قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الحكمة الإلهية من المصائب والابتلاءات الجماعية

الحكمة الإلهية من المصائب والابتلاءات الجماعية

نحن كبشر في هذا العالم لا ندرك على وجه اليقين الحكمة من نزول أي مصيبة، ولن يختلف هذا الأمر من حيث كون المصيبة فردية أو جماعية، وقد تكون المصيبة واحدة في نزولها على مجموعة كبيرة من الناس، إلا أن الحكمة في إصابتها لكل فرد منهم تختلف من شخص لآخر، وهذه الحكمة أمر غيبي في علم الله تعالى، لكن الذي يقع في دائرة علمنا وتكليفنا (المؤمنين) أن نزول المصيبة لا يتنافى أبدا مع العدل الإلهي، وأن لكل صابر على ما يصيبه من مآسي الحياة عموما، نصيب من الثواب ومن تكفير الذنوب، ومن تزكية النفس وتحسين الخلق (الخير العام).


كما وأن نزول العذاب الجماعي لا يكون إلا بعد قيام الحجة على الناس وظهور الحق، وقد يكون الاستئصال الجماعي بإهلاك أمة أو شعب ما نتيجة إصرار عامة الناس على العناد والكفر والظلم، أو قد تكون هناك فئة من المجتمع لا تمارس الظلم والكفر، إلا أنها راضية بالمنكر أو لا تقوم بواجبها في محاولة تغييره، ولو حاول الصالحون أن يغيروا الوضع القائم (الفساد) لنجا القوم كلهم، لكن تقصير الصالحين قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى العذاب الجماعي، فالفتنة تعم الجميع عندما يعم المنكر الكل.


هذا وعندما قضى الله تعالى على بعض الأمم السابقة بالاستئصال (العذاب)، كان ذلك بعد أن أقام الأنبياء والرسل عليهم الحجة والبينة الصادقة، ولكنهم أصروا سنوات طويلة على الكفر والظلم والعناد، وبعدها أوحى الله تعالى لأنبيائه ورسله بأن يخرجوا مع أتباعهم الصالحين من قراهم قبل حلول ساعة الهلاك، ليحل الهلاك والعذاب بالجاحدين المعاندين فقط، إلا أن نجاة الصالحين في بعض القصص التي ذكرها القرآن الكريم، لا ينفي نزول الهلاك على أمة ما بوجود الصالحين فيها، والذي بدوره لا ينفي عدل الله تعالى، فالهلاك نفسه قد لا يكون هو الإجراء العقابي الذي استحقوه، بل هو بالأحرى استئصال للشر الذي عمّ بسبب فسادهم، فيموتون جميعا بما فيهم الفئة الصالحة، أما العقوبة فتكون في الآخرة وليست في لحظة نزول الكارثة التي لا يدوم عذابها إلا ساعة من نهار.


وهكذا فإن الموت (الفناء) نفسه لهؤلاء المؤمنين والصالحين ليس مصيبة، ونزول القضاء بالهلاك الجماعي قد يكون لتخليص الأرض من السوء الذي فشا على يد أهلها، وحتى لو قلنا إن ساعة نزول الكارثة الجماعية تتضمن من الفزع ما يكفي لاعتبارها عذابا للكل، فإننا لا ندري ما يحل بقلوب الصالحين حينئذ، وطالما كنا مؤمنين بعدل الله تعالى وقررنا أن هذا الفزع بمثابة العذاب للعصاة، فمن البديهي أن نفترض أن الله تعالى سيربط على قلوب الصالحين، ويقبض أرواحهم في تلك الساعة دون خوف، أو يجعل تلك الساعة من العذاب بمثابة كفارة لذنوبهم كما هو حال المؤمن الصابر على أي مصيبة أخرى، والله تعالى يحاسب كل فرد بالعدل بل وبالفضل يوم القيامة، ومن كان صالحا وقام بما يقدر عليه من الخير نجا من العذاب إلى رضوان الله تعالى الدائم، وهذا أدوم وأبقى من كل نعيم الدنيا أو عذابها (المؤقت).


الحكمة الإلهية في المصيبة الفردية قد تكون هي ذاتها الحكمة من وراء ابتلاء كل شخص على حدة عندما ينزل البلاء على الجميع، ونزول المصائب الجماعية على أمة أو شعب أو فئة من المجتمع دون هلاك شامل (زلزال أو فيضان)، فإن كل فرد من أهلها سينال ثوابه وتكفر ذنوبه على قدر صبره واحتسابه، كما سيتحقق له من فوائد المكابدة واللجوء إلى الله تعالى ما يتحقق أيضا في حال نزول مصيبة أخرى عليه وحده، ولو أدت هذه الكوارث والمصائب إلى موت بعضهم، حيث قد يكون في ذلك عقوبة معجلة لبعضهم، وراحة من كبد العيش لآخرين، وتكفيرا للذنوب ورفعا للدرجات للبعض الآخر، لكن لا أحد يعلم يقينا استحقاقات كل فرد إلا الله تعالى، كما لا يعلم أحد ما يحل بكل فرد من راحة ونعيم وثواب، وصبر وعذاب وجزع إلا الله تعالى وحده.


هذا وقد نص القرآن الكريم بوضوح على أن الله تعالى قد يبتلي أمة ما بالمصائب والكوارث الطبيعية ليدفعهم إلى الإيمان والخشوع، بل نص على أن هذا الابتلاء وقع لكل الأمم التي أرسل إليها أحدا من رسله، والابتلاء لا يعني بالضرورة الإبادة كما حدث لأقوام عاد وثمود، بل قد يكون نوعا من الشدة التي تحدث لنا نحن في هذا العصر، فالله تعالى يبتلي الأمم على مرّ التاريخ والعصور بالشدة تارة وبالرخاء تارة أخرى، وهذا من طبيعة تاريخ الأمم منذ الأزل، لكن هذا كله لا ينبغي أن يبرر للمؤمن التحجج بالإرادة الإلهية لنفي المسؤولية عن نفسه، فالإنسان محاسب عن كل ما يفعله (خير أو شر).


كما ولا يعني كل ذلك أيضا أن هناك سنة كونية تقتضي أن يبتلي الله تعالى دائما الأمة المؤمنة أو المؤمنين بالأزمات والمصائب، لكن الابتلاء عموما يمحص إيمان الناس ليتبين صدقهم من عدمه، والفرد المؤمن الذي يزداد تلذذا بقربه من الله تعالى تهون عليه المصائب إلى درجة الاعتياد عليها، حتى تصبح لذة استشعار تذكير الله تعالى له بالمصائب أحب إليه من لذة الرخاء الذي يترافق مع الغفلة والتراخي، وهذه درجة عالية من الصفاء الروحي لا تعمم على كل الناس، ولا يعرفها سوى المتقين الزهاد في كل العصور.


أما لماذا يعاقب الله تعالى بعض المجتمعات المسلمة والمؤمنة بالكوارث والمصائب الجماعية، بينما يترك مجتمعات منحلة دينيا وأخلاقيا في أمن ورغد من العيش؟! نقول هنا أن هذا السؤال قائم على عدة مغالطات، حيث من قال إن هذه المجتمعات تطبق فعلا ما أمر الله تعالى به (عبودية ومعاملات)؟! ومن قال إن النعم التي يتمتع فيها الظالم والجاحد والمنحل أخلاقيا تعني أن الله تعالى راض عنه؟! وهل الدنيا أصلا دار ابتلاء أم دار حساب؟! والجواب على كل ما سبق يجب أن يفهم من خلال أنه عندما نقول مثلا إن كارثة ما هي رسالة إلهية إلى البشر لتذكيرهم بحقيقة الدنيا وتحذيرهم من مغبة الإسراف في المعاصي، فهذا لا يعني أن الله تعالى قد ألزم نفسه بإرسال هذه الرسائل إلى كل العصاة، فالأمر من قبل ومن بعد هو لله تعالى، إن شاء عفى وإن شاء أمهل، وإن شاء عاقب بما يشاء ولمن يشاء.


كما أن نزول كارثة جماعية على مجموعة من البشر لا ينبغي أن يفسر جماعيا بحكمة واحدة كما أسلفنا، ونحن هنا يجب ألا نحكم على أي مجموعة بشرية بأنها معصومة عن الخطأ أو غير معصومة، كما وأن ما يتعرض له أي مجتمع مسلم من كوارث لا يستلزم منا أن نطعن في دين أفراد هذا المجتمع، فقد تكون المصيبة دافعا لإصلاح أنفسهم وتغيير مجتمعهم، وقد تكون أيضا عبرة لمجتمعات أخرى ممن حولهم من المسلمين وغير المسلمين، لكن يجب دوما في المصائب التضرع لله تعالى وطلب العفو والرحمة منه، وذلك أن الحكمة في البأس والضرر الواقع، هي تليين قلوب الناس وتذكيرهم بعبوديتهم لله تعالى.


هذا ومن الخطأ الاعتقاد بأن اعتناق غالبية مجتمع ما للإسلام يعني حصول هذا المجتمع على وعد إلهي بالنصر والتمكين والتقدم والحماية من الكوارث، فالقرآن الكريم عندما كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم أثناء تأسيسه للمجتمع المسلم، كان ينبههم باستمرار إلى ضرورة تطبيق الإسلام عمليا وتحقيق كل شروطه ومكابدة ما يتطلبه ذلك من مشقة، وذلك قبل أن يعدهم بالحصول على مزايا النصر والحماية، كما وحذر القرآن الكريم الصحابة من الاستئصال بالرغم من إسلامهم، هذا ومن الخطأ أيضا الاعتقاد بأن كل مجتمع لا يلتزم بالإسلام ويستجيب للوحي ويطبق العدل، فإن مصيره التعرض للكوارث أو الفناء، فكما يبتلي الله تعالى المؤمنين بالكوارث ليردعهم ويعيدهم إلى الصواب، فإنه قد يبتلي بعض المعاندين في المقابل بالرخاء والرفاهية، استدراجا لهم وفتنة، وقد لا يقتصر الأمر على أن يبتلي الله المؤمنين بالشدة ويبتلي الكافرين بالرخاء، بل قد يسلط الكافرين أنفسهم على المؤمنين، وذلك عقابا للمؤمنين على تقصيرهم وتخاذلهم، وعدم قيامهم بواجبهم في حمل مشعل الوحي الصادق إلى الأمم الأخرى وإعمار الأرض بشرع الله تعالى، ودائما وأبدا لله تعالى الأمر من قبل ومن بعد، أي من قبل كل شيء ومن بعد كل شيء.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart