قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

معادلة المحاور: السيطرة الأمريكية بين الاحتلال الإسرائيلي والمشروع الإيراني

معادلة المحاور: السيطرة الأمريكية بين الاحتلال الإسرائيلي والمشروع الإيراني

العالم الحقيقي والواقعي الذي نعيش فيه اليوم قائم على الظروف الملائمة وتوازن التحالفات وموازين القوى المختلفة، ومنه فإن كل فكر وأيديولوجية معينة سوف يتم العمل على تكييفها أو تعديلها، أو حتى تطويرها حسب توافر الظروف المناسبة لها، وإذا اختلفت هذه الظروف والحيثيات سيختلف الوضع، كما وسيتم إعادة ترتيب أولوياتها لدى حامليها وفقا لاختلاف هذه الأوضاع وتطوراتها المتنوعة والمتعددة.


الجمهورية الإسلامية الإيرانية المعاصرة تشكلت عقب ثورة قام بها الخميني، وهذه الثورة كانت ضد الشاه القومي العلماني، والتابع لأمريكا والحليف لإسرائيل، وطبعا إيران كغيرها من البلاد تحولت بعد سنوات ثورتها الأولى إلى دولة، وأصبحت تفكر بمنطق مصالح الدولة لا بمنطق مبادئ الثورة، ولهذا أصبحت تتحرك وفق عقيدتها الخاصة، وفي سياق مصالحها الذاتية وضمن رؤيتها المستقلة لمشروعها.


المشروع الإيراني في المنطقة كان يقوم في بداياته الأولى على فكرة تصدير الثورة، لكن حدوده المذهبية والطائفية وقفت عائقا أمام تمدده بالشكل الذي كان مخطط له، وكما أن شاه إيران كان قبل الخميني يحلم بتوسيع هيمنته، ومدّ نفوذه إلى العالم العربي والإسلامي، إلا أن أحد مستشاريه لخص له مستقبل ذلك بأنه فعليا يوجد سبيلان لتحقيق ذلك، لا ثالث لهما، وهو إما أن تتسنن إيران، أو يتشيع العرب، وهذا بالطبع يعني استحالة تحقيق هذه السيطرة وتنفيذ هذا المشروع.


وهكذا فإن إيران في الإقليم تتحرك بمنطق الدولة في المكاسب والخسائر، وذلك في مسار ترسمه لها العقيدة (الشيعية)، والتي تجمح إلى التوسع والانتشار والسيادة والهيمنة في المنطقة، حيث أن أخطر ما في هذا الفكر الشيعي اليوم هو أنه مذهب فكري يبنى معركته على تراكم الحزن والغضب والانتقام ممن يعتبر أنه العدو الأقرب له، وهو السني الناصبي المعادي لأهل البيت حسب وجهة نظره، كما أنه يعتبر هذا العدو هو الطرف الأضعف الذي يمكن اجتياحه والهيمنة والسيطرة عليه.


وهنا قررت أمريكا أن تدير العلاقة مع هذه الدولة الجديدة ذات التوجه الإسلامي (الشيعي) والمعادي لها ولإسرائيل، بمنطق رعاية هذه الدولة الإسلامية الشيعية الوليدة، والعمل على استغلالها لترسيخ الانقسام الكبير بين دول المسلمين عامة (سنة وشيعة)، واللعب على تناقضات هذا الانشقاق وتكبيره وتضخيمه والاستفادة منه لاضعاف الجميع في المنطقة، وهكذا أصبحت إيران لاعب سياسي مفيد بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وذلك من خلال الزيادة من الانقسام السني الشيعي في الإقليم، وخاصة تخويف دول الخليج باستمرار من هذا الخطر الإيراني ليزدادوا التصاقا بها ومن بعدها إسرائيل.


كما أن الدور الأمريكي والإيراني في المنطقة توافق على تعريف الإرهاب والجماعات المستهدفة منه، وذلك رغم اختلاف المقاصد لكل منهما، فالإرهاب ضمنيا في المفهوم الأمريكي والغربي هو (إرهاب إسلامي)، وهو ضمنيا في المفهوم الإيراني (إرهاب سني)، والمفهومان متطابقان بالنظر إلى الأهداف الاستراتيجية لكل من واشنطن وطهران، فواشنطن تسعى من خلال هذا التوافق إلى ابتزاز أصدقائها في المنطقة وتسريع عملية التطبيع مع إسرائيل، بينما تسعى طهران للحفاظ على نفوذها الإقليمي تحت مظلة مقاومة المشروع الصهيوني.


الاستراتيجية الأمريكية عموما تقوم على تحقيق المصالح، وذلك بالاعتماد على الوصول للمكاسب القريبة والمحققة، وإن كانت بعدها الخسائر بعيدة ومحتملة، ولهذا تبادل الطرفان الأمريكي والإيراني مثلا العديد من الخدمات التي تحقق لكليهما مصالحهما المختلفة، كما حصل في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وغيرها، وذلك من خلال الاستفادة من تناقضات طبيعية موجودة استغلها كل طرف لصالحه، ولكن طبعا دون أن يدخل فيها دور قيام إيران بالعمالة لأمريكا، أو تحالف أمريكا مع إيران كصديق، فالعداء بين إيران وأمريكا عداء حقيقي وليس كما يتوهم البعض.


وهكذا فإن حدود الخلاف بين الطرفين هو تصارع الإرادات المستقلة، ومحاولة استثمار كل طرف لما تتيحه الظروف، ثم محاولة كل طرف تحقيق ما يمكن من مكاسب وتجنب الخسائر، لكن لا تزال قوة إيران ضعيفة للغاية بالنسبة إلى أمريكا، ومنه فلو أن هذا النمو الإيراني هدد المصالح الأمريكية أو إسرائيل، فإنه ما زال بالإمكان العمل على تحجيم قدراته وتعويقها، فمثلا في سوريا لم تنجح الثورة السورية على نظام حكم بشار الأسد بتقديم البديل العلماني المقبول دوليا، وذلك بعد مشاركة المليشيات الشيعية وخبراء الحرس الثوري الإيراني لدعم النظام، حيث أن إيران ومن منطلق مصالحها المستقلة قد استثمرت استثمارا عظيما في نظام بشار الأسد وفي سوريا سياسيا وعسكريا ومذهبيا، لكن كان هناك حد معين مسموح به للنمو بالنسبة لها ولحلفائها في المنطقة، ولهذا فإنه لما انحسرت الثورة السورية سمحت أمريكا لإسرائيل بقصف المليشيات الشيعية وقادة الحرس الثوري في سوريا، وكانت بذلك إيران من أكبر الخاسرين في هذه الثورة.


هذا ورغم أن المشروع الإيراني يمثل خطرا حقيقيا على المنطقة، إلا أن حجمه وتأثيره أقل من المشروع الصهيوني، وذلك بالرغم من أن إيران عبر أذرعها المسلحة، تسعى إلى فرض هيمنتها على أجزاء كبيرة من العالم العربي والإسلامي، وفرض سيطرتها على مواقع استراتيجية في المنطقة وتعبئة مليشياتها الطائفية في خدمة ذلك، ولكن يبقى تأثيره محدود مقارنة بالمشروع الصهيوني الذي يحظى بدعم أمريكي ودولي كبير، حيث أن المشروع اليهودي الصهيوني هو الخطر الأكبر على الأمة العربية والإسلامية اليوم، وذلك لأن هذا الكيان الصهيوني لا يهدف فقط إلى احتلال فلسطين، بل يسعى إلى تغيير معادلات المنطقة بشكل كامل، كما أن هذا المشروع السرطاني يتمدد ليس فقط على المستوى العسكري، بل أيضا على المستوى الجغرافي والاقتصادي والمعنوي والديني، وذلك باستهداف المكونات السنية عبر وسائل مختلفة لتحقيق هيمنة شاملة على المنطقة، بحيث يؤثر على قرارات العديد من الدول العربية والإسلامية، ويهيمن على السياسات الإقليمية بشكل كبير، وكله في سبيل خلق إسرائيل الكبرى وتغيير الخارطة السياسية والدينية للمنطقة بأكملها.


طبعا كان ينبغي في الحالة الطبيعية، أن تكون الأمة العربية والإسلامية، وخاصة المكون السني، في طليعة المواجهة ضد المشروع الإيراني والاحتلال الصهيوني، ولكن الواقع الحالي يكشف عن معادلة مختلة، حيث كانت الأمة السنية تاريخيا، وبالخصوص المكونات السياسية والشرعية والدعوية فيها، هي التي تقود المجتمعات العربية والإسلامية للتفاعل مع القضايا الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وللأسف قد تفكك هذا المكون السني بسبب استهداف القوى الدعوية والإصلاحية والسياسية الفاعلة فيه منذ سنوات بعيدة، حيث تعرضت هذه المكونات السنية لعملية استهداف ممنهجة، سواء عبر التدخل في مناهج التعليم أو من خلال تجفيف منابع الدعوة والإصلاح، أو حتى منع المشاركة في العملية السياسية، كما أن الحروب التي شنت تحت غطاء (مكافحة الإرهاب) ساهمت في اجتثاث العديد من القوى السنية الشرعية والدعوية والمعارضة والمقاومة، مما أدى إلى حالة من التيه والضياع في المكون الشعبي الإسلامي السني إجمالا، والذي فقد الكثير من رموزه المؤثرة والمحركة.


ولهذا فقد استثمر المحور الشيعي بقيادة إيران في هذا الفراغ الحاصل في الساحة السنية، والتي شهدت المكونات السنية المتنوعة فيه مزيدا من التفكك، وخاصة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، حيث دخلت المليشيات الشيعية المدعومة من إيران في صراعات دموية مع المكونات السنية، ما ساهم من تمكن إيران من توسيع نفوذها في المنطقة عبر مليشياتها المسلحة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وجعل المشروع الشيعي يتعمق أكثر في الجغرافيا السياسية للمنطقة، كما وتدرك إيران أيضا أن توسعها الإقليمي قد ارتبط بوجود المشروع الصهيوني في المنطقة، وتدرك إسرائيل بدورها أن تمددها عبر اتفاقيات التطبيع كان بفضل المشروع الإيراني، مما يجعل العلاقة بينهما علاقة تنافسية تستغل كل منهما وجود الأخرى لتعزيز قوتها ونفوذها.


وهكذا تتداخل الأزمات في المنطقة بين ثلاث محاور رئيسية، السيطرة الأمريكية والاحتلال الصهيوني والمشروع الإيراني، ورغم أن كل الأطراف تعتبر خطرا على الأمة العربية والإسلامية (السنية)، إلا أن طبيعة التهديدات التي يشكلها كل منها تتفاوت من حيث العمق والتأثير، فالكيان الصهيوني يسعى إلى المزيد من التمدد والتوسع، بينما يحاول المشروع الإيراني ملء الفراغات والاستفادة من الانقسامات داخل العالم السني، فيما تتلخص السيطرة الأمريكية في المنطقة بالعمل على تحقيق أكبر قدر من المصالح لها ولحلفائها (إسرائيل)، وهكذا فإنه في ظل هذا الصراع المعقد، وتفكك الحالة السنية وتمدد المشروع الشيعي، يجب أن تكون الأمة العربية والإسلامية (السنية) على وعي كامل بحجم المخاطر التي تواجهها، كما ولا شك أن القضية الفلسطينية تحظى بأهمية كبيرة بين الشعوب العربية والإسلامية، وذلك لما تمثله من قدسية دينية وتاريخية، وبوجود أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، المسجد الأقصى على أراضيها، ولهذا يجب ألا ننسى هنا أن المقاومة الفلسطينية الإسلامية السنية، بقيادة حماس والجهاد، هي في طليعة المواجهة ضد الاحتلال الصهيوني وحققت صمودا أسطوريا وكبيرا في حرب غزة الأخيرة، كما كان أيضا تدخل المحور الإيراني وحزب الله في الصراع مهم ومفيد نسبيا، وإن لم يكن بمستوى الشعارات الكبيرة التي كانوا يرددونها حول القدس وفلسطين.


وأخير نقول إن الناصر الحقيقي لشعوب الأمة العربية والإسلامية ولقضاياها ومصالحها المتعددة والمتنوعة، يجب أن يكون نابع من فضاءاتها الأيدولوجية والعقائدية المشتركة، كما أن تحرير فلسطين ومصلحة غزة الوحيدة اليوم هو بأن تكون الشعوب حولها حرة، ولا تستكين وتخرج على الظالم وتنادي بنصرة غزة، ودعم فلسطين على الصمود وكل مقاوم على الثبات، فاليوم غزة وغدا بيروت وبعده دمشق وبغداد وعمان وطهران وغيرهم، ولهذا يجب أن نتبين طريقنا ومواقع أقدامنا، حيث أن التحالفات الإقليمية والدولية تبقى معقدة وصعبة، ولذلك من الضروري أن تعود المكونات الشرعية والدعوية والسياسية (السنية) إلى قيادة الشعوب العربية والإسلامية، واستعادة دورها المحوري في مواجهة المشاريع الأمريكية والإسرائيلية الصهيونية والإيرانية (الشيعية) على حد سواء.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart