العمل الصحفي الاستقصائي
لم يعد أداء وسائل الإعلام في العالم اليوم يقاس بتكامل دوائرها أو باكتمال خريطتها البرامجية، أو بضمان جودة منتجها الإعلامي من خلال دقة المعلومات والأخبار التي تنشرها في تغطياتها فحسب، وإنما بات أداؤها يقاس أيضا بمسؤوليتها في تعظيم وتعزيز الفرص التي تجعلها منصات للتنوير والوعي، وذلك عبر الكشف عن الحقائق والأسرار التي يراد لها أن تظل مستترة ولا يتاح للرأي العام الاطلاع عليها، فتؤدي بذلك دور الرقيب الذي يضع المسؤولين وأصحاب القرار في مواقعهم المختلفة تحت مجهر الرصد والفحص والتمحيص، وتراقب أداء السلطات (تشريعية/تنفيذية/قضائية)، وتحقق في الأخطاء والتجاوزات التي قد تكون خارج القانون.
وهذا يعني اشتغال وسائل الإعلام بمنطق السلطة الرقابية وضوابطها المعيارية الكاشفة لأي تجاوزات في ممارسة السلطة أو انتهاكات حقوق الأفراد والجماعات، لتكون بذلك رقيبا على مدخلات ومخرجات المؤسسات السياسية والاجتماعية وغيرها في الدولة، وتبرز مظاهر الخلل والقصور التي تعتري أداءها وتجاوزات المسؤولين عنها، ويتجسد هذا الدور الرقابي بضوابطه المحددة سلفا في نماذج الصحافة الاستقصائية التي بدأ يتوسع دورها في وسائل الإعلام التقليدي، ويتعاظم الاهتمام بها في شبكات التواصل الاجتماعي التي بدورها أصبحت منصات للأخبار والمعلومات، مما جعل وسائل الإعلام حديثا أكثر تفاعلية بالعمل الاستقصائي للحصول على الحقائق والوصول إلى جمهور واسع.
وهنا يبدو نموذج الصحافة الاستقصائية معنيا بدور يتجاوز الرقابة بمفهومها المعياري أو وظيفة (كلب الحراسة)، ليحمله البعض مسؤولية تعزيز حماية الديمقراطية بحد ذاتها، حيث يتعين على وسائل الإعلام أن تتخذ موقفا حازما للدفاع عن الديمقراطية عندما يلحقها أي تهديد، وذلك عبر إثارة الانتباه إلى استغلال السلطة والنفوذ السياسي والمالي وانتهاك القانون، والذي يعبر بدوره عن الفشل المؤسسي والخلل في بنية النظام العام، بحيث يكون نمط علاقة الصحافة الاستقصائية بالممارسة الديمقراطية، يتمثل بمجموع الوظائف التي تقوم بها الصحافة الاستقصائية في تفاعلها مع نسق العمل الديمقراطي ومؤسساته المختلفة.
طبعا ثمة مصطلحات مترادفة كثيرة للصحافة الاستقصائية منها، صحافة التقصي أو الاستقصاء أو العمق أو التحري أو البحث أو التحقيق أو صحافة الدقة أو صحافة المعلومات المخفية، كما وقد تم تسميت العاملين في هذا النموذج الصحفي بـ (المنقبين عن الفساد)، وهو ما طبع جميع المراحل التي تشكلت فيها خصوصيته باعتباره جنسا صحفيا وتبلورت فيها قواعده المهنية.
التعابير الاصطلاحية المستخدمة والمتداولة يركز كل منها على أحد أبعاد أو خصائص الصحافة الاستقصائية، فيبرز إما موضوع أو قصة الاستقصاء (المعلومات الخفية)، أو طبيعة معالجة القصة (العمق)، أو القواعد العلمية والمهنية للاستقصاء (البحث والتحري والدقة)، وهي السمات التي نجدها متناثرة في التعاريف الاصطلاحية المختلفة، إذ ليس هناك حد مطلق مكتفيا بذاته، فمثلا تعريف رابطة الصحافيين والمحررين الاستقصائيين في أميركا، يحدد ثلاثة مرتكزات تميز العمل الصحفي الاستقصائي، وهي أن يتم إعداد التقارير من خلال المبادرة الفردية ونتيجة العمل الذي يقوم به المحرر، والتي تكتسب أهمية خاصة لدى القراء أو المشاهدين أو المستمعين، وفي كثير من الحالات فإن القضايا التي تتطرق إليها الصحافة الاستقصائية تتصل بالملفات السرية والخطيرة التي يتطلع البعض إلى إبقائها خارج حيز معرفة واطلاع العامة من الناس، وهذا يعني التركيز على المبادرة الفردية وأن يتميز العمل الاستقصائي بأصالة البحث في الموضوع أو القصة وليس تقريرا حول استقصاء أو تحقيق آخر، كما أن استلام أحد الملفات من أحد المصادر الرسمية ذات النفوذ، ثم إعادة كتابته ونشره في اليوم ذاته، فإنه لا يصنف في خانة الصحافة الاستقصائية، هذا ويشترط التعريف أيضا أن يقوم المحرر نفسه بعملية الاستقصاء بحثا وتحريا وتحققا وكتابة، وأن يكون العمل الاستقصائي مرتبطا بقضية تهم الرأي العام أو بالحقائق والمعلومات التي تسعى جهات معينة لإخفائها عن الجمهور والتكتم على سريتها.
وهكذا تتواتر هذه المرتكزات الثلاثة في معظم التعريفات، إذ يرى مدير شبكة الصحافة الاستقصائية العالمية، ديفيد كابلان، أن الصحافة الاستقصائية: (نهج منظم لحدس يتطلب الغوص في العمق، والبحث الفعلي الذي يقوم به الصحفي بنفسه بطريقة علمية تعتمد على وضع فرضية واختبار مدى صحتها، والتأكد من الحقائق المحيطة بهذه الفرضية، ونبش الأسرار المغمورة، ووضع ركائز العدالة الاجتماعية والمساءلة)، غير أن هذا التعريف يضيف مرتكزين أو عنصرين جديدين وهما: القصة وأسلوب اختبارها والتحقق منها، إذ يمثل الاستقصاء القائم على أسلوب الفرضية أداة للحفر والنبش عميقا بحثا عن الحقيقة، ثم هناك الرقابة والمساءلة لحماية المؤسسات العامة وإصلاحها وإقامة العدالة الاجتماعية.
كما ويقدم رئيس المركز الدولي للصحفيين، ديفيد نابل، تعريفا آخرا للعمل الصحفي الاستقصائي هو: (أنه سلوك منهجي مؤسساتي صرف، يعتمد على البحث والتدقيق والاستقصاء حرصا على الموضوعية والدقة وللتأكد من صحة الخبر وما قد يخفيه انطلاقا من مبدأ الشفافية ومحاربة الفساد، والتزاما بدور الصحافة ككلب حراسة على السلوك الحكومي، وكوسيلة لمساءلة المسؤولين ومحاسبتهم على أعمالهم، وخدمة للمصلحة العامة وفقا لمبادئ قوانين حق الاطلاع وحرية المعلومات)، وهذا السلوك المنهجي يجعل العمل الصحفي الاستقصائي عملية عقلية تقوم على جمع وتخزين الأفكار والحقائق وبناء لأنماط صحفية، وتحليل للبدائل المتاحة أمام المحرر، واتخاذ قرارات تقوم على المنطق أكثر من العاطفة.
هذا ويمكن للصحفي
الاستقصائي أيضا أن ينقد الأوضاع الخاطئة ويبرز السلوكيات السيئة والتصرفات غير
الأخلاقية والسليمة طالما توافرت لديه الحقائق والمعلومات، مما يجعل النموذج
الفكري الأساسي للعمل الصحفي الاستقصائي تفكيرا نقديا، وهذا يعني أيضا أن مجال
الصحافة الاستقصائية ومركز اهتمامها هو المصلحة العامة للشعوب في مختلف دول
العالم، والتي ترتبط أساسا بحماية الديمقراطية والحكم الرشيد وحرية التعبير والحقوق
الأساسية للمواطنين الذين يجب إطلاعهم على الأحداث التي تتصل بهم مباشرة أو بشكل
غير مباشر، وكشف أو فضح الجرائم والفساد وسوء الإدارة والمخالفات الجسيمة،
والتحقيق في صدق السياسات وتحري الحقائق عندما يتم التنازع حول الحقيقة أو
الاشتباك بشأنها أو إخفائها.
رابط المقال في مجلة تحت المجهر: