لماذا تكون فترة النصر قصيرة؟
بين الإعداد والتجهيز والتمكين والنصر
نلاحظ أنه في مسألة قيام الأمم، أن فترة الإعداد تكون طويلة جدا وقد تبلغ عشرات السنين، بينما تقصر فترة التمكين حتى لا تكاد أحيانا تتجاوز عدة سنوات، فعلى سبيل المثال بذل المسلمون جهدا خارقا لمدة تجاوزت ثمانين عاما، وذلك لإعداد جيش يواجه الصليبيين في فلسطين، وقد شارك في هذا الإعداد علماء ربانيون وقادة بارزون لعل من أشهرهم عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي رحمهم الله جميعا، وبعدها إنتصر المسلمون في حطين بل وحرروا القدس وعددا كبيرا من المدن المحتلة الأخرى، وهنا كان قد بلغ المسلمون درجة عالية من التمكين تمثلت في دولة كبيرة موحدة، ولكن -ويا للعجب- لم يستمر هذا التمكين إلا ست سنوات، ثم إنفرط العقد بوفاة صلاح الدين وتفتتت تلك الدولة الكبيرة بين أبنائه وإخوانه، وللأسف كان منهم من سلّم القدس بلا ثمن تقريبا إلى الصليبيين.
الإعداد والتجهيز قد يكون هو المغزى الحقيقي لوجودنا في الحياة وليس التمكين
في الأرض وقيادة العالم، وإن كان هذا أحد المطالب التي يجب على المسلم أن يسعى
لتحقيقها، ولكن الهدف الحقيقي لوجودنا هو عبادة الله كما قال تعالى: {وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، ولا يخفى على العقلاء أن
المقصود بالعبادة هنا ليس الصلاة والصوم فقط، إنما هو في الحقيقة منهج حياة، حيث إن
العبادة المقصودة هنا هي صدق التوجه إلى الله، وإخلاص النية له، وحسن التوكل عليه، وشدة الفقر إليه، وحب العمل له، وخوف البعد عنه، وقوة الرجاء فيه ودوام الخوف منه، كما
إن العبادة هي أن تكون حيث أمرك الله أن تكون، وأن تعيش كيفما أراد الله لك أن تعيش، وأن تحب في الله وأن تبغض في الله، وهذه تمثل حالة إيمانية راقية تتهاوى فيها قيمة
الدنيا حتى تصير أقل من قطرة في بحر وأحقر من جناح بعوضة وأهون من أتفه شيء.
وكما هو معلوم فإننا نكون أقرب إلى العبادة الصحيحة لله تعالى في زمن
المشاكل والصعوبات وفي زمن الفتن والشدائد، وذلك أكثر بكثير منه في زمن النصر
والتمكين، لهذا فإن الله - من رحمته بنا- يطيل علينا زمن الابتلاء والأزمات، حتى نظل
قريبين منه وننجو، لأنه عندما نُمكن في الأرض ننسى العبادة ونظن في أنفسنا القدرة
على فعل كل الأشياء، ونفتن بالدنيا ونحو ذلك من أمراض التمكين، حيث قال تعالى: {هُوَ
الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي
الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ
عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ
بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ
هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا
هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا
بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا
مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
المريض قريب من الله في غالب وقته، والإنسان الصحيح متبطر يبارز الله بصحته، والذي فقد ولده أو
حبيبه يناجي الله كثيرا ويلجأ إليه طويلا، أما الذي تمتع بوجودهما ما شعر بنعمة
الله فيهما، والذي وقع في أزمة والذي غُيب في سجن والذي طُرد من بيته والذي ظُلم
من جبار والذي عاش في زمان الإستضعاف، كل هؤلاء قريبون من الله، فإذا وصلوا إلى
مرادهم ورُفع الظلم عنهم نسوا الله إلا من رحم الله، ولذلك فإنه لا يحتجب عن الله الفقير
أو الضعيف أو المشرد في الأرض، إنما يحتجب عنه الممكَّن في الأرض والغني والسلطان.
لكن ذلك كله لا يعني أن نسعى إلى الضعف والفقر والمرض والموت، أبدا، إن
هذا ليس هو المراد، إنما أُمرنا بإعداد القوة وطلب الغنى والتداوي من المرض والحفاظ
على الحياة، كما أن المراد هو أن نفهم المغزى والهدف من هذه الحياة، وهي العبادة ثم
العبادة ثم العبادة، ومن هنا فإنه لا معنى للقنوط أو اليأس في زمان الإستضعاف، ولا
معنى لفقد الأمل عند غياب التمكين، ولا معنى للحزن أو الكآبة عند الفقر أو المرض أو
الألم، حيث إننا في هذه الظروف -مع أن الله طلب منا أن نسعى إلى رفعها- نكون أقدر
على العبادة وأطوع لله وأرجى له، كما إننا في عكسها نكون أضعف في العبادة وأبعد عن
الله، إلا أننا لا نسعى إليها ولكننا "نرضى" بها، كما إننا لا نطلبها ولكننا
"نصبر"عليها.
ألم نكن نجلس معا ونأكل معا ونفكر معا ونلعب معا، ولكن إذا وصل
أحدنا إلى كرسي القيادة أو سدة الحكم، نسي الضعفاء الذين كان يعرفهم وإحتجب عن
"العامة" الذين كانوا أحبابه وإخوانه، حيث قال رسول الله في هذا الأمر
الشائع: "مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ
الْمُسْلِمِينَ فَإحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، إحْتَجَبَ
اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ"، فوصول هؤلاء
إلى ما يريدون حجب أغلبهم عن الناس، ومَن كانت هذه أحواله فإن الله يحتجب عنه، ويوم
القيامة سيدرك أنه لو مات قبل التمكين لكان أسلم له وأسعد، ولكن ليس هناك عودة إلى
الدنيا، فقد مضى زمن العمل وحان أوآن الحساب.
هذا ونقول إلى أولئك الذين يعتقدون أنهم من "البائسين" الذين
حُرموا مالا أو حُكما أو أمنا أو صحة أو حبيبا، نقول لقد هيأ الله لكم
"فرصة عبادة" فإغتنموها قبل أن يُرفع البلاء وتأتي العافية، فتنسى الله وليس
لك أن تنساه، حيث قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ
أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ
يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ}، لهذا فإن الوقت الذي يمضي علينا حتى نحقق التمكين ليس وقتا ضائعا، بل
على العكس، إنه الوقت الذي نفهم فيه مغزى الحياة والزمن الذي "نعبد" الله
فيه حق عبادة، فإذا ما وصلنا إلى ما نريد، ضاع منا هذا المغزى وصرنا نعبد الله
بالطريقة التي "نريد" لا بالطريقة التي "يريد"، أي نعبد الله
بأهوائنا أو الأصح هو أننا نعبد أهواءنا، حيث قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}، ولذلك كله فإن الله الحكيم
الذي يريد منا تحقيق غاية الخلق، والذي يريد لنا الفلاح والنجاح، قد إختار لنا أن
تطول فترة الإعداد والبلاء والشدة، وأن تقصر فترة التمكين والقوة، وما أقرَ هذه
السنة الحسنة إلا لرحمته بنا.
-كم سنة عاش نوح -عليه السلام- يدعو إلى الله ويتعب ويصب؟ وكم
سنة عاش بعد الطوفان والتمكين؟
-أين قصة هود أو صالح أو شعيب أو لوط -عليهم السلام- بعد
التمكين؟ إننا لا نعرف من قصتهم إلا تكذيب الأقوام ومعاناة المؤمنين، ثم نصر سريع
خاطف ونهاية تبدو مفاجئة لنا.
-أين التمكين في حياة موسى أو عيسى عليهما السلام؟ وأين هو في حياة إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام؟
-لماذا عاش رسولنا صلى الله عليه وسلّم إحدى وعشرين سنة يُعِدُّ
للفتح والتمكين؟ ثم لم يعش في تمكينه إلا عامين أو أكثر قليلا!
حركة التاريخ أثبتت أن هذه النماذج النبوية هي النماذج التي ستتكرر في تاريخ الأرض، وذلك لأن هؤلاء الأنبياء والرسل هم أفضل من "عَبَدَ" الله، حيث قال تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}، وبعض أهم الأدلة هي:
-لماذا لم يعش عمر بن عبد العزيز إلا سنتين ونصف فقط في تمكينه؟
-لماذا قُتل عماد الدين زنكي
بعد أقل من عامين من فتح الرُّها؟
-لماذا قُتل قطز بعد أقل من
سنة من نصره الخالد على التتار في عين جالوت؟
-لماذا قُتل ألب أرسلان بعد
أقل من عامين من إنتصاره التاريخي؟
-لماذا لم يستمتع صلاح الدين بثمرة إنتصاره في حطين إلا أقل من سنة، ثم
سقطت عكا مرة أخرى في يد الصليبيين؟
-لماذا لم يرى عبد الله بن ياسين مؤسس دولة المرابطين التمكين أصلا؟
-لماذا مات خير رجال دولة الموحدين أبو يعقوب يوسف المنصور بعد أقل من
أربع سنوات من نصره الباهر في موقعة الأرك؟
.
.
.
هذه المشاهدات التي لا حصر لها، كلها تشير إلى أن الله أراد
لهؤلاء "العابدين" أن يختموا حياتهم وهم في أعلى صور العبادة، وذلك قبل
أن تتلوث عبادتهم بالدنيا وقبل أن يصابوا بأمراض التمكين، حيث إنهم كانوا
"يعبدون" الله حقا في زمن الإعداد والشدة، فكافأهم ربنا بالرحيل عن
الدنيا قبل الفتنة بزينتها.
طبعا لكن لا يخلو التاريخ من من كان حاكما صالحا وعاش طويلا ولم يُفتن في
زمن التمكين وزمن بسطة المال وكثرة العرض وإنفتاح الدنيا، إلا أنهم قليلون، قليلون من
وصل إلى هذه الحالة الباهرة بل ونادري الوجود، فلا نجد في معشر الأنبياء إلا داود وسليمان عليهما السلام، وأما يوسف
-عليه السلام- فقصته دامية مؤلمة من أولها إلى قبيل آخرها، ولا نعلم عن تمكينه
إلا قليل القليل، وأما من الزعماء والملوك والقادة، فلا نجد منهم إلا حفنة لا تتجاوز
أصابع اليدين، كهارون الرشيد وعبد الرحمن الناصر وملكشاه السلجوقي وقلة معهم، لذلك
يبقى هذا إستثناء لا يكسر القاعدة، حيث ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فقال: {وَإِنَّ
كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ
آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}، فالذي يصبر على هذه الفتن
قليل بنص القرآن، بل إن الله إذا أراد أن يُهلك أمة من الأمم زاد في تمكينها، حيث قال
تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ
شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ
مُبْلِسُونَ}، كما قال لنا رسول الله وهو يحذرنا من هذا الأمر: "فَوَاللَّهِ
مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ
الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ،
فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ"
لذلك فإنه بعد كل ما سبق، سوف نفهم المغزى والتفسير الحقيقي لكثير من المواقف المذهلة في تاريخنا الإسلامي، ومنها لماذا كان عتبة بن غزوان يُصر على عمر بن الخطاب أن يعفيه من ولاية البصرة؟ ولماذا أنفق الصديق ماله كله في
سبيل الله؟ ولماذا حمل عثمان بن عفان وحده همّ تجهيز جيش العسرة دون أن يطلب من
الآخرين المساعدة؟ ولماذا تنازل خالد بن الوليد عن إمارة جيش منتصر؟ ولماذا لم
يسعد أبو عبيدة بن الجراح بولايته على إقليم ضخم كالشام؟ ولماذا حزن طلحة بن عبيد
الله عندما جاءته سبعمائة ألف درهم في ليلة ؟ ولماذا تحول حزنه إلى فرح عندما تخلص منها، وذلك بتوزيعها على الفقراء في نفس الليلة؟
لهذا كله صار جيل الصحابة خير الناس، وإنّ هذا لم يكن فقط لأنهم عاصروا
الرسول، بل لأنهم هم أفضل من فقه مغزى الحياة أو هم أفضل من "عَبَدَ"
الله، كما أنهم حرصوا بصدق على البعد عن الدنيا والمال والإمارة والسلطان، ولذلك لا ترى
في حياتهم تعاسة عندما يمرضون ولا كآبة عندما يُعذبون ولا يأسا عندما يُضطهدون ولا
ندما عندما يفتقرون، حيث إن هذه كلها فرص عبادة يُسرت لهم فاغتنموها وصاروا
بذلك خير الناس، لذلك فإن الذي فقِه فقههم، يكون قد سعِد سعادتهم ولو عاش في زمن الإستضعاف، والذي
غاب عنه المغزى خاب وتعس ولو ملك الدنيا بكاملها.