قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

آداب قراءة القرآن الكريم - 2 -

آداب قراءة القرآن الكريم - 2 -

 - التفهم - التخلي عن موانع الفهم - التخصيص - التأثر - الترقي - التبري -

هناك ما يسمى بالتفهم في آداب قراءة القرأن الكريم، وهو أن يستوضح من كل آية ما يليق بها، إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات الله عز وجل وذكر أفعاله، وذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام، وذكر أحوال المكذبين لهم وكيف أهلكوا، وذكر أوامره وزواجره، وذكر الجنة والنار، أما صفات الله عز وجل، حيث قال تعالى: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى 11)، وقال تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الحشر 23) فليتأمل معاني هذه الأسماء والصفات لينكشف له أسرارها فتحتها معان لا تنكشف إلا للموفقين، وأما أفعاله تعالى فكذكره خلق السموات والأرض وغيرها، فليفهم التالي منها صفات الله عز وجل وجلاله، إذ الفعل يدل على الفاعل، فتدل عظمته على عظمته، فينبغي أن يشهد في الفعل الفاعل دون الفعل، فمن عرف الحق رآه في كل شيء، إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله، ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل وأن كل شيء هالك إلا وجهه، فليتأمل هذه العجائب ليترقى منها إلى عجب العجائب، وهو الصفة التي منها صدرت هذه الأعاجيب، فلا يزال ينظر إلى الصنعة فيرى الصانع، وأما أحوال الأنبياء عليهم السلام، فإذا سمع منها كيف كذبوا وضربوا وقتل بعضهم، وسمع نصرتهم في آخر الأمر فهم قدرة الله عز وجل وإرادته لنصرة الحق، وأما أحوال المكذبين كعاد وثمود وما جرى عليهم، فليكن فهمه منه استشعار الخوف من سطوته ونقمته، وليكن حظه منه الاعتبار في نفسه، وأنه إن غفل وأساء الأدب واغتر بما أمهل فربما تدركه النقمة وتنفذ فيه القضية، وكذلك إذا سمع وصف الجنة والنار وسائر ما في القرآن فلا يمكن استقصاء ما يفهم منه، لأن ذلك لا نهاية له وإنما لكل عبد بقدر رزقه.

 

كما ويجب التخلي عن موانع الفهم، وحجب الفهم أربعةٌ: أولها: أن يكون الهمّ منصرفا إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها، فالذي يكون تأمله مقصورا على مخارج الحروف أنى تنكشف له المعاني؟! ثانيها: أن يكون مقلدا لمذهب سمعه بالتقليد، وجمد عليه وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة، فهذا شخص لا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده فصار نظره موقوفا على مسموعه. ثالثها: أن يكون مصرا على ذنب أو متصفا بكبر، فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه، وهو كالخبث على المرآة فيمنع جلية الحق من أن يتجلى فيه، وكلما كانت الشهوات أشد تراكما كلما كانت معاني الكلام أشد احتجابا، وقد شرط الله عز وجل الإنابة في الفهم والتذكير، حيث قال تعالى: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) (ق 8)، فالذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة لا تنكشف له أسرار الكتاب. رابعها: أن يكون قد قرأ تفسيرا ظاهرا واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي وأن من فسّر القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار، فهذا أيضا من الحجب العظيمة.

 

أما التخصيص وهو الذي يقدّر بأنه المقصود بكل خطاب في القرآن، فإن سمع أمرا أو نهيا قدّر أنه المنهي والمأمور، وإن سمع وعدا أو وعيدا فامتثل لذلك، وإن سمع قصص الأولين والأنبياء علم أن السمر غير مقصود، وإنما المقصود ليعتبر به وليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه، فما من قصة في القرآن إلا وسياقها لفائدة في حق النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، حيث قال الله تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ۚ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ ۚ قُل لَّا أَشْهَدُ ۚ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ((الأنعام 19)، قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله :(من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله، وإذا قدر ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله، بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه)، ولذلك قال بعض العلماء: (هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده نتدبرها في الصلوات، ونقف عليها في الخلوات، وننفذها في الطاعات والسنن المتبعات)، وكان مالك بن دينار رحمه الله يقول: (ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن، إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض)، وقال قتادة رحمه الله: (لم يجالس أحد هذا القرآن إلا قام بزيادة أو نقصان)، حيث قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (الإسراء 82).

 

هذا وهناك التأثر وهو أن يتأثر قلب قارئ القرآن بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كل فهم حال، ووجد يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغيره، ومهما تمت معرفته كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه، فإن التضييق غالب على آيات القرآن، فلا يرى ذكر المغفرة والرحمة إلا مقرونا بشروط يقصر العارف عن نيلها، حيث قال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ ((طه 82)، وقوله تعالى: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر)، وهكذا من يتصفح القرآن من أوله إلى آخره، ومن فهم ذلك فجدير بأن يكون حاله الخشية والحزن، ولذلك قال الحسن رحمه الله: (والله ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه، وقل فرحه، وكثر بكاؤه وقل ضحكه، وكثر نصبه وشغله، وقلت راحته وبطالته)، فتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة، فعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقا إليها، وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفا منها، حيث قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال 2)، فالقرآن يراد لاستجلاب هذه الأحوال إلى القلب والعمل به وإلا فالمؤنة في تحريك اللسان بحروفه خفيفة، وتلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزجار والائتمار، فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ.

 

وأيضا هناك الترقي وأعني به أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله عز وجل لا من نفسه، فدرجات القراءة ثلاث: أدناها أن يقدر العبد كأنه يقرؤه على الله عز وجل واقفا بين يديه وهو ناظر إليه ومستمع منه، فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال والتملق والتضرع والابتهال. الثانية أن يشهد بقلبه كأن الله عز وجل يراه ويخاطبه بألطافه ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم والإصغاء والفهم. الثالثة أن يرى في الكلام المتكلم وفي الكلمات الصفات، فلا ينظر إلى نفسه بل يكون مقصور الهم على المتكلم موقوف الفكر عليه، وهذه درجة المقربين، وعن الدرجة العليا أخبر جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه قال: (والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه ولكنهم لا يبصرون)، وقال ثابت البناني رحمه الله: (كابدت القرآن عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة).

 

وأخيرا وليس آخرا هو التبري، وأعني به أن يتبرأ من حوله وقوته والاتفات إلى نفسه بالرضا والتزكية، فإذا قرأ آيات المدح للصالحين فلا يرى نفسه عند ذلك، بل يشهد الصديقين فيها، ويتشوف إلى أن يلحقه الله عز وجل بهم، وإذا تلا آيات المقت وذم العصاة، شهد على نفسه هناك، وقدّر أنه المخاطب خوفا وإشفاقا، فإذا رأى نفسه بصورة التقصير في القراءة كانت رؤيته سبب قربه، ومهما كان مشاهدا نفسه بعين الرضا صار محجوبا بنفسه.

 

هذا ولا ننسى أن الشروط الواجب توفرها في الباحث عن مقاصد القرآن وأسراره، هي أن فهم أسرار القرآن لا يكون إلا بعد معرفة معانيه الظاهرة، ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن يدعي البلوغ إلى صدر البيت قبل مجاوزة الباب، أو يدعي فهم مقاصد الأتراك من كلامهم وهو لا يفهم لغة الترك، فإن ظاهر التفسير يجري مجرى تعليم اللغة التي لا بد منها للفهم، وبعد اتقان الظاهر عليه أن يرجع إلى تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن وتفسير السلف ولا يتجاوزه قبل الإحاطة به، وإلا فهو داخل فيمن فسر القرآن برأيه، والرسوخ في العلم وصفاء القلب والتجرد للبحث، فمعاني القرآن ومقاصده وأسراره تنكشف للراسخين في العلم، بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم وتوفر دواعيهم على التدبر، وتجردهم للطلب، ويكون لكل واحد حد في الترقي إلى درجة أعلى منه، فأما الاستيفاء فلا مطمع فيه، ولو كان البحر مدادا، والأشجار أقلاماً فأسرار كلمات الله لا نهاية لها، فتنفد الأبحر قبل أن تنفد كلمات الله عز وجل، فمن هذا الوجه يتفاوت الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معارف ظاهر القرأن.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart

2025