مدلولات مصطلحات كلمتي الشيعة والسنة
يبدو
لي أن من أهم الألفاظ التي نحتاج إلى تحديد مدلولها كلمتي "الشيعة" و
"السنة"، فنحن جميعا نعرف أن اللفظ الواحد له معنى لغوي واحد أو أكثر من
معنى أحيانا؛ بيد أن اللفظ نفسه عندما يستخدم في دائرة أو إطار أحداث أو فكرة
معينة بصورة مستمرة، مشيرا إلى نفس المدلول، فإنه يكتسب في هذه الحالة معنى جديدا
مختلفا عن المعنى اللغوي، إذ يصبح له معنى اصطلاحي، وهذه القاعدة تنطبق على كلمتي
السنة والشيعة.
مصطلح
الشيعة
كلمة
"شيعة" في مدلولها اللغوي لا تعني أكثر من "مؤيد" أو
"مناصر" لشخص ما أو زعامة ما، ذلك من غير أن يكون الشخص المعني مرتبطا
بعقيدة دينية معينة بالضرورة؛ إذ ربما يكون التأييد لرئيس قبلي أو لرئيس عشيرة أو
لمجرد القرابة النسبية؛ وقد يكون لشخص يملك الجاذبية (الكاريزما) التي تشد إليه
الناس، أفرادا وجماعات، وتجعلهم ينضمون إلى أنصاره السابقين، وقد يكون ذا عقيدة
سياسية أو عقيدة دينية معينة تستهوي بعض الناس، فيكون التأييد وتكون المناصرة
للعقيدة والانتماء الديني قبل أن تكون للشخص، وفي هذا الإطار العام وردت كلمة "شيعة"
وبعض مشتقاتها في القرآن الكريم عدة مرات، حيث قال الله تعالى: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ
عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا
مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى
الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ
عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ) (القصص 15)، وقال الله
تعالى: (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) (الصافات 83)، وقال الله تعالى: (وَلَقَدْ
أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر 51)، وقال الله تعالى: (وَحِيلَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ ۚ إِنَّهُمْ
كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ) (سبأ 54)، وقال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) (الحجر 10)، ففي كل هذا الآيات ورد لفظ "شيعة" بمعنى الأنصار والأتباع؛ وكلمة
"شيع" صيغة جمع لشيعة وكذلك كلمة أشياع.
كما ولا
يبعد عن هذا المعنى ما ورد في قول الله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ
عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ
أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ
الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (الأنعام 65)، وقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ
إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (الأنعام 159)، وقول
الله تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ
طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ
كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص 4)، ففي هذه الآيات تأتي كلمة "شيعا" غير منسوبة لأحد، لكنها
تعني تكتلا بشريا ملتفا حول شخص أو عصبية قبلية أو مصلحة ومنفعة اقتصادية، وهنا تكون المناصرة إما
لشخص أو فكرة أو قبيلة ...إلخ.
هذا وبجانب
ما سبق من التعريفات، فإن كل من له خبرة جيدة بمصادر التاريخ الإسلامي وغيره من المصادر
الإسلامية، يعرف مثلا أن معاوية بن أبي سفيان استخدم عبارة "هؤلاء
شيعتنا" بمعنى "أنصارنا" أو استخدمها بصيغة المفرد وبنفس المعنى،
كما وقد استخدم اللفظ أيضا في الحديث عن شيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ كذلك
فإننا نجد الخلفاء العباسيين الأوائل يستخدمون نفس الأسلوب والتعبيرات "هذا
من شيعتنا" و "هؤلاء شيعتنا"، ونجد مؤرخين يذكرون "شيعة بني
العباس"، وهكذا نلاحظ أن في هذه الاستخدامات كلها كانت اللفظة ذات مدلول
لغوي.
والتشيع
بهذا المعنى اللغوي يمكن أن نميزه ونسميه بـ "التشيع السياسي"، ولا مراء
في أن "التشيع السياسي" العلوي، أي التشيع لعلي رضي الله عنه ولأسرته،
هو الذي عرفه المجتمع الإسلامي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بعد
وفاة عثمان رضي الله عنه، وقد امتدت مرحلة سيادة هذا التشيع السياسي حقبة تزيد على
مئتي سنة.
بيد
أن مضمون لفظة الشيعة ومشتقاتها كان مختلفا بالنسبة لاستخدامها من قبل الشيعة عامة
منذ منتصف القرن الثالث للهجرة وما بعده، ومن قبل الطائفة الإثني عشرية خاصة، ذلك
أن الإثني عشرية تشكل عندهم مكون اعتقادي جديد انضاف إلى المكونات الإعتقادية
الأخرى التي شاركهم فيها غيرهم من المسلمين، وصار هذا المكون الجديد هو العنصر
الذي ميزهم عن غيرهم من المذاهب الإسلامية، وينطبق هذا القول أيضا على الفرق الشيعية
الأخرى غير الإثني عشرية، وهذا النوع من التشيع بالمعنى الخاص - الاصطلاحي - تم
تسميته بـ "التشيع العقيدي"، بمعني أنه ينبثق من مكونات عقيدية دينية،
يؤمن بها متبعوها كما يؤمنون بوجود الله تعالى وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
وباليوم الآخر وبكتب الله ورسله، وبهذا صار لدينا نوعان من التشيع: "التشيع
السياسي" و "التشيع العقيدي".
وهكذا أصبحت المذاهب غير الشيعية تعرف بمذهب "السنة" أو "أهل السنة" أو "أهل السنة والجماعة"، تمييزا لها عن الإمامية الإثني عشرية وعن فرق الشيعة الأخرى، والتي أعلنت الانتماء والولاء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإلى عدد من أبنائه وأحفاده، هذا وقد تعددت المذاهب داخل الكتلة السنية، كما تعددت داخل الكتلة الشيعية العامة، ولم يبق خارجا عن الجانبين سوى المذهب الأباضي، الذي يعتبر واحدا مما انبثق من المجموعات التي عرفت في التاريخ باسم الخوارج، وكذلك المذهب المعتزلي.
مصطلح
السنة
أما
لفظة "السنة" فمعناها اللغوي هو "الطريق" أو "الطريقة"،
أما المعنى الإصطلاحي فهو يشير إلى الالتزام بإتباع طريق رسول الله صلى الله عليه
وسلم أو طريقته أو الجماعات أو الكتلة الدينية التي تتبنى ذلك، وقد تبلور هذا
الاصطلاح بنفس هذا المعنى بعد أن صار اصطلاح "الشيعة" يحمل معنى عقائديا،
أي أن الجماعات التي حرصت على تمييز نفسها عن جميع المذاهب الشيعية، أعطت لنفسها
وأتباعها هذه التسمية التمييزية.
والحقيقة
أن هذه التسمية تنطوي أيضا على تضمين سلبي غير مباشر، فحواه وصف للشيعة واتهام لهم
بأنهم لا يسيرون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتبعون طريقته، وأن أتباع
الرسول منحصر في أهل السنة والمذاهب السنية، والشيعة لا يقبلون هذا الوصف، بطبيعة
الحال ويردون التهمة ويوجهونها إلى السنة، ثم إن من يطالع المصادر الشيعية،
القديمة والحديثة، يجد أن علماء الشيعة يذكرون "السنة" بمعناها
الإصطلاحي، أي اتباع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبارها مصدر إرشاد وهداية
لهم، والذي يرفضه الشيعة حسب فهمهم أو ادعائهم ليس "السنة النبوية"، بل
إنهم يرفضون ما يعتبرونه انحرافا من قبل "أهل السنة" وابتعادا عن سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أن كلا من الطرفين يعتقد أو يزعم أو يدّعي أنه
هو الذي يسير على مقتضى السنة النبوية، وأن الفريق الآخر لا يتبعها، بل يتمرد
عليها ويخالفها.
وهذه
الإشكالية لا يمكن حلها بمجرد إعلان حكم أو قرار أو اختيار، ودون دراسة لمواقف
ومقولات الجانبين بشيء من التفصيل، بل إن الحل يتطلب كثيرا من المناقشة والحوار،
واستدعاء الأدلة ونقدها ومقارنتها من غير انحراف بغية الوصول إلى حكم واضح ذا
تركيب وبناء متصل وقوي ومتماسك.
أخيرا يجب القول أنه عندما يمر الشيعي بكتب "السنة"، وعندما يمر السني بكتب "الشيعة الإثني عشرية"، سيجد كل منهما عددا كبيرا من الاعتقادات والممارسات السلوكية الأساسية المتماثلة، سيجدها هي نفسها عند إخوانه من الفريق الآخر؛ وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى؛ وعلى الإيمان بوحدانية الله تبارك وتعالى؛ وعلى الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ والإيمان بالقرآن الكريم، كتاب الله المنزل على رسوله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم؛ والإيمان برسل الله المذكورين في القرآن الكريم جميعا، وبما أنزل عليهم من كتب من عند الله؛ والإيمان بالملائكة؛ والإيمان باليوم الآخر والحساب والثواب والعقاب؛ وتلك هي مكونات الإيمان الرئيسية.