ضوابط فقه
الموازنات - 1 -
- معرفة وإتقان مقاصد الشريعة الإسلامية - المعرفة الشاملة للأولويات وفقهها - اعتبار مقاصد المكلف -
ينبغي لفقيه الموازنات أن يحيط علما
بمقاصد الشريعة، ويعلم أنواع المصالح والمفاسد، وأن يكون متبحرا بعلوم الكتاب
والسنة، ويلم بأحوال الناس الذين تتعلق بهم الموازنة ومعرفة زمانهم ومكانهم، وأن
يكون له باع طويل في فقه الواقع ومعرفة حاجاته، وصاحب تجارب كثيرة وخبرات متعددة،
إضافة إلى الانفتاح على عدد من العلوم المتنوعة، كعلم الإدارة والتنمية المجتمعية،
وعلم الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وعلم الإعلام والاتصال الجماهيري وغيره، وذلك
ليكتسب سعة الإدراك والتفكير، وأولا وأخيرا وفوق كل ما سبق ذكره، كمال التجرد لله
عز وجل.
ولهذا فإن أهم الضوابط الشرعية التي
اتفق عليها العلماء والفقهاء، والتي يجب أن يلتزم بها الفقيه لكي يصيب فقه
الموازنات المطلوب، ويوافق الحق المؤمول هي:
- معرفة
وإتقان مقاصد الشريعة الإسلامية
والمقاصد كما عرّفها شيخ الإسلام ابن
تيمية في مجموع الفتاوى هي: (الغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته سبحانه، وهي
ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة التي تدل على حكمته
البالغة)، وعرّفها علامة الهند ولي الله الدهلوي بأنها: (علم أسرار الدين، الباحث
عن حِكم الأحكام ولمِياتِها، وأسرار خواص الأعمال ونكاتها)، والمقصود بالنكات
المسائل العلمية الدقيقة التي يتوصل إليها بعد إمعان النظر، ولميات الأحكام ما
تحتويه الأحكام من دقائق .
ومن التعريفات المعاصرة للمقاصد تعريف
الإمام الطاهر بن عاشور، حيث إنه عرّف المقاصد العامة بأنها: (المعاني والحكم
الملحوظة في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون - في أن
تكون - في نوع خاص من الأحكام الشرعية)، وقد عرّفت المقاصد عند الإمام الغزالي
بأنها: (مقاصد الشريعة هي الغايات التي قصدها الشارع من وضع الشريعة، والمعاني
والحكم الملحوظة عند كل حكم من أحكامها، والتي تحقق مصالح العباد - أفرادا وأسرا
وجماعات وأمة - في الدنيا والآخرة).
وهكذا فإن ترجيح المصلحة الغالبة على
المفسدة المرجوحة أو العكس مقصد من مقاصد الشارع، فالشارع يقصد إلى تقديم المصلحة
الراجحة على المصلحة المرجوحة، وتقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، وتقديم
المصلحة اليقينية على المصلحة المظنونة أو الموهومة، كما أنه في فهم المقاصد
واستيعابها إعانة على اختيار الأسّد والأنفع في موارد النزاع والاختلاف بين الناس.
ولهذا يجب على من يتصدى لفقه
الموازنات أن يدرك مقصود الشارع من التكاليف حتى يعمل على تحقيقه، ولا يشدد على
نفسه وعلى الناس فيما لا يتصل بمقاصد الشرع وأهدافه، وحتى لا يكون قصده مخالفا
لقصد الشارع، فلا تؤتي أعماله ثمارها، ويكون أخذه بالمشروع من حيث لم يقصد به
الشارع ذلك القصد أخذ من غير مشروع حقيقة، وحتى يؤدي تكاليف الله، فيقدم الأهم على
المهم، والفرض على النفل، ويقدم بعض الفروض على بعضها الآخر حالة التزاحم، وكل ذلك
حسب مقاصد الشارع من ترتيب الأحكام حسب أهميتها.
- المعرفة الشاملة للأولويات وفقهها
عرّف محمد الوكيلي فقه الأولويات
بأنه: (العلم بالأحكام الشرعية التي لها حق التقديم على غيرها، بناء على العلم
بمراتبها وبالواقع الذي يتطلبها)، وعرّفه الدكتور القرضاوي تعريفا مطولا أقرب إلى
المفهوم من التعريف، فذكر أنه: (وضع كل شيء في مرتبته بالعدل من الأحكام والقيم
والأعمال، ثم يقدم الأولى فالأولى، بناء على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها نور
الوحي ونور العقل نور على نور، فلا يقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على
الأهم، ولا المرجوح على الراجح ولا المفضول على الفاضل أو الأفضل، بل يقدم ما حقه
التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، ولا يكبر الصغير، ولا يهون الخطير، بل يوضع كل شيء
في موضعه بالقسطاس المستقيم، بلا طغيان ولا إخسار).
وهكذا فإن مرحلة الموازنة أسبق من
مرحلة الأولوية، لأننا نوازن بين شيئين أو حكمين بعد الرجوع إلى مقاصد الشريعة
وأولوياتها، ثم نعطي الأولوية للراجح منهما، ولابد من الإشارة إلى أن الأولوية قد
تتداخل في الموازنة وأن الموازنة قد تتداخل في الأولوية، فالموازنة والأولوية
كلتيهما مرحلة من مراحل النظر في مقاصد الشريعة الإسلامية، بل في كل أمرين
متزاحمين أو متعارضين يراد تقديم أحدهما على الآخر، أو ترجيح أحدهما على الآخر،
إلا أن الموازنة أسبق من الأولوية ولن تتحقق الأولوية إلا بعد الموازنة.
كما أن فقه الموازنات أخص من فقه
الأولويات، وذلك أن فقه الموازنات يأتي للترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة،
ليتبين بذلك أي المتعارضين يعمل به وأيهما يترك، أما فقه الأولويات فهو يأتي
للترتيب بين المصالح، ليبين ما الذي ينبغي أن يكون أولا وما الذي ينبغي أن يكون
ثانيا وثالثا ورابعا، وكذلك يعمل على الترتيب بين المفاسد، فيبين ما الذي ينبغي
تركه أو لا، وما الذي ينبغي تركه ثانيا وثالثا ورابعا، وهذا الترتيب الذي يقوم به
فقه الأولويات، قد يكون مبنيا على فقه الموازنات عندما يكون هناك تعارض، وقد لا
يكون مبنيا على فقه الموازنات، وذلك عندما لا يكون هناك تعارض، وإنما حسن ترتيب
للأشياء، ورغم ما بين الفقهين من اختلاف، فإن فقه الأولويات يكون في الغالب مرتبطا
بفقه الموازنات، ويتداخل الفقهان ويتلازمان في كثير من المجالات، وأيضا فإنما
ينتهي إليه فقه الموازنات يدخل في الغالب في فقه الأولويات.
- اعتبار مقاصد المكلف
عرّف يوسف البدوي مقاصد المكلفين
بأنها: (الأهداف التي يقصدها المكلف من تصرفاته واعتقاداته وأقواله وأفعاله، وهي
التي تميز بين القصد الصحيح والقصد الفاسد، وبين العبادة والعادة، وبين ما هو خالص
لله وبين ما هو رياء وسمعة)، فهي إذا جملة المقاصد والنيات التي يقصدها المكلف في
أقواله وأعماله ومختلف تصرفاته، والتي يقع بموجبها التفريق بين صحة الفعل وفساده
وبطلانه، وبين الفعل الذي هو تعبد وامتثال، والفعل الذي هو معاملةٌ تجاريةٌ
ونكاحية، وبين ما هو ديانة وما هو قضاء، و بين ما هو موافق لمقاصد الشارع ومطابق
لها، وما هو مخالف ومعارض لها.
وهكذا فإن الشارع يريد من المكلف أن
يكون مقصده من التصرف منسجما مع مقصد الشارع من التشريع، فإن كان مقصد المكلف
منسجما مع مقصد الشارع من التشريع كان مقصده حسنا، وإن كان مقصد المكلف معارضا
لمقصد الشارع كان مقصده فاسدا، حيث يقول الإمام الشاطبي: (كل من ابتغى من تكاليف
الشريعة غير ما شرعت له، فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها، فعمله في المناقضة
باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم يشرع له، فعمله باطل).
ولهذا فإن أهمية دراسة مقاصد المكلف، تكمن في الحكم على ما يصدر من أقوال أو أعمال من قبل المكلف، فإذا كانت قصوده ونياته واقعة وفق ما قصد الشارع وما أراد، وفي ضوء نصوص وحيه وتعاليم هديه، فإنه يحكم عليها بالصحة والقبول، وتترتب عليها آثارها ونتائجها في الدنيا والآخرة، أما إذا كانت قصوده ونياته مخالفة لمقاصد الشارع، ومعارضة لمراده وتوجيهاته، فإنه يحكم بلا شك أو تردد على ف عله وقوله وتصرفه بالفساد والبطلان وبوقوع الإثم والذنب والعقاب.