أردوغان واستداراته الكثيرة حول إسرائيل
كانت تركيا أول
دولة مسلمة تعترف بإسرائيل عام 1948، كما تم إضفاء الطابع الرسمي على
العلاقات الإسرائيلية التركية في مارس 1949، وتحسنت هذه العلاقات بشكل عام تدريجيا
خلال السنوات اللاحقة إلى أن وصلت إلى أوجها أواخر التسعينيات، حيث كانت تركيا من
أهم حلفاء الكيان الصهيوني الغاصب في المنطقة بأسرها، وعندما وصل رجب طيب أردوغان،
وحزبه العدالة والتنمية، إلى السلطة في عام 2001، كان بين الطرفين تعاون استخباراتي، وتدريبات عسكرية سنوية مشتركة، وتصنيع
عسكري متبادل، وعلاقات دبلوماسية عالية وتبادل تجاري ضخم وغيره الكثير، كما أن
أردوغان أدرك منذ البداية أنه لن يستمر في السلطة ما لم يحافظ على هذه العلاقة بل
ويكرسها، حيث حاول جاهدا تقديم المزيد من التطمينات إلى الغرب من خلال توطيد
العلاقة مع إسرائيل، وقد استمر هذا الوضع حوالي العامين دون أية مشاكل أو
اضطرابات.
اغتال الصهاينة
في عام 2004 زعيم حركة حماس، الشيخ أحمد ياسين، ونددت تركيا بالعملية، وهذا الوضع
أغضب الصهاينة والغرب والعلمانيين الأتراك، لكن أردوغان وبما أنه لا يزال في طور
الاختبار من كل هؤلاء، سارع إلى زيارة إسرائيل في العام التالي وصافح شارون
لامتصاص الغضب السابق والتأكيد على حسن العلاقات، واستمر الوئام بين الطرفين إلى
حين عام 2007، حيث توجه الرئيس الإسرائيلي، شيمون بيريز، إلى أنقرة والتقى بالرئيس
التركي، عبد الله غول، لكن عندما شنّ الصهاينة حربا جديدة على غزة عام 2008، انتهز
أردوغان الفرصة ووصف هذه الحرب بأنها إرهاب تدعمه الدولة، كما وكانت هناك مظاهرات
حاشدة في تركيا ضد إسرائيل، وقد كان هذا تقريبا أول تصريح صادم للإسرائيليين من
الأتراك، قيادة وحكومة وشعب.
هذا وفي بداية
عام 2009 وخلال منتدى دافوس بسويسرا، دارت المعركة الكلامية الشهيرة بين أردوغان
وبيريز، حيث أتيحت لأردوغان الفرصة لفضح وتوبيخ الرئيس
الإسرائيلي أمام كاميرات العالم، وذلك على جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين، وبعدها انسحب من الجلسة احتجاجا على عدم توزيع
الوقت بالتساوي، ومن هنا بدأ مسلسل تدهور العلاقات بين الطرفين، وفي العام نفسه
حظرت تركيا لأول مرة مشاركة إسرائيل في التدريبات العسكرية السنوية التي استمرت
عقودا، كما وأنتجت تركيا عدة برامج ومسلسلات تدين الصهاينة أو تظهر حربا
استخباراتية بين الطرفين، واحتجت إسرائيل رسميا على ذلك ونددت بما يحصل.
أما في بداية
عام 2010 فقد قام خالد مشعل بزيارة رسمية لتركيا وغضب من ذلك الصهاينة، حيث أعلنت
إسرائيل أن حماس قد أقامت مقرات رئيسية لها في تركيا للتجنيد والتخطيط للحرب معها،
وفي موازاة ذلك فتحت السلطات التركية الفرصة للدعم الشعبي لغزة وتدفق الأموال
والمساعدات، ثم أعلنت أنها سترسل أسطول بحري إلى غزة لكسر الحصار، وأعتقد أنها
كانت محاولة من أردوغان وحزبه لمضايقة الصهاينة والضغط عليهم من أجل قطع العلاقة
معهم بشكل دائم، وذلك لأن إسرائيل أعلنت منذ البداية أنها ستقمع أي محاولة لفك
الحصار عن القطاع المحاصر، لكن أردوغان تجاهل التهديد وانطلق الأسطول، وسقطت
إسرائيل على ما يبدو في الفخ وقتلت تسعة نشطاء على متن السفن، وعلى الفور اتصل
أردوغان بالسفير الإسرائيلي في تركيا، وبدأ في ابتزاز إسرائيل والضغط عليها،
ومطالبا باعتذار وتعويض عن كل شهيد تركي، ولأول مرة أصبح هناك ثأر ودماء بين تركيا
والصهاينة.
هذا ورغم أن
المعارضة العلمانية انتقدت أردوغان، واستنكرت قراره بقطع العلاقات مع إسرائيل،
لكنها اضطرت للوقوف إلى جانبه ضد الصهاينة، ما دامت كرامة الوطن والقومية التركية
على المحك، وهكذا توقف تطور العلاقات التجارية والسياحية بين تركيا وإسرائيل أواخر
عام 2010 ومطلع عام 2011، كما وتوقف التعاون العسكري منذ ذلك الحين، حيث كانت لدى
أردوغان مبررات كافية للجرأة والأمر بوقف التعاون العسكري مع إسرائيل إلى الأبد،
وبعد عدة أشهر تم طرد السفير الإسرائيلي وقطعت بقية العلاقات، وفي عام 2012 شنت
إسرائيل حربا جديدة على غزة، ووجد أردوغان نفسه حرا في قول ما يشاء، طالما أن
إسرائيل لم تعتذر ولم تدفع تعويضات عن مقتل النشطاء السلميين الأتراك.
أصبح بعدها
الحال أننا نسمع كل بضعة أيام تصريحات من أردوغان ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو
حول إسرائيل الإرهابية وقتلة الأطفال وما إلى ذلك، بل وصل الأمر إلى حد وصف
الصهيونية بأنها جريمة ضد الإنسانية، وهذا ما كان خطا أحمرا، حيث تم اتهامه هنا
بمعاد السامية، وكما هو معلوم فإن هذا الاتهام هو أخطر تهمة يمكن توجيهها ضد أي
مسؤول أو رئيس اليوم على وجه الأرض، وهي أخطر من تهمة الإرهاب نفسه، ولهذا وسّع
أردوغان الدائرة وانتقد أوروبا بسبب عنصريتها وكراهية دين الإسلام.
بعدها اتصل
نتنياهو بأردوغان في مارس 2013، واعتذر له شخصيا ووعد بدفع التعويضات، وهكذا كان
على أردوغان الدخول في مفاوضات التطبيع طالما اعتذر نتنياهو ونفذ مطالبه، حتى بدأت
العلاقات تعود تدريجيا وجزئيا في عام 2016، حيث أبرمت تل أبيب وأنقرة اتفاق مصالحة
في العام 2016 نتج عنه عودة سفيريهما، لكن هذه المصالحة ما لبثت أن انهارت بعد
عامين، وذلك عندما استدعت تركيا سفيرها احتجاجا على قمع قوات الاحتلال لاحتجاجات
مسيرات العودة الفلسطينية، ورغم حالة التوتر في العلاقات التركية الإسرائيلية فإن
الطرفين حافظا على الروابط التجارية والسياحية بينهما، والتي كانت تشهد ارتفاعا
مطردا في كل سنة.
هنا أصبح أردوغان
ليس كما كان، ولم يقبل أن يسير في طريق المصالحة الشاملة بعد أن تمكن من تحقيق بعض
القوة النسبية، وذلك على الرغم من أن جزءا كبيرا من الجيش كان لا يزال علمانيا
ويدعو لعودة العلاقات كاملة، ولهذا لم يترك أردوغان أي فرصة بعدها لانتقاد
إسرائيل، حيث اتهمها بأنها دولة إرهابية وتقوم بعمليات إبادة جماعية، ثم طرد
السفير الاسرائيلي من جديد وتبادل الاتهامات مع نتنياهو، وذلك عندما أعلن ترامب
نقل السفارة إلى القدس، كما وكان أول زعيم مسلم ينتقد ذلك، وعقد مؤتمرا لمنظمة
التعاون الإسلامي، بينما كان القادة العرب يتآمرون مع اليهودي، جاريد كوشنر، صهر
ترامب، لتمرير ما كان يسمى صفقة القرن.
هذا وبعد أكثر
من عقد من الزمان، والتي كانت فيه تركيا واحدة من أشدّ منتقدي إسرائيل على المسرح
الدولي، أصبح أردوغان يستخدم نبرة مختلفة بشكل ملحوظ تجاه إسرائيل، معربا عن
اهتمامه بتحسين العلاقات معها، حيث بدأت هذه العلاقات تتحسن تدريجيا، وذلك بعد أن
جاءت مبادرة الرئيس التركي بالاتصال مع الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، لتهنئته
بانتخابه رئيسا لإسرائيل، وبعدها زيارته لتركيا كأول رئيس إسرائيلي يزور تركيا منذ 2007، والتي شكلت نقطة تحول أولى في
العلاقات التركية الإسرائيلية، وأطلقت مبادرة لاستعادة العلاقات بين الطرفين، وقد
كان الرئيس التركي هو من دعا نظيره الإسرائيلي لإجراء محادثات بينهما، والتي قال إنها
كانت تهدف لاستكشاف سبل تعميق التعاون بينهما، كما وأوضح أردوغان أن زيارة هرتسوغ
هي بداية "حقبة جديدة"، وأن البلدين يمكنهما العمل معا لنقل الغاز
الطبيعي الإسرائيلي (المسروق) إلى أوروبا، كما وجه الرئيس الإسرائيلي دعوة للرئيس
التركي رجب طيب أردوغان لزيارة إسرائيل، وقال إن زيارته لإسرائيل ستساهم في تعميق
العلاقات والتعاون بين الدولتين، وهكذا نجحت تركيا وإسرائيل في تحقيق قدر من
التهدئة، وتحولت فترة التوترات الحادة بسرعة لتقريب العلاقات والتعاون المشترك.
وبعد فوز رئيس
الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، بالانتخابات التشريعية عام 2022، اتفق هو
وأردوغان على العمل سويا لإرساء حقبة جديدة في العلاقات، وذلك على أساس احترام المصالح المشتركة، واستمرت
بعدها الخطوات في سياق تطبيع العلاقات بين البلدين، لا
سيما في مجالات الدفاع والأمن والطاقة والسياحة، والذي تخلله تحسين العلاقات
الأمنية وتعميق التعاون الاستخباراتي بينهما، حتى وصل الحال بأردوغان إلى بعث رسالة
بمناسبة يوم الاستقلال، اليوم الوطني لدولة إسرائيل (النكبة)، يتمنى فيها لإسرائيل
دوام الازدهار والرفاهية.
وهذه السياسة
الجديدة لأردوغان وتركيا، لا تمثل فقط جزءا من عالم ما بعد الحرب الباردة، بل أيضا
جزءا من نظام عالمي متحول، حيث تقوم أصول الحزب الحاكم في أنقرة على القيم الإسلامية
السياسية، والتي لا يسعى من خلالها إلى دور أكبر في العالم الإسلامي فحسب، بل يريد
أيضا الدفاع عن القضايا التي يعتقد أنها تحظى بشعبية في العالم العربي والإسلامي،
حيث تريد أنقرة، في وقت من الأوقات، أن تسهم بدور في عملية السلام بين السلطة
الفلسطينية وإسرائيل، وحتى السلام بين إسرائيل وسوريا.
اليوم تتغير
الرياح السياسية، والشرق الأوسط يتغير والجميع يتصالح، وصارت الدبلوماسية هي المعيار الجديد، وسياسة تركيا تقوم على التصعيد، ثم
تخفيف التوتر والتأكيد على أن التوترات تؤدي إلى الاحترام، وجهود أردوغان للتقارب
من إسرائيل هي جزء من حملة أكبر لتحسين العلاقات مع القوى الأوروبية والشرق
أوسطية، وخاصة شركاء إسرائيل في العالم العربي، وتدرك تركيا كيف أن هياكل القوة
المتغيرة تجبر الدول على اتخاذ قرارات معقدة؛ وكل ذلك على أمل أن تساعد العلاقات
مع إسرائيل في تحسين موقفها مع واشنطن.