قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

ضوابط فقه الموازنات - 2 -

ضوابط فقه الموازنات - 2 -

- اعتبار مآلات الأفعال - الإحاطة بأنواع الذرائع وفقهها فتحا وسدا - 

ينبغي لفقيه الموازنات أن يحيط علما بمقاصد الشريعة، ويعلم أنواع المصالح والمفاسد، وأن يكون متبحرا بعلوم الكتاب والسنة، ويلم بأحوال الناس الذين تتعلق بهم الموازنة ومعرفة زمانهم ومكانهم، وأن يكون له باع طويل في فقه الواقع ومعرفة حاجاته، وصاحب تجارب كثيرة وخبرات متعددة، إضافة إلى الانفتاح على عدد من العلوم المتنوعة، كعلم الإدارة والتنمية المجتمعية، وعلم الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وعلم الإعلام والاتصال الجماهيري وغيره، وذلك ليكتسب سعة الإدراك والتفكير، وأولا وأخيرا وفوق كل ما سبق ذكره، كمال التجرد لله عز وجل.

 

ولهذا فإن أهم الضوابط الشرعية التي اتفق عليها العلماء والفقهاء، والتي يجب أن يلتزم بها الفقيه لكي يصيب فقه الموازنات المطلوب، ويوافق الحق المؤمول هي:

 

- اعتبار مآلات الأفعال

 

لا بد لفقيه الموازنات من النظر في مآلات الأفعال، لأنه كم من مصلحة آلت إلى مفسدة وكم من مفسدة آلت إلى مصلحة، وهنا يقول الشاطبي: (النظر في مآلات الأفعال مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على ذلك، فإذا أطلق القول الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة).

 

ولهذا الفقه شواهد كثيرةٌ في الكتاب والسنة ومن ذلك قوله تعالى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام 108)، فسب آلهة المشركين، ربما يراه البعض جائزا لما فيه من إهانة الشرك ونصرة الحق، إلا أن الشارع الحكيم لم يقف نظره واعتباره عند هذه الغاية القريبة، بل نظر إلى نتيجة هذا العمل المشروع، وما سينتج عنه من آثار غير مشروعة، فقضى بتحريم سب الآلهة سدا لذريعة سبهم لله تعالى انتقاما لآلهتهم، وانتصارا لباطلهم، إذ إن المصلحة التي ستحصل من إهانة آلهتهم أهون بكثير من مفسدة سبهم لرب العالمين، والمفسدة إذا أربت على المصلحة قدم درء المفسدة على جلب المصلحة.

 

ومن ذلك قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا) (الإسراء 110)، ففي هذه الآية نهى الله رسوله عليه الصلاة والسلام عن الجهر بالقراءة في الصلاة التفاتا إلى مآل ذلك إذا سمع المشركون قراءته، فيحملهم ذلك إلى سب الله تعالى وشتم دينه وكلامه، فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: (كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك، فيسمع المشركون، فيسبوا القرآن، ولا تخافت بها عن أصحابك، فلا تسمعهم، وابتغ بين ذلك سبيلا).

 

هذا ومن مظاهر النظر إلى المآل في السنة النبوية، امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين، لأن ذلك سينشر دعاية سيئة عن الإسلام وعن رسوله الذي يقتل أصحابه، فيصدهم ذلك عن الدخول في هذا الدين، ومن ذلك أيضا امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن هدم الكعبة وإعادة بنائها على أسس إبراهيم عليه السلام، لأن مآل ذلك فتنة الناس حديثي العهد بالدين عن دينهم.

 

- الإحاطة بأنواع الذرائع وفقهها فتحا وسدا

 

الذريعة في اللغة هي الوسيلة والسبب إلى الشيء، يقال: تذرع فلان بذريعة، أي توسل، وفلان ذريعتي إليك، أي سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك، أما في الاصطلاح فقد عرفها العلماء بعدة تعريفات، فعرّفها الشاطبي رحمه الله في الموافقات بأنها: (التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة)، وعرّف الشوكاني رحمه الله الذريعة بأنها: (المسألة التي ظاهرها الإباحة، ويتوصل بها إلى فعل محظور)، وعرّفها الدكتور عبد الكريم زيدان بأنها: (الوسيلة والطريقة إلى الشيء سواء أكان هذا الشيء مفسدة أو مصلحة)، وعرّفها البرهاني بأنها: (كل شيء يتخذ وسيلةً لشيء آخر، بصرف النظر عن كون الوسيلة أو المتوسل إليه مقيدا بوصف الجواز أو المنع)، وبالتالي سدّ الذرائع هو الحيلولة دون الوصول إلى المفسدة، إذا كانت النتيجة من الذريعة فسادا، وفتح الذرائع هو الأخذ بالذرائع، إذا كانت النتيجة مصلحة لأن المصلحة مطلوبة.

 

فمتعلق قاعدة سدّ الذرائع سدا وفتحا هو الأفعال الجائزة في ذاتها، لكنها قد تؤدي إلى مصلحة راجحة، فتطلب مباشرتها، وقد تؤدي إلى مفسدة راجحة، فينهى عن مباشرتها، وفي ذلك يقول ابن قيم الجوزية: (لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها، معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودةٌ قصد الوسائل)، وذكر ابن قيم الجوزية رحمه الله من أمثلة سدّ الذرائع أن الشارع أمر بالاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى، وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الخوف، مع كون صلاة الخوف بإمامين أقرب إلى حصول صلاة الأمن، وذلك سدا لذريعة التفريق والاختلاف والتنازع، وطلبا لاجتماع القلوب وتألف الكلمة، وهذا من أعظم مقاصد الشارع، وقد سدّ الذريعة إلى ما يناقضه بكل طريق حتى في تسوية الصف في الصلاة، لئلا تختلف القلوب، وشواهد ذلك أكثر من أن تذكر.

 

هكذا ومما سبق تتبين لنا العلاقة الوثيقة لفقه الذرائع بفقه الموازنات، ففي التعريفات السابقة رأينا أن سدّ الذرائع هو ترك المصلحة التي تؤدي إلى مفسدة أعظم منها، ولا يكون ذلك إلا باستخدام الموازنات، وفتح الذرائع هو الأخذ بالمصلحة التي هي نتيجة للذريعة والوسيلة، أي أنه أدى الأخذ بالذريعة إلى مصلحة أكبر من مفسدة الذريعة، وفي هذا إعمال للموازنات أيضا.

 

ففقه الموازنات هو الضابط والناظم لفتح الذرائع وسدها، وعلى ضوئه تعطى الذريعة حكمها من وجوب أو تحريم أو كراهة أو غير ذلك، وذلك بحسب ما تفضي إليه من مصلحة أو مفسدة راجحة، كما أن في سدّ الذرائع حماية لمقاصد الشريعة، وتوثيق للأصل العام الذي قامت عليه الشريعة من جلب المصالح ودرء المفاسد، ذلك لأن الأمر المباح قد يؤدي الأخذ به إلى تفويت مقصد الشارع، والمحافظة على مقصود الشارع أمر مطلوب لكونه أعظم مصلحة وأقوى أثرا، فلا غرو إذن إذا منع من المباح لتأديته إلى حصول مفسدة أعظم مناقضة لمقصود الشارع، إذ لو تركت وسائل الفساد وذرائعه مفتوحة، لكان حصول الفساد أمرا لا مناص منه، وفي ذلك يقول الإمام القرافي في الفروق: (اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن الوسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، والأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها، والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى ما يتوسط متوسطة).


كما أن الأخذ بسد الذرائع أو فتحها بحسب المآل يمثل مقود التحكم في تنزيل المقاصد على الواقع، فهذا منزلق خطير وفيه شر مستطير إذا أسيء استخدامه ولم يعتدل فيه المجتهد، فلا يجوز أن يفرط بحيث يحول دون تحصيل المصالح الراجحة، ولا أن يفرط فيه فيجلب المفاسد على المكلفين، ويفتح باب الحيل والتجرؤ على مقصود الشارع والإقدام على نقضه ومضادته، فيجب على المجتهد أن يوازن بين سدّ الذرائع وفتحها بلا إفراط ولا تفريط .

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart