قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

أصول فقه الموازنات بين المنهيات الشرعية

أصول فقه الموازنات بين المنهيات الشرعية

الموازنة بين المنهيات وبيان مراتبها


كما أن للأعمال الشرعية مراتب متفاوتة، كذلك فإن المنهيات الشرعية متفاوتة المراتب، وقد وردت أحاديث كثيرة تبين رتب المنهيات منها:


- فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر، فقال: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قال: قول الزور، أو قال: شهادة الزور.


- فعن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يقولها حتى قلت لا يسكت.


- فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قال: قلت له: إن ذلك لعظيم، قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تزاني حليلة جارك.


هذه الأحاديث يبين لنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مراتب المنهيات، ويجعل أعظمها الإشراك بالله تعالى وأن نتخذ مع الله الأنداد، ثم جعل بعد ذلك عقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ويدخل فيها قتل الأولاد خشية الفقر والإملاق، وخيانة حرمة الجوار بانتهاك عرض الجار، وكذلك خيانة الأمانة بشهادة الزور أمام القضاء لتضيع حقوق الناس بالباطل.


- فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه.


وهذا الحديث يضع الحدود بين الحلال والحرام، ويجعل للحرام حما حوله كي لا يقترب منها الإنسان المسلم، وهذه الحمى تتمثل بالشبهات التي لم يتبين فيها الحل من الحرمة، وعلى المسلم في هذه الحالة تجنب الشبهات خوفا من الوقوع في الحرام أو الاقتراب منه.


الأحاديث السابقة توضح لنا أن المنهيات الشرعية ليست في مرتبة واحدة، بل هي مراتب متفاوتة، فأعلاها الكفر بالله تعالى، وأدناها المكروه تنزيها وخلاف الأولى، والكفر أيضا درجات بعضها دون بعض، وأعلى مراتب المنهيات الكفر بالله، كفر الإلحاد والجحود، وهو كفر الماديين في كل عصر، ودون هذا الكفر، كفر الشرك (كفر عرب الجاهلية وشرك البوذيين)، ودون هذا كفر أهل الكتاب، وهناك كفر النفاق، والشرك نوعان، أكبر وأصغر، فالأكبر أن يتخذ لله ندا يحبه كما يحب الله، والأصغر فهو الرياء، والحلف بغير الله، والنذر لغير الله والخوف من غير الله، والنفاق أيضا نوعان، أكبر وأصغر، فالنفاق الأكبر، نفاق العقيدة، أما النفاق الأصغر، فهو نفاق العمل والسلوك.


الموازنة بين الكبائر المحرمة


1- المحرم لذاته: وهو ما حكم الشارع بتحريمه ابتداء لما اشتمل عليه من مفسدة راجعة إلى ذاته، ومنه الكبائر، كقتل الناس والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات والتولي يوم الزحف وعقوق الوالدين وقطع الرحم وشهادة الزور واليمين الغموس وشرب الخمر والزنا واللواط والانتحار والغصب والرشوة وترك الفرائض الأساسية، وكذلك كبائر معاصي القلوب كالكبر والحسد والرياء.


2- المحرم لغيره أو لعارض: وهو ما كان مشروعا في أصله ولكنه حرم لعارض، كالنظر للأجنبية والخلوة بها ليست محرمة لذاتها وإنما لما تفضي إليه من مفاسد، كما إن المحرم لذاته أخطر من المحرم لغيره، لأن الأول مفاسده ذاتية، أما الآخر فمفاسده خارجية، لذلك المحرم لذاته لا يرخص فيه إلا عند الضرورة، أما المحرم لغيره فيرخص به عند الحاجة، لذا أبيح للحاجة علاج المرأة للرجل والعكس وسفر المرأة وغيره.


وقد يكون هناك تفاوت في المعصية الواحدة بسبب الحيثيات التي تحيط بها، فالزنا بالمتزوجة أكبر إثما من الزنا بغير المتزوجة، والزنا بالجارة أقبح من الزنا بغيرها، وزنا الشيخ ليس كزنا الشاب وهكذا، كما أن المحظورات متفاوتة فيما بينها، فظلم الغير أفظع من ظلم النفس، ومعاصي القلوب أفظع من معاصي الجوارح، كما أن المعصية فـي زمان مفضل أو مكان مقدس ليس كالمعصية في غيرها، والمعصية الصادرة عن عالم ليست كالصادرة عـن جاهل، والمجاهر بالمعصية ليس كالمستخفي، والمعصية الفردية ليست كالمعصية الجماعية أو العامة، والمعصية في حق الله ليست كالمعصية في حق العبد.


أما بعد الكبائر والمحرمات تأتي الصغائر والمكروهات، والضابط في التفريق بينها هو عظم المفسدة أو صغرها، وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام رحمه الله، إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر، فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإذا نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر وأربت عليها فهي من الكبائر، فمن شتم الرب أو الرسول أو استهان بالرسل أو كذب واحدا منهم أو .... فهذا من أكبر الكبائر، ولو لم يصرح الشرع بأنه كبيرة، وكذلك لو أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها، أو مسلما لمن يقتله، فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم مع أنه من الكبائر، وكذلك لو دلّ الكفار على عورة المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلونهم بدلالته، ويسبون حرمهم وأطفالهم، ويغتنمون أموالهم، ويزنون بنسائهم، ويخربون ديارهم، فإن تسببه إلى هذه المفاسد أعظم من توليه يوم الزحف بغير عذر مع كونه من الكبائر، وبعد الصغائر تأتي الشبهات، وهي ما لا يعلم حكمه كثير من الناس، ويشتبهون في حله أو تحريمه، وهذه ليست كالمحرمات المقطوع بها.


الموازنة بين المصالح والمفاسد


1- قصة بول الأعرابي في المسجد.


- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين.


- فعن ‌أنس بن مالك رضي الله عنه، أن أعرابيا بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه.


يقول ابن حجر رحمه الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الصحابة، ولم يقل لهم، لما نهيتم الأعرابي؟ بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة، وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع، بأمرهم عند فراغه بصب الماء.


وهذا الحديث يتضمن موازنة بين عدة مفاسد، مفسدة تنجيس المسجد بالبول، وهو محرم بلا شك، وقد احتمل ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لدفع مفاسد أعظم منها، ومفسدة تنفير هذا الأعرابي عن الدين، وذلك أنه كان جاهلا حديث عهد بالإسلام، فلو قام الأعرابي لنجس مواضع أخرى من المسجد غير البقعة التي كان قاعدا يقضي بوله فيها، وربما نجس ثيابه، كما يتضرر بدنه باحتباس البول فيه، ويؤخذ من هذا الحديث قاعدة أصولية من قواعد فقه الموازنات، وهي إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما.


2- هدم الكعبة وإعادة بنائها على أسس إبراهيم عليه السلام.


- فعن ابن الزبير، قيل له: كانت عائشة تسر إليك كثيرا، فما حدثتك في الكعبة؟ قلت: قالت لي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم، (قال ابن الزبير: بكفر)، لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس وباب يخرجون، ففعله ابن الزبير.


- وفي رواية أخرى: لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها من الحجر.


- وفي رواية: ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر فى البيت، وأن ألصق بابه بالأرض.


نلاحظ هنا أن هدم الكعبة وإعادة بنائها على أسس إبراهيم عليه السلام مصلحة، ولكنه قد اعترض بمفسدة أكبر وهي فتنة القوم ونفورهم، وذلك لحداثة عهدهم بالجاهلية والشرك، ولاعتقادهم أن ذلك جرأة على الكعبة واعتداء على حرمتها، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم، أن يؤدي ذلك إلى نفور الناس أو ارتداد بعضهم عن الإسلام، لأن الناس كانوا يعظمون الكعبة في الجاهلية والإسلام، وقد لا يتحملون أن يروها تهدم، وقد لا يفقهون ما يرمي إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من إعادة البناء، كما أنه خشي اهتزاز حرمة البيت في النفوس.


وقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله لهذا بقوله، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم الناس عنه فيقعوا في أشد منه، وهذا يدل على أن البخاري رحمه الله ضليع في فقه الموازنات، ويدل على صحة الاستدلال بهذا الحديث لفقه الموازنات.


ويقول النووي رحمه الله في هذا الحديث أيضا، إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة، بدئ بالأهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبا، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيما، فتركها صلى الله عليه وسلم.


ويقول ابن حجر رحمه الله، وفي هذا اجتناب ولي الأمر ما يشرع الناس إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وتألف قلوبهم بما لا يترك فيه أمر واجب، وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة، وجلب المصلحة، وأنهما إذا تعارضتا بدئ بدفع المفسدة، وأن المفسدة إذا أمن وقوعها عاد استحباب عمل المصلحة.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart