قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

المواطنة المدنية في الإسلام

المواطنة المدنية في الإسلام

المواطنة في التاريخ الإسلامي قضية إشكالية، وذلك لأنه في الدراسات الغربية وحتى العربية ما زال مفهوم المواطنة فيها يعتبر حكرًا على التجربة والممارسات الغربية، حيث كان يوصف الأفراد في المجتمعات الإسلامية التقليدية بالرعايا أو العامة، ولكن ليس بالمواطنين، لهذا اعتبر غياب المصطلح غياب للمفهوم نفسه، لكن الإسلام عبر نصوصه الأساسية في القرآن والسنة حافل بالآيات والأحاديث التي تحض على المواطنة بمفهومها الجديد والمتعارف به الآن، وذلك من خلال دعوته إلى الإيجابية والفعل والتغيير، والجهاد والحركة والسعي بالانتقال بالمجتمعات البشرية نحو الأفضل، كما وهناك العديد من المبادئ في الشريعة الإسلامية، كالشورى، والبيعة، والإجماع، والاجتهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تمثل في مجملها منظومة متينة من الضوابط والقواعد للانتماء والمكانة القانونية للأفراد، وهذا كله يثير الدهشة لمن سلّم واعتقد بأن التاريخ الإسلامي هو تاريخ جامد وساكن.


كما أن مفهوم ما يعرف بالاستبداد الشرقي المنتشر في عالمنا العربي والإسلامي اليوم، بحيث أن الحكام (القادة) هم فقط الفاعلون الأساسيون بمواجهة الملايين من الأتباع السلبيين (الشعب) الذين لا قرار أو مبادرة لهم، هو موضع مساءلة تاريخية ودينية وأكاديمية، ودراسة مشروع الدولة الإسلامية في المدينة المنورة مفيدة في هذا الصدد، وذلك لأن دستور المدينة يؤكد أنه تم صياغته بحرية وتشاور وتداول بين كافة أهل المدينة من مسلمين ونصارى ويهود ومشركين، وهو ما أعطى مساحة واسعة للحكم الذاتي لسكان المدينة في جميع نواحي حياتهم وأماكن سكناهم.


هذا ويعطينا التاريخ الاجتماعي الإسلامي الكثير من التصورات المفيدة في هذا المجال، فالمؤسسات – كمجالس الأعيان، والقبائل، والأوقاف، والمساجد، والتجار، وغيرها – كانت كلها نشطة في المدن الإسلامية وباستقلالية تامة، كما أنها تؤكد الدور النشط لعامة المسلمين في التأثير على القوانين الحاكمة للمجتمع والتجارة والسفر والحرف وغيرها الكثير، إضافة إلى أنه كان لمؤسسة العرف أيضًا دور أساسي في هذا الصدد.


الدستور الخاص بكل مدينة إسلامية أعطى مساحة واسعة للحكم الذاتي لسكانها في كافة مجالات حياتهم، وهذه المساحة استمرت في المدينة الإسلامية لقرون حتى وصول الاستعمار الحديث، كما أن هذه المساحة غطّتها العديد من المؤسسات الأهلية المستقلة، كالأوقاف، ونقابات الحرفيين، ومجالس الملل والأعيان، فيما مارست مؤسسة العلماء دور السلطة التشريعية، أو المعارضة، أو التمثيل السياسي للمواطنين بفعالية ونشاط.


كما أن مجالس الأعيان والحارات والملل كانت كلها تشكيلات مدنية تضم ممثلين عن الأحياء أو الطوائف الدينية، وهذه المجالس كانت تجتمع لتقرر شؤونها وتتداول بأوضاعها وتتخذ قرارات تنظم أمورها باستقلالية كبيرة عن السلطات الحاكمة، إضافة إلى طوائف الحرفيين والتجار وغيرهم، والتي كانت عبارة عن نقابات لأصحاب المهن المختلفة، بحيث تنظم شؤونها وتدير مصالحها بتنظيم وحرفية كاملة، كما لعبت الأوقاف والتي هي مدنية أهلية بشكل كامل دور العصب الخدمي للمجتمعات والمدن الإسلامية، إضافة إلى أن المساجد كانت أيضًا أحد أهم المساحات التي يلتقي فيها المؤمنون ليشرعوا لأنفسهم كطلاب أو مستفتيين، أو ليناقشوا الأحوال العامة أو تنظيم المظاهرات والإضرابات، أو ليحضروا المحاكمات وممارسات القضاء وغيره الكثير.


وهكذا نلاحظ كيف أن التاريخ الإسلامي عرف كالتجربة الغربية تطورًا في شكل المواطنة من تلك المواطنة النشطة في إطار المدينة الدولة (المدينة المنورة في عصر النبوة) إلى أخرى سلبية قانونية مع الفتوحات والعصور الإمبراطورية، إلا أنه ورغم التوسع الإمبراطوري الإسلامي (الخلافة الإسلامية) فإن المواطنة في المدن المحلية والأحياء حافظت على طابعها النشط والسياسي، حيث كان سكان كل حي أو جهة أو جماعة تسكن في بقعة جغرافية معينة، تدير شؤونها بذاتها باستقلالية وحرية عبر مؤسسات أهلية متنوعة، كما أن المسلمون حافظوا على شكل واسع من المشاركة بالتشريع وصناعة القوانين عبر الأعراف والاجتهاد والفتيا، وهذا ما مثل المواطنة العامة الشاملة لكل دار الإسلام، والتي يتمتع فيها كل المواطنين بحماية القانون والحقوق المحلية النشطة والفاعلة على مستوى المحليات والأحياء.


المواطنة في الإسلام وفق الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن تقوم على التجرد والجماعة، فالتجرد يورث الإخلاص ويؤدي للاتصال بين الآخرين عبر المشاركة والعمل، ويكون ذلك عبر التجرد عن أسباب الظلم، والتوجه إلى المتجلي بالعدل الذي لا ينقطع عدله سبحانه وتعالى، حيث إن الإنسان يكون متيقنًا من الأصل والأساس الذي بني عليه العدل والحقوق والواجبات، لهذا يعمل على تحقيق الماهية الأخلاقية وتقوية الذات الأخلاقية والاتصال الأخلاقي مع الآخرين، وتحصيل القدرة على إبداع القيم، لأنه سوف ينظر للحقوق المعطاة له كاختبار لمدى صدق هذا المواطن مع ربه، وبالتالي يترك أي حق ممكن أن يعيقه عن واجباته، إضافة إلى العمل على تقوية الذات الأخلاقية والاتصال الأخلاقي مع الآخرين.


رابط المقال في ساسة بوست:

https://www.sasapost.com/opinion/civil-citizenship-in-islam/

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart