اليهود بين المعاداة والاحتكار
المعاداة
البنيوية لليهود واليهودية
المعاداة البنيوية لليهود واليهودية أو ما يسمى بالمعادة البنيوية للسامية هو مصطلح يشير إلى بنية المجتمع حين تتشكل علاقاته بطريقة لا تسمح بوجود أعضاء الجماعات اليهودية، أي أن بنية المجتمع نفسها تلفظ اليهود وتحولهم إلى شعب عضوي منبوذ بغض النظر عن نية أعضاء المجتمع، ومما لا شك فيه أن علاقات مجتمع ما ممكن أن تتشكل بطريقة تجعل من العسير على أعضاء الجماعات اليهودية الاستمرار فيه، خصوصًا إذا كانوا أعضاء في جماعة وظيفية.
ويرى الصهاينة أن معظم أشكال معاداة اليهود أشكال بنيوية أي لصيقة ببنية المجتمع، كما وتحاول الصهيونية العمالية أن تبرهن على وجود هذه المعاداة البنيوية للسامية من خلال تحليل علاقات الإنتاج في المجتمع لتصل إلى نتيجة مفادها أن المجتمعات البشرية لا تسمح لليهودي أن يعمل في القطاعات الإنتاجية وأن اليهودي محكوم عليه بالهامشية والطفيلية، وأن الحل الوحيد لهذه الهامشية البنيوية أن يؤسس اليهود لهم وطنًا يمارسون فيه سيادتهم القومية ويشغلون فيه كل المواقع في الهرم الإنتاجي.
كما ويذهب الصهاينة إلى أن معاداة اليهود ليست لصيقة ببنية المجتمع وحسب، بل لصيقة ببنية النفس البشرية، وهذا ما عبر عنه شامير بشكل سوقي حين قال: إن البولنديين كانوا يرضعون معاداة اليهود مع لبن أمهاتهم، ويرى الصهاينة أن العرب والمسـلمين يعانون من الظاهرة نفسها، أي المعاداة البنيوية للسامية.
والعلاقة بين (المعاداة البنيوية للسامية) و(الصهيونية البنيوية) علاقة قوية، فإذا كانت الأولى تعني ظهور بنية تلفظ اليهود وحسب، فإن الثانية تعني توظيف عناصر الطرد بحيث يتجه المهاجرون اليهود إلى فلسطين. ولعل ما حدث في العراق في الخمسينيات أنصع مثل لذلك، فحين أدركت الحكومة الإسرائيلية أن يهود العراق لن يهاجروا إليها وأنهم آثروا البقاء في وطنهم، أرسلت مبعوثيها فوضعوا المتفجرات في أماكن تجمع اليهود ومعابدهم لإقناعهم بأن المجتمع العراقي يلفظهم، أي أنهم أعادوا تشكيل بنية العلاقات السائدة بين أعضاء الأغلبية وأعضاء الأقلية، بحيث يصبح المجتمع مجتمعًا طاردًا لأعضاء الجماعة اليهودية، وهذه هي معاداة اليهود البنيوية، ولكن الحكومة الإسرائيلية كانت تعرف مسبقًا أن المجال الوحيد المفتوح أمام يهود العراق هو الهجرة إلى فلسطين المحتلة، وهذه هي الصهيونية البنيوية، ومنه يمكن القول بأن ألمانيا أسـست مجـتمعًا معاديًا لليهود بشكل بنيوي، ولكن من خلال اتفاقية الهعفراه بين النازيين والصهاينة أصبحت المعاداة البنيوية للسامية صهيونية بنيوية.
احتكار
اليهود للإبادة النازية
يحاول الصهاينة احتكار دور الضحية لليهود وحدهم دون غيرهم من الجماعات أو الأقليات أو الشعوب، بحيث تصور الإبادة النازية باعتبارها جريمة موجهة ضد اليهود وحدهم، ولهذا يرفض الصهاينة والمدافعون عن الموقف الصهيوني أية محاولة لرؤية الإبادة النازية باعتبارها تعبيرًا عن نمط تاريخي عام يتجاوز الحالة النازية والحالة اليهودية، كما يرفض الصهاينة تمامًا محاولة مقارنة ما حدث لليهود على يد النازيين بما حدث للغجر أو البولنديين على سبيل المثال أو بما حدث لسكان أمريكا الأصليين على يد الإنسان الأبيض أو ما يحدث للفلسطينيين على أيديهم.
وتثبت الدراسات التاريخية أن الإبادة النازية لم تكن موجهة ضد اليهود وحسب، فعدد ضحايا الحرب العالمية الثانية من جميع الشعوب الأوروبية يبلغ ما بين خمسة وثلاثين وخمسين مليونا، وقد أظهر معرض لحكومة بولندا كان يطوف أمريكا عام 1986 أن أكبر معسكرات الاعتقال هو (أوشفيتس) وأن التركيز النازي كان أساسًا على البولنديين والاشتراكيين واليهود والغجر (بهذا الترتيب) لتفريغ بولندا جزئيًّا وتوطين الألمان فيها.
وتوحي الأدبيات الصهيونية بأن العالم كله تجاهل اليهود وتركهم يلاقون حتفهم ومصيرهم وحدهم، ولكن من الواضح أن المسألة أكثر تركيبًا من ذلك بكثير، فصحيح أن بعض الشعوب ساعدت النازيين كما حدث في النمسا، ولكن البعض الآخر ساعد اليهود وآواهم كما حدث في بلغاريا (خصوصا بين أعضاء الجماعة الإسلامية) وفي الدنمارك وفنلندا ورومانيا وإيطاليا وهولندا، وفي فرنسا تم تسليم خمسة وسبعين ألف يهودي للقوات النازية، ولكن تمت في الوقت نفسه حماية أضعاف هذا العدد، كما رفض السلطان محمد الخامس تطبيق القوانين النازية على يهود المغرب رغم مطالبة حكومة فيشي الفرنسية بذلك، ولا يمكن أيضًا تجاهل جهود الحكومة السوفياتية في نقل مئات الآلاف من اليهود بعيدًا عن المناطق التي احتلها النازيون (رغم تحالفها في بداية الأمر مع هتلر)، ولكن تتجاهل التواريخ الصهيونية كل هذا، تمامًا مثلما تتجاهل العلاقة الفكرية والفعلية بين النازية والصهيونية والزعامات الصهيونية التي تعاونت مع النازيين.
ولكن هناك من يتحدى هذا الاحتكار الصهيوني للإبادة، فقد بدأت الكنيسة الكاثوليكية هذه المواجهة حين قامت بتنصيب الأخت تريزا بنديكتا قديسةً، والأخت تريزا هي إيديث شتاين سكرتيرة الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر وكانت يهودية، وعندما قرأت قصة حياة القديسة تريزا شعرت بإحساس ديني غامر وتنصرت وتثكلت ثم ترهبنت، إلى أن قام النازيون باعتقالها وقتلها، ويصر الصهاينة على أن سبب قتلها هو كونها يهودية بينما ترى الكنيسة أنها راهبة كاثوليكية استُشهدت من أجل عقيدتها، والحادثة الثانية هي الخاصة بدير الراهبات الكرمليات في أوشفيتس، والذي طالب اليهود بإزالته وتمسكت المؤسسة الكاثوليكية في بولندا بالإبقاء عليه، وقد قامت معركة إعلامية ساخنة بين الطرفين، بحيث كتب باتريك بيوكانان (الصحفي والمرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1996) ما نتصور أنه خير احتجاج على هذا الموقف في مقال بعنوان (الكاثوليك ليـسوا بحاجة إلى محاضرات في الأخلاق من سفاح عصابة شـتيرن السابق) جاء فيه: “في متحف المذبحة النازية، هناك ثلاثة ملايين يهودي بولندي سيظلون في الذاكرة، ولكن ماذا عن ثلاثة ملايين تقريبًا من الأوكرانيين والصرب والليتوانيين والمجريين واللاتفيين والإستونيين والذين نحروا في ساحات القتل على أيدي الوثنيين العنصريين في برلين وعلى أيدي الملحدين المتعاونين معهم في موسكو؟ وما الذي يتطلبه الأمر حتى يكون المرء ضحية من الدرجة الأولى؟ فإذا كانت ذكرى الضباط اليهـود الذين ماتـوا إلى جانب إخوانهم الكاثوليك في (كاتين) قد خلدت بنجمة داود، فلماذا لا يتم تخليد ذكرى المليون كاثوليكي الذين أفنُوا في (أوشفيتس) بصليب؟ وإذا كان التذكار حيويًّا، فلماذا يستثنى المسيحيون؟”.
ونحن بطبيعة
الحال نرى أن الإبادة لم تكن موجهة ضد اليهود وحسب، وإنما ضد سائر العناصر التي
اعتبرت من منظور النازية غير نافعة، خصوصًا وأنه لو انتصرت قوات روميل في العلمين
لامتدت آلة الفتك النازية إلى أعراق يعتبرها النازيون متدنية (مثل العرب)، ومن ثم
فإن احتكار الصهاينة واقعة الإبادة ليس له ما يبرره في الواقع التاريخي.
رابط المقال
في ساسة بوست:
https://www.sasapost.com/opinion/jews-between-hostility-and-monopoly/