قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الفلسفة التربوية عند حجة الإسلام أبي حامد الغزالي.. فضيلة العلم والتعلم والتعليم

 الفلسفة التربوية عند حجة الإسلام أبي حامد الغزالي.. فضيلة العلم والتعلم والتعليم

الإمام الغزالي الذي كان موسوعة عصره، والذي لم يترك علما من العلوم إلا واشتغل به، بل وبرع فيه حتى وازى أرباب هذا العلم وفاقهم، كان منهجه يستند إلى الشك العلمي، فهو يبدأ في دراسته لأي علم بعدة تساؤلات، ثم يدخل في غمار هذا العلم ويتعمق فيه تعمق الخبير المتبصر، ثم يؤلف فيه ذاكرا ما له وما عليه، ويخرج لنا بنظرة مستقلة عن هذا العلم، كما أنه لا يقبل التقليد ويتمرد عليه.


للإمام الغزالي رحمه الله نظرية متكاملة حول التربية والتنظير لها، وهذه النظرية جاءت نتيجة تجربة علمية تربوية استمرت لفترة طويلة واستغرقت معظم حياة الغزالي، فالغزالي تنقل من بلد إلى بلد مدرسا معلما، كما كان له اليد الطولى في التأليف العلمي، وكان الكثير من مؤلفاته مؤلفات منهجية معدة لطلبة العلم، وقد سلك في إعدادها مسلك التدرج ومراعاة المستويات، فهو في الفقه مثلا يضع كتابا للمبتدئين يسميه (الخلاصة)، ثم يؤلف كتابا أوسع لطلاب المستوى الثاني ويسميه (الوجيز)، ثم كتابا للمستوى الثالث يسميه (الوسيط)، وللمستوى النهائي كتاب (البسيط)، وفي مجال العقيدة يبدأ بوضع كتاب للمبتدئين وهو كتاب (قواعد العقائد)، ثم للمستوى الأعلى كتاب (الرسالة القدسية)، ويختم ذلك بكتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) وهو لطلبة العلم المتميزين.


الغزالي يبدأ ببيان فضل العلم والتعلم والتعليم ليشحذ همم طلاب العلم للتحصيل، وهمم العلماء لنشر العلم وعدم احتكاره، ويسوق الكثير من الآيات والأحاديث الدالة على ذلك، ثم يبين انقسام العلوم إلى فروض عينية وهي العلم بالواجب ووقت وجوبه، وفروض كفائية وهي كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا، وبذلك يرى الغزالي كل العلوم البشرية من طب وهندسة وفلك وصناعات مختلفة من فروض الكفايات التي يأثم المجتمع المسلم إذا لم يؤهل من أبنائه من يقوم بالقيام بها، ثم يقوم بتقسيم العلوم الشرعية إلى أصولٍ وفروعٍ ومقدمات وتتمات، ويرسم بعدها لطالب العلم الخطة المنهجية لتحصيل هذه العلوم، ويقدم له منهاجا مقترحا لدراسة العلوم الشرعية ليسير طالب العلم على هداه.


كما يقسم الغزالي العلوم إلى محمود ومذموم، ويبين الأسباب التي تذم بسببها بعض العلوم، وينصح الغزالي طالب العلم ألا يستغرق عمره في فن واحد من العلوم لأن العلوم لا تنتهي بل أن يأخذ من كل بستان زهرة، كما ينصحه ألا يشتغل بإصلاح غيره قبل أن ينتهي من إصلاح نفسه، هذا ويوضح الغزالي حقيقة مهمة، وهي تغير بعض حقائق العلوم عما كانت عليه زمن السلف الصالح، ويذكر منها علم التوحيد وعلم الفقه، حيث يحث على العودة إلى روح هذه العلوم ونبذ ما طرأ عليها من تغييرات، كما يبين الغزالي رحمه الله في كتبه وظائف المتعلم ووظائف المعلم، وهي تمثل قواعدا مهمةً في إعداد المعلم وتأهيل المتعلم، إضافة إلى أنه يبين صفات العلماء الربانيين الذين يسميهم علماء الآخرة، ليكون العالم الشرعي واحدا منهم ويجتنب صفات علماء الدنيا الذين لم ينتفعوا بعلمهم.


فضيلة العلم


قال الله عز وجل: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران 18)، فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه، وثنى بالملائكة وثلث بأهل العلم، وناهيك بهذا شرفا وفضلا وجلاء ونبلا، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ((المجادلة 11)، وقال عز وجل: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر 9)، وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ( (فاطر 28)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)، وقال صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، ومعلوم أنه لا رتبة فوق النبوة ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة، وقال صلى الله عليه وسلم: (يستغفر للعالم ما في السموات والأرض)، وأي منصب يزيد على منصب من تشتغل ملائكة السموات والأرض بالاستغفار له.


هذا وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل: (يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق)، وقال أيضا: (العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (تذاكر العلم بعض ليلة أحب إليّ من إحيائها)، وقال أبو الأسود: (ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك)، وسئل ابن المبارك: (من أفضل الناس؟ فقال: العلماء، قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد، قيل فمن السفلة؟ قال: الذين يأكلون الدنيا بالدين)، وقال الأحنف رحمه الله: (كل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل مصيره)، وقال أحدهم: (عليك بالعلم فإنك إن افتقرت كان لك مالا، وإن استغنيت كان لك جمالا)، وقال الحسن البصري: (يوزن مداد العلماء بدم الشهداء، فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء).


فضيلة التعلم


قال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (( التوبة 122)، وقال عز وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ((النحل 43)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يصنع)، وقال عمر رضي الله عنه: (موت ألف عابد قائم الليل صائم النهار، أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه)، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (لأن أتعلم مسألة أحب إلي من قيام ليلة)، وقال أيضا: (كن عالما أو متعلما أو مستمعا ولا تكن الرابع فتهلك)، وقال أيضا: (من رأى أن الغدو إلى طلب العلم ليس بجهاد فقد نقص في رأيه وعقله)، وقال الشافعي رضي الله عنه: (طلب العلم أفضل من النافلة)، وقال ابن عبد الحكم رحمه الله: (كنت عند مالك أقرأ عليه العلم، فدخل الظهر، فجمعت الكتب لأصلي، فقال: يا هذا ما الذي قمت إليه بأفضل مما كنت فيه إذا صحت النية).


فضيلة التعليم


قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (( (آل عمران 187) وهو إيجاب للتعليم، وقال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ((البقرة 146) وهو تحريم للكتمان، وقال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ((فصلت 33)، وقال تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ((النحل 125).


قال صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن: (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل لا ينتزع العلم انتزاعا من الناس بعد أن يؤتيهم إياه، ولكن يذهب بذهاب العلماء، فكلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم، حتى إذا لم يبق إلا رؤساء جهالا، إن سئلوا أفتوا بغير علم فيضلون ويضلون)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من علم علما فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله سبحانه وملائكته وأهل سمواته وأرضه، حتى النملة في جحرها، حتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا فكانت منها بقعة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها بقعة أمسكت الماء فنفع الله عز وجل بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وكانت منها طائفة قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ)، فالأول ذكره مثلا للمنتفع بعلمه، والثاني ذكره مثلا للنافع، والثالث للمحروم منهما، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ... منها علم ينتفع به)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله عز وجل حكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الخير).


العلم حياة القلوب من العمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف يبلغ به العبد منازل الأبرار، والدرجات العلى، والتفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، وبه يطاع الله عز وجل وبه يعبد وبه يوحد وبه يمجد وبه يتورع، وبه توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام، وهو إمام والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء، فتعليم العلم من وجه عبادةٌ لله تعالى، ومن وجه خلافةٌ لله تعالى، وهو من أجل خلافة الله، فإن الله تعالى قد فتح على قلب العالم العلم الذي هو أخص صفاته، فهو كالخازن لأنفس خزائنه، ثم هو مأذون له في الإنفاق منه على كل محتاج إليه، فأي رتبة أجل من كون العبد واسطة بين ربه سبحانه وبين خلقه في تقريبهم إلى الله زلفى وسياقتهم إلى جنة المأوى.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart