفساد في البلاد.
هناك ترتيبات وتغيرات في الجزائر في ضوء ما يدور خلف الكواليس، وحرب
تكسير عظام بين الأجهزة والمؤسسات المتنافسة على خلافة بوتفليقة، حيث شهدت الجزائر
مؤخرا العديد من المفاجآت والتغييرات السياسية، حروب وصراعات على السلطة تدار خلف
الكواليس، وذلك بهدف إعادة ترتيب هياكله بما يتناسب مع متطلبات المرحلة المقبلة،
حيث بدأت تلك الترتيبات المتصاعدة مع أزمة وفضيحة الكوكايين الواردة من البرازيل، وهي
احتجاز قوة من الجيش 701 كيلو جرام من الكوكاين عالية النقاء قادمة من البرازيل
على متن حاوية لأكبر تاجر لحوم مجمدة في البلد، وتحقيقات القضية أظهرت صلات صاحب
البضاعة داخل القضاء والشرطة والإدارة وحتى الجيش، كما اتهم فيها قيادات أمنية
كبرى، والتي قد تكون إشارة إلى صراعات داخل الجيش.
هذا وكان هناك أزمة رئيس البرلمان، وذلك في ضوء رفض سعيد بوحجة، رئيس
البرلمان، الاستقالة بعد دعوة أحمد أويحيى له بالاستقالة، حيث شهدت الجزائر تجميدا
لنشاط البرلمان، فيما قام نواب أحزاب الموالاة بمنع بوحجة من دخول مكتبه، وهو المعروف
بعلاقته القوية مع قايد صالح، ثم إعلان شغور منصب رئيس البرلمان، بطريقة رآها
البعض غير شرعية، انتهت إلى اختيار معاذ بوشارب خلفا له، وهو المحسوب على حزب
الرئيس، ثم أزمة الأمين العام للحزب الحاكم، حيث شهد الحزب الحاكم أزمة إدارية في
أعقاب استقالة الأمين العام للحزب جمال ولد عباس أكثر الداعمين للعهدة الخامسة
لأسباب صحية، أعقبها تخبط وتردد في بيانات الحزب حول ماهية الاستقالة، ثم تشكيل
لجنة تنفيذية بقيادة معاذ بوشارب لتسيير أعمال الحزب.
المستفيد الأكبر من هذا كله هو الجنرال أحمد قايد صالح، حيث تشير
المعطيات إلى أن حربه على الرئاسة في الكواليس بدأت مع
إقالة الجنرال توفيق في
2015، ومحاولة الجنرال أحمد قايد صالح، نائب وزير الدفاع، الانفراد بالمشهد
السياسي والأمني بالبلاد، حيث شهدت العهدة الرابعة ظهور إعلاميا وميدانيا غير
مسبوق له، فكان رجل العهدة الرابعة الأبرز، وتكلل ذلك مع قرارات إقالة بعض قيادات
الجيش والشرطة الأخيرة، ليصبح قايد صالح المستفيد الأكبر من التطورات الداخلية في
الجزائر، خاصة عندما صرح بضرورة إبعاد الجيش عن المهاترات الحزبية والسياسية بعد
دعوات لتدخل الجيش في الحياة السياسية، والذي لاقى ترحيبا كبيرا من الأحزاب
السياسية الموالية للرئيس، والتي تلعب هي الأخرى دورا غامضا في اتخاذ القرار
السياسي للبلاد.
طبعا قضية خلافة بوتفليقة لا تزال
معلقة، وليس واضحا من هو صاحب الحظوظ الأوفر في تولي هذا المنصب، حيث كان يعتبر
رئيس الوزراء، أحمد أويحيى من بين الأكثر ترشيحا لخلافة بوتفليقة، وهو الذي يشغل
منصب الأمين العام لحزب (التجمع الوطني الديموقراطي)، ثاني أكبر الأحزاب في البلاد
والموالي للحزب الحاكم، كما كان أحد أذرع بوتفليقة لإرساء حكمه في ظل الحرب
الأهلية والعشرية السوداء التي ضربت الجزائر في التسعينات، ولكنه الآن بات المنبوذ
الأول في الداخل الجزائري لأنه يعتبر من العصابة الحاكمة السارقة والفاسدة التي
كانت تحكم البلاد، وذلك حتى بعد أن ركب موجة دعم التظاهرات الشعبية التي نادت بعدم
ترشح بوتفليقة وتغيير وجوه النظام.
هناك أيضا سعيد بوتفليقة، وهو ليس مجرد أخ للرئيس، إنما أحد أذرعه القوية التي كانت خفية،
ثم سرعان ما برزت للعلن بفعل مرض بوتفليقة، ومن أجل التفرغ لمرحلة ما بعد الثورات
العربية، تخلى سعيد عن قيادة حزب (التجمع من أجل الوئام الوطني) الذي أسسه عام
2010، ليظهر علانية أنه سيكون خليفة أخيه إن كان حتما هناك تغيير قادم، بحيث سبق
أن لعب سعيد دورا كبيرا في الإطاحة برؤساء حكومات، والتدخل بالدوائر القيادية في
حزب (جبهة التحرير الوطني).
أما مولود حمروش، منافس بوتفليقة القديم، فيعتبر من أحد أفراد نظام ما
قبل بوتفليقة، حيث كان أحد كوادر حرب التحرير وأحد أعضاء حزب جبهة التحرير، ويوصف
مولود حمروش بأنه مهندس مرحلة الانفتاح السياسي
في الجزائر، وذلك بمشاركته في وضع دستور 1989 الذي أنهى مرحلة الحزب الواحد
(جبهة التحرير)، لكنه الآن أصبح منبوذا وخارج الجبهة وطمس ماضيه، بخلاف عدم
امتلاكه ظهيرا حزبيا وسياسيا قويا، حيث نافس بوتفليقة في انتخابات 1999، لكنه
سرعان ما انسحب متهما النظام بالانحياز إلى مرشحه، ورفض بعد ذلك الترشح مجددا
بدعوى غياب ضمانات النزاهة، حيث يريد حمروش أن يطرح نفسه من خلال بوابة الشارع لا
النظام، مروجا لنفسه وسط قطاعات الشباب أنه رجل المرحلة رغم كبر سنه.
كما يعتبر عبد العزيز بلخادم مرشحا بارزا أيضا، وهو الذي عاد مجددا
إلى حظيرة الرضا بشكل مفاجئ، وذلك ضمن خطة النظام لإجبار الجميع على قبول مرشح
معين، فقد يتم الدفع به في الانتخابات الرئاسية، أو على الأقل يظل ظهيرا لمن يستقر
عليه النظام بشكل نهائي، وهو من أقدم الوجوه السياسية في الجزائر، رغم خروجه
المهين من السلطة على يد الرئيس بوتفليقة عام 2014، وذلك حينما أقاله من منصبه كمستشاره الخاص، وليس هذا فحسب،
بل منعه من شغل أي منصب في أي من مؤسسات الدولة، حيث ولج بلخادم إلى السياسة عبر
أبواب من سبقوه، وشغل منصب نائب مدير العلاقات الدولية برئاسة الجمهورية، وظل أحد
قياديي جبهة التحرير، لينتخب نائبا في البرلمان، وشغل منصب نائب رئيس البرلمان، ثم
تولى رئاسته، هذا ويعد بلخادم من أهم قياديي الحزب الحاكم، فقد كان عضوا في المكتب
السياسي، ثم عضوا في لجنته المركزية، وعين بعدها وزير دولة للشئون الخارجية، ومن
يومها ظل أحد أذرع الرئيس، حتى وصل الأمر به إلى الإطاحة بعلي بن فليس من منصب
الأمين العام لحزب جبهة التحرير وشغل مكانه، وظل ممثلا شخصيا لبوتفليقة حتى عام
2006، ليعينه رئيسا للوزراء خلفا لأويحيى حتى عام 2008، عائدا بعدها لمنصبه كممثل
للرئيس.
هناك أيضا عبد المالك سلال، أهم رجال بوتفليقة الذين اعتمد عليهم منذ
وصوله لكرسي الرئاسة، وما يزال يحظى بالقبول لدى جبهات النظام، وقد كان من ضمن
المرشحين لخوض غمار الانتخابات عام 2014، لكن مع ترشح بوتفليقة تراجع كغيره من
أبناء النظام، وتشير تقارير إلى أن بوتفليقة أقاله من رئاسة الحكومة تمهيدا ليكون
خليفته، فالجيش قد يعارض تولي أخيه الحكم خوفا من إرساء وراثة الحكم، وبهذا يحمي
سلال مصالح عائلة بوتفليقة والمقربين.
هذا ويبقى الإسلاميون الأكثر حذرا في التحركات الحالية، حيث لم يقدموا
خليفة لبوتفليقة، واكتفت تصريحات حمس (حركة مجتمع
السلم) على رفض العهدة الخامسة،
داعيةً في رؤيتها إلى دور أوسع للجيش في الحياة السياسية في ظل غياب التوافق على
خليفة لبوتفليقة، كما يسعى اليسار إلى رفض العهدة الخامسة مع طرح بعض الأسماء
للترشح، حيث أن من المحسوبين على المعارضة رئيس الوزراء السابق علي بن فليس، الذي
كان منافسا قويا لبوتفليقة عام 2009 وتم إقصاؤه.
لقد نجح الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، في تحييد الجمهور
والمعارضة طيلت فترات حكمه، بحيث حافظ النظام على محدودية الاحتجاجات، وذلك بسبب
تمتع التنظيمات المعارضة فقط بالقليل من الدعم الشعبي، علاوة على نجاح الحكومة في
تحييد الكثير منها، حيث شارك قادة معظم الأحزاب المعارضة بشكل أو بآخر ضمن مقاعد
الحكومات المتعاقبة، كما أثبت النظام في عام 2011 فعاليته في نزع فتيل الاحتجاجات
والغضب الشعبي على الظروف الاجتماعية والاقتصادية، والمستويات العالية من الفساد،
وسوء الإدارة وانعدام الأمل في المستقبل، فالجزائريون عاشوا عقد من الحرب الأهلية
خلال التسعينيات، وسيكونون حذرين من إثارة المشاعر التي أحدثت ذلك الصراع، حيث قد
تؤدي أخطاء قوات الأمن في قمع تلك الاحتجاجات، إلى توليد سخط أكثر صدقا وواسع
النطاق.
بيد أن التدهور المالي الناجم عن انخفاض أسعار الطاقة العالمية قد
يعرض نهج الحكومة هذا للخطر، فالنظام في الجزائر أصبح عاجزا وأمام طريق مسدود،
وذلك لأنه طوال السنوات السابقة لم يعمل على تحويل اقتصاده الريعي إلى اقتصاد
إنتاجي، حيث أدى الهبوط في الدخل والعجز المالي المستمر منذ عام 2008 إلى تعقيد
جهود الدولة لمواجهة المشكلات الاقتصادية المزمنة، وبطالة الشباب، والتوترات
المدنية، بحيث اعتمدت الحكومة على صندوق الثروة السيادية الخاص بها لتخفيف آثار
ذلك الهبوط، ولكنها لن تستطيع فعل ذلك للأبد، كما بدأ انخفاض إنتاج النفط والغاز،
مصحوبا بالهبوط العالمي في أسعار الطاقة في إجهاد الاقتصاد وماليات الدولة، حيث
تشكل صادرات النفط والغاز أكثر من 90% من كامل صادرات الجزائر و60% من عائدات
الدولة، والركود الاقتصادي الذي دخلت فيه البلاد بعد 2015 جعل قضايا الفساد الكبرى
التي كان بالإمكان إخفاؤها أيام (البحبوحة المالية) أصبحت تحتل الصحف المحلية
والعالمية، حيث تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن الجزائر تحتاج إلى سعر
للنفط يبلغ 96 دولارا للبرميل لموازنة ميزانيتها، وهو الرقم الذي يبدو من غير
المرجح أن يحقق في السنوات القادمة.
فلقد تمثل رد فعل النظام الجزائري لفترة طويلة، على الاضطرابات
والاحتجاجات التي يحركها التظلّم في إستراتيجية، حملات سريعة جنبا إلى جنب مع
إشباع للمصالح الرئيسة للمجموعات التي تقف وراء هذه الاضطرابات، بما في ذلك
العاملين في الخدمة المدنية والنقابات العمالية والعسكريين والشباب العاطلين عن العمل،
كما سمح للحكومة تجنب الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تشتد الحاجة إليها،
فمنذ نهاية الحرب الأهلية في البلاد عام 2000، أسهم الإنفاق الإستراتيجي إلى حد
كبير في قدرة الحكومة على استرضاء مواطنيها من أجل الحفاظ على الاستقرار، وذلك في
الوقت الذي تتجاهل فيه دعوات إجراء الإصلاحات السياسية
والاقتصادية الحقيقية.
هذا وعلى الرغم من خياراتها المحدودة، أبقت الحكومة الجزائرية العمل
على عدة مشاريع كبيرة لمعالجة الاحتياجات الاجتماعية، خاصة نقص المساكن، كما أنها
مترددة في القيام بتخفيضات في الإنفاق الاجتماعي والإعانات وبرامج الرعاية
الاجتماعية، لأن الخوف من تداعيات هذه الإجراءات يعود بالذاكرة إلى انهيار أسعار
النفط في عام 1986، الذي عجل بخفض كبير للدعم، مما أدى إلى الانتفاضة الشعبية في
أكتوبر 1988، وهي أحد العوامل التي أسهمت في الحرب الأهلية (1990-2000)، بالتالي
الحكومة غير راغبة في إجراء مناقشة مفتوحة حول الحاجة إلى خفض الإنفاق وإعادة
هيكلة الدعم، وذلك لدعم استقرار البلاد على المدى الطويل.