الآداب الظاهرة والباطنة للتعامل مع القرآن الكريم
- النفاذ من منطوق النص وظاهره إلى مقصده ومرماه -
الحمد لله الذي امتن على عباده بنبيه
المرسل وكتابه المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم
حميد، حتى اتسع على أهل الأفكار طريق الاعتبار بما فيه من القصص والأخبار، واتضح
به سلوك المنهج القويم والصراط المستقيم بما فصّل فيه من الأحكام، وفرّق بين
الحلال والحرام، فهو الضياء والنور وبه النجاة من الغرور، وفيه شفاء لما في
الصدور، ومن خالفه من الجبابرة قصمه الله تعالى، ومن ابتغى العلم في غيره أضله
الله تعالى، هو حبل الله المتين ونوره المبين، والعروة الوثقى والمعتصم الأوفى،
وهو المحيط بالقليل والكثير والصغير والكبير، لا تنقضي عجائبه ولا تتناهى غرائبه،
لا يحيط بفوائده عند أهل العلم تحديد ولا يخلقه عند أهل التلاوة كثرة الترديد، هو
الذي أرشد الأولين والآخرين، ولما سمعه الجنّ لم يلبثوا أن ولوا إلى قومهم منذرين،
حيث قال تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ
فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ
فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) (الجن 1 – 2)، فكل من آمن
به فقد وفق، ومن قال به فقد صدق ،ومن تمسك به فقد هدي ومن عمل به فقد فاز، حيث قال
تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر
9).
أما واقع معظم المسلمين هذه الأيام مع
القرآن مؤرق، وعلاقتهم معه يحكمها الهجر والعقوق، فالكثير من المسلمين هجروا
القرآن فلا يقرؤونه إلا في رمضان أو في مجالس العزاء، والملتزمون منهم يقرؤون
القرآن باستمرار ويحفظونه عن ظهر قلب، ولكن يكتفون بهذا الحد ولا يتجاوزونه إلى
التدبر والتفكر بما يحتويه القرآن من منهجٍ جاء ليغير حياة الناس ويرتقي بها إلى
المستوى الذي يريده الله لعباده، فبالنظر إلى مراكز ودروس القرآن التي تنتشر في
شرق بلاد الإسلام وغربها نرى أن الطريقة التي يعلم بها القرآن يصعب معها استحضار
واستصحاب التدبر والتذكر والنظر، فالجهد كله ينصرف إلى ضوابط الشكل من أحكام
التجويد ومخارج الحروف، كأننا نعيش المنهج التربوي والتعليمي المعكوس، فالإنسان في
الدنيا كلها يقرأ ليتعلم، أما نحن فنتعلم لنقرأ! وقد لا يجد الإنسان أثناء القراءة
فرصةً للانصراف إلى التدبر والتأمل، وغاية جهده اتقان الشكل، وقد لا يعيب عليه
الناس عدم إدراك المعنى قدر عيبهم عدم اتقان اللفظ! ونحن هنا لا نهون من أهمية ضبط
الشكل وسلامة المشافهة، لكننا ندعو إلى إعادة النظر في الطريقة حتى نصل إلى مرحلة
التأمل والتفكر والتدبر التي تترافق مع القراءة.
الأمة الإسلامية اليوم تعيش في حالة
أمية عقلية بسبب الغياب الحضاري والعجز عن تدبر القرآن الذي هو المنهج الذي به
رقيها، كما أن الأمة عاجزة عن التعامل مع الأحداث واتخاذ المواقف، واكتشاف سنن
الله في الأنفس والآفاق وحسن تسخيرها، ومعرفة كيفية التعامل معها، والنفاذ من
منطوق النص وظاهره إلى مقصده ومرماه، والتدخل حين نعلم السنة وأنها تتكرر ولا
تتبدل، فنستطيع توجيهها إلى حيث نريد ونفيد، كما إننا نخشى أن نقول إن علل الأمم
السابقة التي حذّر منها القرآن ونبّه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم قد تسربت
إلى العقل المسلم، حيث قال تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (البقرة 78)، أي لا
يعلمون الكتاب إلا تلاوة وترتيلا.
قد يظن البعض أن مشكلة الأمة تكمن في
غياب المنهج، وقد يلجأ البعض إلى استيراد مناهج من الشرق والغرب ليطبقها على
أمتنا، لكن المشكلة التي يعانيها المسلمون لا تكمن في غياب المنهج، وإنما تكمن في
افتقاد وسائل الفهم الصحيحة، وأدوات التوصيل وكيفية التعامل مع القرآن، والجهود
اليوم يجب أن تنصب على فهم القرآن وتدبره واستخراج المناهج التي تبني حياة الفرد
والأسرة والمجتمع والدولة والعالم، كما ونحن بحاجة أيضا إلى إعادة استدعاء القرآن
العظيم إلى الساحة الثقافية الإسلامية، وإنهاء حالة الهجر والفصام بينه وبين العقل
المسلم، وجعله المصدر الأول والأهم للمسلم المعاصر، كما كان كذلك عند السلف، يرجع
إليه ليستقى منه العلم والمعرفة الدقيقة السليمة في نظرته إلى الإنسان والحياة
والوجود، في الفطرة الإنسانية والاجتماعية، في قضايا الفرد والأسرة والمجتمع،
والعلاقات والنظم والموازين الحاكمة.
الإمام الغزالي يسوق العديد من الأدلة
على ذم القراءة التي تقتصر على التلفظ بحروف القرآن دون النفاذ منها إلى المعاني
والمقاصد التي تحتويها آياته، ودون النظر المعمق في الرسائل التي يرسلها الخالق
إلينا لنعمل بمقتضاها ونصوغ حياتنا وفق هديها، ويذكر الغزالي آدابا للتعامل مع
القرآن يبدؤها بالآداب الظاهرة، ثم ينتقل إلى الآداب الباطنة وهي بيت القصيد،
وتتمثل تلك الآداب في الفهم وتعظيم المتكلم، وحضور القلب وترك حديث النفس، والتدبر
والتفهم والتأثر، والتخصيص والترقي والتبري، كما يذكر الموانع التي تحول دون الفهم
الصحيح للقرآن الكريم.
وهذه الآداب تنقل المسلم من مجرد مردد
للآيات الكريمة إلى متفاعل معها وعامل بمقتضاها، ثم ليتحول بعد ذلك كما كان السلف
الصالح قرآنا يمشي على الأرض، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن ثم رأى
أن أحدا أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر ما عظمه الله تعالى)، وقال أيضا: (يقول
الله تبارك من شغله القرآن عن ذكري أو مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)، وقال
أيضا: (أهل القرآن أهل الله وخاصته)، وقال أيضا: (اقرؤوا القرآن، فإنه يجئ يوم
القيامة شفيعا لصاحبه)، وقال أيضا: (يقال لصاحب القرآن: إقرأ وارتق ورتل كما كنت
ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها).
وقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه:
(اقرؤوا القرآن ولا تغرنكم هذه المصاحف المعلقة، فإن الله لا يعذب قلبا هو وعاء
للقرآن)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا أردتم العلم فانثروا القرآن، فإن فيه
علم الأولين والآخرين)، وقال أيضا: (اقرءوا القرآن، فإنكم تؤجرون عليه بكل حرف منه
عشر حسنات، أما إني لا أقول: ألم حرف، ولكن الألف حرف واللام حرف والميم حرف)،
وقال أيضا: (لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن ويعجبه فهو يحب
الله سبحانه ورسوله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله سبحانه ورسوله) ، وقال
عمرو بن العاص رضي الله عنه: (من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه
لا يوحى إليه)، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (إن البيت الذى يتلى فيه القرآن اتسع
بأهله وكثر خيره وحضرته الملائكة وخرجت منه الشياطين، وإن البيت الذي لا يتلى فيه
كتاب الله عز وجل ضاق بأهله وقل خيره وخرجت منه الملائكة وحضرته الشياطين)، وقال
الفضيل بن عياض رحمه الله: (ينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له إلى أحد حاجة ولا
إلى الخلفاء فمن دونهم فينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه)، وقال أيضا: ( حامل
القرآن حامل راية الإسلام، فلا ينبغي أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو،
ولا يلغو مع من يلغو تعظيماً لحق القرآن)، وقال الحسن رحمه الله: (والله ما دون
القرآن من غنى ولا بعده من فاقه).
وقد ذم الرسول صلى الله عليه وسلم
تلاوة الغافلين، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها)،
وقال أيضا: (اقرأ القرآن ما نهاك، فإن لم ينهك فلست تقرؤه)، وقال أيضا: (ما آمن
بالقرآن من استحل محارمه)، كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (رب تالٍ للقرآن
والقرآن يلعنه)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله
إذا الناس ينامون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه
إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي
لحامل القرآن أن يكون مستكينا لينا، ولا ينبغي له أن يكون جافيا ولا مماريا ولا
صياحا ولا صخابا ولا حديدا)، وقال أيضا: (أنزل القرآن عليهم ليعملوا به فاتخذوا
دراسته عملا، إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا وقد
أسقط العمل به)، وقال ابن عباس رضي الله عنه: (لأن أقرأ البقرة وآل عمران أرتلهما
وأتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ القرآن هذرمةً)، وقال أيضا: (لأن أقرأ إذا زلزلت
والقارعة أتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ البقرة وآل عمران تهذيرا).
وفي حديث ابن عمر وحديث جندب رضي الله
عنهما: (لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على
محمد صلى الله عليه وسلم، فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف
عنده منها، ثم لقد رأيت رجالا يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة
الكتاب إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه ينثره
نثر الدقل)، وقال بعض السلف: (إن العبد ليفتتح سورة فتصلي عليه الملائكة حتى يفرغ
منها، وإن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها، فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال إذا
أحل حلالها وحرم حرامها صلّت عليه وإلا لعنته)، وقال بعض العلماء: (إن العبد ليتلو
القرآن فيلعن نفسه وهو لا يعلم، يقول ألا لعنة الله على الظالمين وهو ظالم نفسه،
ألا لعنة الله على الكاذبين وهو منهم)، وقال الحسن رحمه الله :(إنكم اتخذتم قراءة
القرآن مراحل وجعلتم الليل جملا، فأنتم تركبونه فتقطعون به مراحله، وإن من كان
قبلكم رأوه رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار).
وقد ورد في المواعظ: (يا عبدي أما
تستحي مني يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد
لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفا حرفا حتى لا يفوتك شيء منه، وهذا كتابي أنزلته إليك
انظر كم فصلت لك فيه من القول وكم كررت عليك فيه لتتأمل طوله وعرضه، ثم أنت معرض
عنه أفكنت أهون عليك من بعض إخوانك، يا عبدي يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل
وجهك وتصغي إلى حديثه بكل قلبك، فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه
أن كف، وها أنا ذا مقبل عليك ومحدث لك وأنت معرض بقلبك عني، أفجعلتني أهون عندك من
بعض إخوانك).