إرادة الله تعالى المطلقة غير محكومة بمنطق السببية العلمية
- الكوارث الطبيعية -
هناك لبس يقع في عقول الناس، وهو ناشئ
عن الافتراض المسبق بأننا أمام سببين متناقضين لا يجتمعان، وذلك عند التساؤل عن
كيف تكون الكوارث الطبيعية (زلازل وفيضانات وأعاصير وبراكين) من السنن الكونية (الخاضعة
للبحث والتجربة)، وهي تمثل في نفس الوقت عقاب إلهي أو كفارة للذنوب (شؤون غيبية
ودينية)؟!
الجواب يكمن في أن نظرة الإنسان
للكارثة (المصيبة) وأثرها العقلي والنفسي (فكر وشعور وأحاسيس)، يتغير مفهومه جذريا
إزاء ما يكمن فيها من خير وشر، فما يراه البعض شرا قد يراه آخرون خيرا، وهذه
النسبية تكفي للاستدلال بها على وجود إله مطلق القدرة (الله تعالى)، ومنزه عن
خيارات الإنسان وقناعاته وأهوائه (حكمة إلهية).
كما أنه من البديهي لمن يقر بوجود
خالق للكون أن ينسب إلى هذا الإله (الله تعالى) أيضا القدرة على التصرف التام
والمطلق في خلقه، وذلك على النحو الذي لا يرفض فيه العقل نسبة إرادة ما يحدث في
الكون إلى الله تعالى، سواء من استمرار الحركات والقوانين المنظمة مثل دوران الأرض
والتفاعلات الكيميائية، أو ما يطرأ من كوارث غير منظمة وغير دورية مع أن لها
أسبابا يمكن قياسها تجريبيا كالزلازل والفيضانات.
الوحي يخبرنا بوضوح أن الله تعالى لم
يتخل عن الكون بعد أن خلقه، حيث وصف الله تعالى نفسه في القرآن الكريم بأنه
القيوم، أي القائم على شؤون الكون والمتصرف فيه، وهذا يعني بطبيعة الحال أن الله
تعالى لم يضع القوانين في الكون كي يسير من تلقاء نفسه، فاستمرارية وجود الكون
وسيره مرتبطتان بالقيومية الإلهية، وطالما كان الله تعالى مطلق التصرف في خلقه،
فله أن يخرق السنن والقوانين التي وضعها متى شاء ولأي سبب شاء، كما وله أيضا أن
يجعل بعض الكوارث عقابا لبعض الشعوب التي ساد فيها الظلم والكفر والعناد.
وعندما نقول إن العوامل الطبيعية قد
تكون جندا من جنود الله تعالى التي يرسلها للعقاب أو التذكير، فلا يعني هذا أن
تكون الكوارث الطبيعية غير قابلة للدراسة العلمية، بل لا يتعارض ذلك حتى مع
إمكانية التنبؤ بحدوثها مسبقا، والأمر لا يعدو أن يكون شدة وقعت بعد رخاء، مما
يدعو الإنسان إلى التأمل في حاله مع نفسه ومع الناس ومع الله تعالى، ومعظم البشر
(حتى المشككين بوجود الإله) يلجؤون إلى الله تعالى لاشعوريا عندما يشعرون بالحاجة
إليه، وقد تكون هذه من الحكمة الإلهية في الابتلاءات المختلفة.
هذا ولنفهم طبيعة العلاقة بين إرادة
الله تعالى ووقوع الكارثة الطبيعية (المصيبة)، علينا أن نميز بين كيفية حدوث
الكارثة وبين المسبب لها، فالعلم مثلا يمكنه أن يكتشف كيفية حدوث إعصار ما، وكل
الأحداث التمهيدية التي أدت لحدوثه، إلا أنه ليس بمقدور أي عالم أن يعرف لماذا حدث
الإعصار في هذا الوقت بالذات (ليس قبل أو بعد)، أو مكان وحجم الخسائر بدقة، وذلك
لأن التغيرات المناخية التمهيدية ليست هي السبب الوحيد الذي أدى إلى الكارثة
بالمعنى الفلسفي، كما ولا يمكن للعالم أيضا أن يجزم بأنها هي السبب المباشر
للإعصار، لأنها قد تتغير في أي لحظة، وقد لا تحدث في الزمان والمكان المتوقعين.
والأمر نفسه ينطبق عند إصابة شخص ما
بالمرض، فنحن نعلم أن انتقال جرثومة ما يتسبب بالمرض، لكن البحث الفلسفي الأعمق
لأسئلة من قبيل، لماذا أصيب بها الآن!؟ ولماذا هو تحديدا من دون بقية العائلة!؟
ولماذا لم يستطع جهاز المناعة مقاومة الجرثومة!؟ ولماذا قاومها غيره دون مضاعفات؟!
فقد يتمكن العلم من الإجابة على بعض هذه الأسئلة أو كلها، إلا أنه لا يجزم بها،
حيث أنه يترك هامشا احتماليا للخطأ مهما كانت قياساته وحساباته دقيقة، وهذا الهامش
يكفي لنقول إننا لا نستطيع أن نجزم بأن الأسباب المادية فقط تمثل وحدها الصورة
الكاملة لأي حدث.
وقد فرغ علماء الكلام المسلمون منذ
مئات السنين من الجمع بين الإيمان والعقل، دون الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه
العلماء التجريبيون في الغرب مع بزوغ عصر التنوير، وهو الخطأ الذي تم تصحيحه
تجريبيا في القرن العشرين، وذلك بانتفاء العلية والسببية في عالم فيزياء الكم، حيث
ليست هناك حتمية في قوانين الكون كما كان يظن العلماء في عصر (نيوتن)، فمبدأ
الريبة أو مبدأ اللايقين الذي وضعه العالم الألماني (فيرنر كارل هايزنبرغ)، والذي
يعد اليوم من أهم مبادئ فيزياء الكم، يقول أنه لا يمكن تحديد خاصيتين مقاستين من
خواص جملة كمومية إلا بالتخلي عن اليقين في التعرف على إحدى الخاصيتين، وهذا يعني
عمليا أن القوانين الأساسية للكون لا تسمح لأي عالم بالحصول على معلومات كاملة
ويقينية تماما بشأن أي موضوع يخضعه للتجربة، ومن ثم فلا يمكن للعالم أن يتنبأ
بحركة الأشياء مستقبلا بدقة يقينية مهما كانت أدوات البحث دقيقة ومتطورة، وهو ما
يعبر عنه (هايزنبرغ) بقوله، إن عدم استطاعتنا معرفة المستقبل لا تنبع من عدم
معرفتنا بالحاضر، وإنما بسبب عدم استطاعتنا معرفة الحاضر.
وهكذا نعلم يقينا بأن إرادة الله عز
وجل المطلقة غير محكومة بمنطق السببية (العلمية)، ولو صدقت تنبؤاتنا مئات المرات
بحدوث الأعاصير والبراكين والفيضانات وغيرها، فهذا لا يعني أننا سنصيب في المرة
التالية، بل لا يجرؤ العلماء على الجزم بصحة تنبؤاتهم يقينا، حيث هناك دوما هامش
للخطأ (صغير أو كبير)، وليس ذلك تواضعا منهم، بل لأن العلم نفسه يتبرأ من هذه
الحتمية، وهذا يعني بالضرورة أن الكوارث تخضع لإرادة الله تعالى المطلقة التي لا
نعلمها، وذلك مهما صدقت حساباتنا وتوقعاتنا.