استهجان تشبيه الإنسان بالحيوان
يتجلى
فعل الحضارة أحيانا في استهجان المستحسن واستحسان المستهجن في التشبيه والمجاز، حيث
إن مما بهت له بعض المتأخرين من نقلة في تاريخنا العربي وأشكل عليهم في لغاتهم هو تشبيه
الإنسان في بعض أحواله بأنواع من الحيوان، وذلك بأنهم ينظرون إليها بعين المهانة، مع
أنها موضع العزة والكرامة، وهذا ولا ريب من نتائج طول العهد بالحضارة، ولا أعلم أهي حسنةٌ
لهذه الحضارة تمدح عليها أم سيئة تؤاخذ عليها.
لكن يجب
أن نعلم أن في أصناف كثيرة من الحيوان مزايا يعز على الإنسان أن يتصف بأحسن منها، كما
ولا أذكر حيوانا تقادم العهد على وضعه موضع الحس والهوان كـ (الكلب)، فقد عرض بذكره مرارا
وتكرارا للسباب والتحقير وهكذا فعل أكثر الكتَّاب من المتقدمين، وفي شعر العرب وكلام
مؤرخيهم وأدبائهم من هذا المعنى ما لا يدركه حصر، فلا يكادون يشيرون إلى شخص يريدون
إزدراءه أو شتمه وما أشبه إلا قالوا: (هذا الكلب البذيء) و(هذا العلج الكلب)، فكأنهم
تناسوا جميع ما في هذا الحيوان الأمين من كرم الخلال، وأغاروا على شيء من الدناءة فيه، وإن
كان لم يستأثر بها دون سائر الحيوان ناطقا كان أو غير ناطق، ومع ذلك فهو إذا وصف الكلب
بالبذاءة فما أغفل سائر ما فيه من الخصال المحمودة الأخرى، كأمانته ومهارته في تقفي
القنيصة وبسالته في تأثر الضواري، وقد ذكر ذلك شعراء الجاهلية بكثرة.
أما ما
بقي من الحيوانات فإذا شبه رجلا صبورا بـ (الحمار) رأيتهم يتثاقلون، وإذا شبه عظيم القوم
بـ (الثور) عظم عليهم الأمر وحسبوها ورطة يجب التملص منها، وهم يزعمون أنهم لطّفوا المعنى
ولا أخالهم فعلوا، ولست بمنكر أن الإنقلاب الذي طرأ على مفاد التعبير عندهم قد أصابنا
منه شيء كثير، فليس منا من يستحسن تشبيه كريم قوي الجنان رابط الجأش بـ (الحمار)، ولا تشبيه
باسل مغوار بـ (الخنزير)، على أن اليقين أن أبناء الجاهلية من كل قوم لم يكن هذا شأنهم
أيام كانت الفطرة تأخذ بالظاهر ولا تتكلف التأويل وتتشبث بالحقيقة مهما ثقلت، وحسبنا
أن نرجع إلى أيام جاهليتنا وما وليها من مقتبل الإسلام، ونتصفح معاجم لغتنا فنرى في
كتب اللغة أن:
- (الكبش
الحمل) هو سيد القوم وقائدهم والمنظور إليه فيهم، ومنها (الثور الفحل) وبه كني عمرو
بن معدي.
- (البقر
السيد) والذي لا يزال لقبا مكرما في السودان.
- (الجدع)
وهو الصغير والشاب من البهائم، حيث أنه مازال يطلق في مصر على الشاب القوي المخلص الصادق.
- (الرت)
وهو الخنزير الذكر، وقد أجرى مجازا على الباسل المقدام، فيقال: هو رت من الرتوت، وهو من
رتوت الناس، أي من عليتهم وسادتهم.
- (الجمل)
وهو الرئيس والملك، حيث قيل: سيدا صارت الرجال بالنسبة إليه كالنياق بالنسبة إلى فحول
الجمال.
- (الفينيق)
وهو الفحل المكرم من الإبل، لا يؤذي ولا يركب.
ويقال
مثل ذلك في بعض ما برز من أعضاء الحيوان كالناب والخرطوم والأنف والقرن، فهي وإن كانت
مما قد يستهان به الآن، لم يوضع أكثرها في الكلام عن الناس إلا للرفعة والسيادة، فإذا
راجعت كتب اللغة قرأت:
- الخراطيم
أسياد القوم.
- أنياب
القوم ساداتهم.
- القرن
السيد، تشبيها بقرن الثور لبروزه.
- أنف
القوم سيدهم.
ولا عبرة
بما قيل إن العرب كانت تعير بني (أنف الناقة) بذاك اللقب، وليس النعت بهذه الأوصاف مما
خص به بنو الجاهلية بشعرهم، بل إتصل منه شيء بشعراء التابعين والمولّدين، حتى أنه ليندر
أن ترى شيئا من هذه الألفاظ في كلام المؤرخين كالقول: (وأقبل كالفحل الفينيق) (وكان
فحل ذلك الشول) (وكبش تلك الكتائب)، وأمثال
هذه الألفاظ لا تثقل على مسمع العربي حتى يومنا، بل لا يزال بعضها مما يحلى به جيد الكلام، وإننا
بهذا الإعتبار نقسم هذه الألفاظ إلى أربعة أقسام:
1- ما
أهملت حقيقته ومجازه كالرت والقَب، فلا نرى من يستعملها لإنسان ولا لحيوان.
2- ما
بقيت حقيقته ومجازه كالفحل والكبش، فهما وإن كانا موضوعين للحيوان، فيقال هو فحل من فحول
الشعراء، أما الكبش فقد يوصف بهما الإنسان وصف تكريم، فنقول مثلا من كباش الهيجاء.
3- ما
أهملت حقيقته وبقي مجازه كالجدع عند العامة في مصر، فهي إنما تستعمل للإطراء، وإن كانت
لا تزال على معناها الوضعي في أماكن أخرى.
4- ما
أهمل مجازه وبقيت حقيقته كالثور والحمار وهو أكثرها، فما منا من يرضى أن يلقب حمارا، ولو
قيل له أن ذلك كان لقب (مروان بن محمد) الخليفة الأموي الحازم، حيث لقب به على ما أجمع المؤرخون لصبره ورِباطة جأشه
وشجاعته، كما وقد قال القرماني المثل: (فلان أصبر من حمار في الحروب)، وهو أيضا اللقب
الذي لقب به (يعقوب) إبنه (يساكر) في التوراة، كما وليس من يسره أن يكنى بالثور وإن كانت
تلك كنية (عمرو بن معدي يكرب) سيد العرب، وما من أحد يرتاح أن يقال له أنف الناقة وإن
وضع (الحطيئة) ذلك اللقب موضع رفعة وإجلال، وقد تأبى أن يعرف أحدنا بالجمل وإن عرف به
إبن عم النبي (حمزة بن عبد المطلب)، على إننا من وجه آخر لا نرى غصا من قدر من يلقب بالسرحان
وإن كان ذلك لقب الذئب، أو يكنى بأبي خالد وإن كانت تلك كنية الكلب.