قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الموازنة بين المأمورات الشرعية عند تعارضها

الموازنة بين المأمورات الشرعية عند تعارضها

 

قد يتعارض حكم شرعي مع آخر، أو يتزاحمان في وقت واحد بحيث لا يستطيع المكلف القيام بهما أو الانتهاء عنهما، كتعارض فعل الواجب مع فعل المندوب مثلا، أو تعارض ترك الحرام مع ترك المكروه، أو تعارض المباح مع المندوب، أو تعارض فعل الواجب مع ترك المحرم، أو تعارض فرض العين مع فرض الكفاية، وغير ذلك، ففي هذه الحالات وغيرها لا بد من الموازنة لمعرفة الأولى بالفعل أو بالترك.


ماذا يجب على المكلف فعله إذا تعارضت عنده الواجبات مع بعضها، أو تعارض فعل الواجب مع فعل المندوب أو النفل، فقد تتعارض الفرائض مع بعضها، فيتعارض فرض العين مع فرض الكفاية، والواجب الموسع مع الواجب المضيق، والأداء مع القضاء، والأصل مع الفرع، والواجب الخاص مع الواجب الأعم، ففي ذلك كله لابد من الموازنة والترجيح لتقديم أحدها على الآخر وفق القواعد الآتية:


أولا: تقديم الأصول على الفروع


يقدم ما يتصل بالإيمان بالله وتوحيده والإيمان بملائكته ورسله واليوم الآخر على سائر الأعمال، لأن الإيمان هو الأصل والعمل فرع له، فالإيمان الحق لابد من أن يثمر عملا، وعلى قدر تمكن الإيمان ورسوخه تكون الأعمال، والعمل الذي لم يؤسس على إيمان صحيح لا وزن له عند الله تعالى، لذلك الأمر الأحق بالتقديم تصحيح العقيدة وتجريد التوحيد ومطاردة الشرك والخرافة، وتعميق بذور الإيمان في القلوب، وحتى تغدو كلمة التوحيد حقيقةً في النفس ونورا في الحياة يبدد ظلمات الكفر وظلمات السلوك.


ثانيا: تقديم الفرض الذي يخشى فواته على ما لا يخشى فواته، وتقديم الواجب المضيق على الموسع


إذا تعين فرضان على المسلم، أحدهما يفوت والآخر لا يفوت، أو فضلان أحدهما يضيق وقته والآخر يتسع وقته، فعليه أن يقدم ما يفوت وما يضيق وقته، وسبب تقديم ما يخشى فواته هو الجمع بين المصلحتين، لأننا بحفاظنا على ما يخشى فواته نحصله ثم نحصل ما لا يخشى فواته، بخلاف ما إذا أهملنا ما يخشى فواته، وحصلنا غيره فلا يكون عندنا إلا مصلحة واحدة، ومن الأمثلة على ذلك تقديم صلاة الجمعة على الوفاء بالوعد، مع أن الوفاء بالوعد فرض، ولكن وقته موسع، بينما وقت الجمعة مضيق، لذلك الاشتغال بالوفاء بالوعد في وقت الجمعة معصية، كما إذا تزاحم الحج مع حق الوالدين أو حق الزوج أو الدين المعجل فيؤخر الحج وتقدم هذه الحقوق عليه، لأن الحج واجب على التراخي وهذه واجبة على الفور.


هذا ويتم تقديم الفريضة التي ضاق وقتها على قضاء الفائتة، وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: (إذا ضاق وقت الفريضة بحيث لا يتسع لغيرها، فذكر صلاة نسيها قبل الشروع في الصلاة المؤداة لفاتت مرتبة الأداء في الصلاتين جميعا فتفوت مصلحة الأداء في الصلاتين، ولاشك أن تحصيل المصلحة في إحدى الصلاتين أولى من تفويتها في الصلاتين، وهذا من باب تقديم الأفضل فالأفضل من حقوق الله)، ويقول أيضا: (إذا ضاق الوقت عن الجمع بين الأذان والإقامة الراتبة والفريضة بحيث لا يتسع إلا للفريضة، فإنا نقدم الفريضة لكمال مصلحة أدائها على مصلحة الأذان والإقامة والسنة الراتبة، وإن كانت الرواتب في الفرائض قابلة للقضاء، فإن فضيلة أداء الفرائض أتم من فريضة أداء النوافل، فقدمنا أفضل الأدائين على الآخر).


ثالثا: تقديم ما لا يمكن قضاؤه على ما يمكن قضاؤه


إذا لم يمكن الجمع بين العبادتين بسبب ضيق الوقت، يقدم ما لا يمكن قضاؤه على ما يمكن قضاؤه، وسبب ذلك هو الجمع بين مصلحة العبادة التي لا تقضى والتي يمكن قضاؤها، فقد روي أن الزهري كان يصوم يوم عاشوراء في السفر، فقيل له: أنت تفطر في رمضان إذا كنت مسافرا، فقال: إن الله قال في رمضان: فعدة من أيام أخر، ومن الأمثلة على ذلك أيضا، تقديم الجنازة على الجمعة إن خفنا تغير الميت حتى لو خرج وقت الجمعة لأن حرمته آكد، ولأن الجمعة تقضى ظهرا.


رابعا: تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل وإن كان دونه في الطلب


وسبب ذلك الجمع بين المصلحتين، المصلحة الأصلية ومصلحة بدل الأصلية، أما إذا قدمنا ما له بدل على ما ليس له بدل فلن يكون لدينا إلا مصلحة أصلية واحدة وتفويت الأخرى بالكلية، ومن أمثلة ذلك تقديم غسل النجاسة على الاغتسال من الحيض والجنابة، لأنه لا بدل له، كما إذا ضاق الوقت على المحدث، ويرجو وجود الماء ولكن بعد خروج الوقت، فإنه يتيمم ولا يترك الوقت يخرج، لأن الوقت لا بدل له بخلاف الوضوء فله بدل.


خامسا: تقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه


يقدم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه، ومن الأمثلة على ذلك تقديم نفقة الوالدين على نفقة الحج، وذلك في حق من لا يفي ماله بنفقة الوالدين والحج معا، لأن حقهما مقدم على الحج، أما من أمثلة الإخلال بهذه القاعدة فمن تصيب ثوبه النجاسة ويغلظ القول على أبويه وأهله بسبب ذلك، فالنجاسة محذورةٌ، وإيذاؤهما محذور، والحذر من الإيذاء أهم من الحذر من النجاسة، ففي هذا المثال قدم فرض إزالة النجاسة على فرض أهم منه وهو بر الوالدين، لذلك كان مسيئا مستحقا للذم والمقت.


سادسا: التعارض بين فرض العين وفرض الكفاية


اختلف العلماء في الأفضل: هل هو فرض الكفاية أم فرض العين؟ وذهبوا في ذلك إلى مذهبين:


1- المذهب الأول يرى أفضلية فرض العين على فرض الكفاية، وهو مذهب الشافعي والرافعي والسيوطي والزركشي والغزالي والقرافي رحمهم الله تعالى، وقد عاب الغزالي رحمه الله على فريق من الناس الذين يشتغلون بفروض الكفايات ويتركون فرض العين، حيث قال الغزالي رحمه الله في الإحياء: (الاشتغال بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين معصية)، ومن أمثلة تقديم فرض العين على فرض الكفاية تقديم بر الوالدين على الجهاد الطلبي، واستدلوا بأدلة منها:


- أن فرض العين يلزم بالشروع إلا لعذر، وفرض الكفاية لا يلزم بالشروع إلا في الجهاد والجنازة.


- فرض العين يتعلق بكل واحد، وفرض الكفاية فيه خلاف في وجوبه على الجميع أو على البعض، والأمر إذا عمّ خف، وإذا خص ثقل.


- من ترك فرض العين أجبر عليه، ومن ترك فرض الكفاية ففيه خلاف.


- أن فرض الكفاية قد يوجد من يقوم به، فيسقط الإثم والحرج عن الآخرين، أما فرض العين فلا بديل له ولا يقوم أحد مقام من تعين عليه.


2- المذهب الثاني يرى أفضلية فرض الكفاية على فرض العين، وهذا مذهب إمام الحرمين وأبو إسحاق الإسفراييني رحمهم الله تعالى، حيث يقول إمام الحرمين رحمه الله: (الذي أراه أن القيام بما هو من فروض الكفايات أحرى بإحراز الدرجات وأعلى من فروع القربات من فرائض الأعيان، فإن ما تعين على المتعبد المكلف لو تركه ولم يقابل أمر الشارع فيه بالارتسام اختص المأثم به، ولو أقامه فهو المثاب، ولو فرض تعطيل فرض من فروض الكفايات لعم المأثم على الكافة على اختلاف الرتب والدرجات، والقائم به كاف نفسه وكافة المخاطبين الحرج والعقاب)، ومن أدلتهم على ذلك:


- أن للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين بإسقاطه الحرج عن المسلمين.


- أنه لو ترك المتعين اختص هو بالإثم، ولو ترك الجميع فرض الكفاية أثموا.


- العمل المتعدي أفضل من القاصر، وفرض الكفاية متعد وفرض العين قاصر.


أما تحرير موضع الخلاف في هذه المسألة، فإن ما ذكر من تفضيل فرض الكفاية على العين محمول على حال التعارض في حق شخص واحد، ولا يكون ذلك إلا عند تعينها وحينئذ يكونان فرضا عين، وما يسقط الحرج عنه وعن غيره أولى، وأما إذا كان فرض العين متعلقا بشخص، وفرض الكفاية له من يقوم به ففرض العين أولى.


كما ويمكن أن يضاف أيضا أن فرض الكفاية شرع من أجل إقامة فرض العين، فما فرض الجهاد إلا من أجل إقامة ذكر الله وأركان الإسلام، وما شرع طلب العلم إلا من أجل إقامة وضبط عبادة الخالق، وحتى الصناعات والتجارات هي من أجل عمارة الأرض على منهاج الله وشرعه وحكمه، فهي وسيلة لطاعته ورضاه لا عمارة مجردة عن ذلك أشبه بعمارة الكفار، فتكون الفروض العينية أفضل لأنها مقصد بخلاف الكفائية التي هي وسيلة لتحقيق هذا المقصد، والراجح والله أعلم أن التفضيل بين الفرضين يكون على أساس المصلحة على اعتبار أن الواجبات تتفاوت أهميتها بتفاوت مصالحها، وعليه فإن الذي يقدم حال التزاحم بينهما هو الأهم والأكثر مصلحة.


سابعا: تقديم فروض الكفايات التي لم يقم بها أحد على الفروض الكفائية التي قام بها البعض


فرض الكفاية الذي لم يقم به أحد يكون الاشتغال به أولى ممن قام به البعض، وفرض الكفاية الذي قام به عدد غير كاف يكون الاشتغال به أولى من فرض آخر قام به عدد كاف وربما زائد عن الحاجة، وقد يصبح فرض الكفاية في بعض الأحيان فرض عين على زيد أو عمر من الناس، لأنه وحده الذي اجتمعت له مؤهلاته، كما إذا احتاج بلد ما إلى فقيه يفتي الناس وهو وحده الذي تعلم الفقه، ومثله المعلم والخطيب والطبيب والمهندس وكل ذي علم أو صنعة يحتاج إليها الناس ومثل ذلك إذا كان له خبرة عسكرية معينة ولا يسد غير مسده.


هذا ويمثل الغزالي رحمه الله لذلك بتقديم الاشتغال بالطب وهو فرض كفاية، على الاشتغال بالفقه وهو فرض كفاية أيضا في بلد كثر فقهاؤه وقل أطباؤه، حيث يقول الغزالي رحمه الله: (كم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة، ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء في أحكام الفقه، ثم لا نرى أحدا يشتغل به، ويتهاترون على علم الفقه، فليت شعري، كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به؟).


د. عمر محمد جبه جي

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart