توسع مجال الاجتهاد في مسائل فقه حسن الموازنات
- الآيات القرآنية -
إن مجال الاجتهاد المستند إلى فقه الموازنات يشمل كل المسائل الشرعية، وهو الذي بدوره يكمن في الترجيح بين المصالح المتعارضة مع بعضها البعض، أو الترجيح بين المصالح المتعارضة مع المفاسد، إضافة إلى اختيار أفضل الوسائل الموصلة إلى المقاصد، كما ويشمل الأحكام الشرعية المتعارضة أو المتزاحمة، حيث يقدم منها ما حقه التقديم ويؤخر ما حقه التأخير.
هذا وقد تعددت في عصرنا الحاضر المسائل التي لا نص فيها، والتي تحتاج إلى
بيان حكم الشرع فيها، بحيث أن كل مجال من مجالات الحياة أصبح يحتوي على مئات
المسائل المتشعبة والمتشابكة، وذلك من مجال السياسة الشرعية والاقتصاد الإسلامي والطب
وأحكام الأسرة والجنايات وغيرها من المسائل التي شغلت وتشغل الفكر الإسلامي
المعاصر.
كما ومن الأمور التي يدخلها الاجتهاد المعتمد على الموازنات، الوسائل التي
تخدم العقيدة كالطرق الدعوية والتعليمية والتربوية، وهذه الوسائل تتبدل بتبدل
الزمان والمكان، وذلك من خلال إدخال التكنولوجيات ووسائل التواصل الحديثة في خدمة
العقيدة، أما الوسائل التي تخدم العبادات فهي كمكبرات الصوت في الأذان والخطابة،
وبناء طوابق للطواف والسعي والرجم لتجنب الازدحام، وتفويض جهات معينة لتولي ذبح
الهدي والإفادة منه، أما فيما يخص كيفيات بعض المعاملات، وذلك كتفاصيل الشورى والقضاء
والعدل، وكيفيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتصرفات السياسية كانتخاب
الخليفة أو الحاكم، فيمكن الاجتهاد هنا في وسائلها وشروطها وكيفية العمل بها،
وكذلك تنظيم الأمور الإدارية والمالية والقضائية، وضمان الأمن وزجر البغاة وصدّ
المعتدين وتقوية الجيوش، والاستعداد والدخول في الحروب، أو إبرام المعاهدات وتوقيع
الاتفاقيات، وأخيرا هناك ما يسمى بالنوازل الاضطرارية، وهي جملة الحوادث التي يضطر
إليها المسلمون فرادى أو جماعات، وليس لهم من سبيل سوى الأخذ بالمحظور منها بقدره،
وإلا وقعوا في الهلاك أو المشقة غير المعتادة، كما أن عموم الظنيات والتي قد
تتعارض فيها المصالح والمفاسد، ولا نص فيها ولا إجماع، والتي تسمى بمنطقة الفراغ
التشريعي أو منطقة العفو، فإنه ينظر فيها في ضوء المصالح والمقاصد الشرعية.
الآيات القرآنية الحاثة على حسن الموازنة
- قال تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا
كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة 134)، وفي هذه
الآية إرشاد لحسن الموازنة في مجال العمل، واختيار الأولى والأرجح، وتصحيح
الموازنات الخاطئة، فعلى المؤمن أن يرجح كفة العمل الحاضر ويتغاضى عن أعمال
السابقين، لأن من ينشغل بمن سبق وينسى العمل مدخول في عقله.
- قال تعالى: (ولا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (البقرة 154)، وتشير الآية
الكريمة إلى قاعدة عظيمة في الموازنات، وهي ترجيح حفظ الدين على حفظ النفس، كما وفيها
إشارةٌ إلى خطأ شائع في الموازنة عند البعض، وهم الذين يظنون بأن التضحية بالنفس
ضياع وزوال (لا قيمة له)، بينما هي حياة حقيقية في جنات الله الخالدة، حيث إن
مفسدة القتل تهون أمام المفاسد الأعظم التي ستقع للأمة لو استبيح حماها، فلو سلم
أن الخروج للقتال سبب للقتل لما كان مثبطا للمؤمنين عند وجوبه، وذلك كما لما هاجم
المشركون المسلمين في موقعة أحد، أو مثلا إذا فتن المسلمون عن دينهم ومنعوا من
الدعوة إليه وإقامة شعائره، هذا وكيف إذا الخروج إلى القتال كثيرا ما يكون سببا
للسلامة، حيث إن الأمة التي لا تدافع عن نفسها يطمع فيها غيرها، وإذا هاجمها ظفر
بها ونال منها ما يريد.
- قال تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ
الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ
وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة 173)، وتشير
هذه الآية إلى قاعدة عظيمة في الموازنات وهي ترجيح حفظ كلي النفس المتمثل في
الحفاظ على الحياة من التلف، بتناول الميتة أو لحم الخنزير، وذلك على حفظ جزئي للدين،
والمتمثل في الانتهاء عما نهى الشارع عنه من أكل هذه الأشياء عموما.
- قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة 179)، وفي هذه الآيات قاعدة جديدة من قواعد
الموازنات، وهي أن حفظ الكل مقدم على حفظ الجزء، بحيث أن إقامة القصاص على فرد أو جماعة
فيه حفظ لحياة المجتمع من الجريمة والمجرمين، وإقامة صرح العدل ونشر الأمن والأمان
بالتقليل من الجرائم.
- قال تعالى: (واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ
حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (البقرة 191)، وفي هذه الآية بيان
أن فتنة الناس عن الدين الحق، أثقل تبعةً وأعظم جرما من القتل، فحفظ الدين مقدم
على حفظ النفس، لذلك شرع الجهاد والتضحية بالنفس والمال لإعلاء الحق وليكون الدين
لله تعالى، إضافة لرفع حالة الإكراه التي يمارسها الكفرة لصد المؤمنين عن دينهم.
- قال تعالى: (كتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى
أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً
وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة 216)،
فالقتال وبذل المهج والأرواح شيء يكرهه الناس (عموما) لما يتصور فيه من مفاسد قتل
النفوس وقطع الأعضاء وضياع الأموال، ولكن هذه المفاسد تحتمل وإن كرهتها النفوس، لما
فيها من مصالح عظيمة، وذلك من إعلاء لكلمة الله تعالى ودفاع عن دينه، وصون لديار
الإسلام من أن تستباح، وللأعراض من أن تنتهك وللأموال من أن تنتهب وإعادة للحق إلى
أهله.
وهكذا لما كانت كفة المصالح راجحةً شرع الجهاد مع ما فيه من مفاسد مغتفرة
أمام مصالحه الكثيرة، وهو أيضا من باب تقديم مصلحة حفظ الدين على مصلحة حفظ النفوس
والأموال، ومن باب تقديم مصلحة الأمة جمعاء على مصلحة أفراد معدودين.
- قال تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (الأنعام 108)، حيث إن سب
آلهة المشركين فيه تحقيق مصلحة، وهي إنكار هذا المنكر بإهانتها وبيان تفاهتها
وحقارتها، إلا أنه لما كان يترتب على هذا الفعل مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة
المشركين سب أوثانهم بسب الله تعالى جهلا واعتداء لعدم تقديرهم لعظمة الله تعالى،
نهى الله تعالى رسوله والمؤمنين عن ذلك.
- قال تعالى: (وإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنفال 61)، السلام المستند
إلى القوة التي تدعمه وتحميه مقدم في ميزان الإسلام على الحرب مهما كانت
مكتسباتها، لذلك إذا مال العدو للسلام بصدق من غير خديعة فعلى المسلمين أن يوافقوا
عليه، فالقتال في الإسلام ليس مقصدا في حد ذاته، بل هو وسيلة إلى مقاصد متعددة،
أعلاها إعلاء كلمة الله تعالى وحفظ دينه ونشره، ثم حماية نفوس الأمة وعقولها
ومكتسباتها المادية، وأن تكون مرهوبة الجانب من قبل الأمم الأخرى، فإذا تحقق ذلك
بالسلم فلا داعي للحرب والقتال.
- قال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ
أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ
صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل 106)، ففي هذه الآية ترجيح مصلحة حفظ النفس على
حفظ جزئي للدين، بحيث يتمثل في عدم ترك التلفظ بالكفر في حال الإكراه عليه مع
اطمئنان القلب للإيمان، وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام: (التلفظ بكلمة الكفر
مفسدة محرمة، لكنه جائز بالحكاية والإكراه إذا كان قلب المكره مطمئنا بالإيمان،
لأن حفظ المهج والأرواح أكمل مصلحةً من مفسدة التلفظ بكلمة لا يعتقدها الجنان).
- قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا
إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)
(البقرة 219)، وهنا موازنةٌ صريحةٌ في شأن
الخمر والميسر، فالخمر والميسر فيهما بعض المصالح والكثير من المفاسد، وجهة
المفاسد راجحةٌ على جهة المصالح، وهذا ما حدا بالشارع إلى تحريمهما، ويقول سيد قطب
رحمه الله: (وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم، فالأشياء
والأعمال قد لا تكون شرا خالصا، فالخير يلتبس بالشر، والشر يلتبس بالخير في هذه
الأرض، ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر، فإذا كان الإثم في
الخمر والميسر أكبر من النفع، فتلك علة تحريم ومنع وإن لم يصرح هنا بالتحريم
والمنع).
- قال تعالى: (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ
أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة 100)،
وهنا يقول أبو زهرة رحمه الله: (إن الشر مهما يكثر لا يمكن أن يستحسن شرعا أو ترضى
به الأخلاق، ولا يمكن أن ينقلب بالكثرة مساويا للخير، بل إنه كلما كثر، وجبت
مقاومته بشدة وبمقدار كثرته تكون شدة المقاومة، وذلك فرق ما بين شريعة الله
وقوانين العباد، فإن قوانين العباد تستمد قوتها من الكثرة، وعرف الناس ولو كان
فاسدا، أما شريعة الله فهي للخير المحض، وإذا كثر الشر لا تتبعه بل تقاومه، ولا
ترضى به، لأنها جاءت لنشر الخير).
- قال تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) (التوبة 19)، في هذه الآية
الكريمة بيان لسوء الموازنة عند مشركي قريش، إذ أنهم يجعلون الطقوس التي يؤدونها،
وبعض الأعمال الخيرية التي ورثوها عن آبائهم والمتمثلة في سقيا الحجاج وخدمة
المسجد الحرام، مع خلو قلوبهم من الإيمان بالله الحق وباليوم الآخر، أرجح ميزانا
ممن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، والله عز وجل بين
خطأ تلك الموازنة، وأن الإيمان لا يعدله شيء، كما في الآية بيان أن جنس أعمال
الجهاد مقدم على جنس أعمال الحج.
- قال تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى
النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (المطففين
1-3)، تنعى هذه الآية على من أساء الميزان والموازنة، وذلك بتقديمه مصلحته على
مصلحة الناس والعدل، فإذا كان الأمر في صالحه أوفى واستوفى، وإن كان لغيره طفف
وأساء الوزن وأخسره، وفي ذلك إرشاد للمؤمنين إلى حسن الوزن والموازنة في كل الأمور
من غير إخسار أو تطفيف.
الآيات القرآنية التي تضع أسس حسن الموازنة
- قال تعالى: (وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ
وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّه يَدْعُو إِلَى
الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (البقرة 221)، في هذه الآية تبرز موازنة بين الأشخاص
وأفضلياتهم في نظر الشارع، والذي قد يتعارض مع ميول البشر وشهواتهم عندما تتعرى من
ضوابط الشرع.
فالشرع يجعل المرأة المسلمة وإن كانت أمة خيرا من طلاع الأرض من المشركات
وإن كن حرائر ومهما كانت ميزاتهن، والرجل المسلم ولو كان عبدا خير من طلاع الأرض
من المشركين ولو كانوا أحرارا، لأن المسلمين ملتزمون بأوامر الله تعالى ويدعون إلى
سبيل الجنة، أما أولئكم فيدعون إلى النار وطرقها.
- قال تعالى: (قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ
بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة 247)، وفي هذه الآية يبين الله تعالى الميزان
الصحيح الذي يقاس به من يستحقون منصب قيادة الأمة وهو (قوة الجسم وغزارة العلم)،
وقد أخطأ بنو إسرائيل الموازنة إذ كانوا يظنون أن سعة المال هي أساس الأفضلية،
فبين لهم الله تعالى على لسان نبيه أن قوة الجسم وغزارة العلم أثقل ميزانا من سعة
المال، وهي الأجدر في النظر عند اختيار القائد.
- قال تعالى: (لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ
إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى
اللَّهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران 28)، ففي هذه الآية كما رأينا إرشاد للمؤمنين بأن
يقدموا ولاءهم للمؤمنين على أي ولاء آخر، وهو من فقه الموازنات الرشيدة، لأن في
تولي غير المؤمنين الكثير من المفاسد، كإضعاف الصف المسلم وتشرذمه، وتسرب أخبار
المسلمين إلى عدوهم وغير ذلك.
يقول المراغي رحمه الله في بيان معنى الآية: (أي لا يصطف المؤمنون مع
الكافرين فيكاشفوهم بأسرارهم الخاصة بالشؤون الدينية ويقدموا مصلحتهم على مصلحة
المؤمنين، إذ في هذا تفضيل لهم عليهم وإعانة للكفر على الإيمان، وخلاصة هذا نهي
المؤمنين عن موالاة الكافرين لقرابة أو صداقة جاهلية أو جوار أو نحو ذلك من أسباب
المصادقة والمعاشرة، بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه مما يقتضيه الإسلام من الحب
والبغض لمصلحة الدين فحسب، ومن ثم فتكون موالاة المؤمنين أجدى لهم في دينهم من
موالاة الكافرين، وإن كانت الموالاة والمحالفة لمصلحة المؤمنين فلا مانع منه).
- قال تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ
إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ
عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ) (آل عمران 75)، في هذه الآية حسن موازنة في التعامل مع الآخر (غير
المسلم) فليس كل الناس في نفس المستوى، فمنهم الحسن والأحسن والسيئ والأسوأ، وللتعامل
معهم لابد من الموازنة لاختيار من يصلح للتعامل ممن لا يصلح، فعلى المسلم أن يوازن
بين أصناف البشر ليحسن التعامل معهم وليتقي شر الشرير ولا يخسر الاستفادة من الوفي
الأمين.
- قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات 13)،
فالمفاضلة كما رأينا بين الناس في ميزان الإسلام تقوم على أساس التقوى، وفي ذلك
يصحح الإسلام موازين الناس الخاطئة، والتي تقوم على أسس طائفية أو قومية أو قبلية
ضيقة، فالإسلام يريد للناس الرقي والخروج عن الحدود الضيقة التي يضعون أنفسهم بها،
كما أنه يضع جميع البشر جميعا على قدم المساواة أمام الله أحكم الحاكمين.
يقول سيد قطب رحمه الله في بيان الميزان الحقيقي الذي يوزن به البشر عند الله تعالى: (أما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات، وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني حساب في ميزان الله، إنما هناك ميزان واحد تتحدد به القيم ويعرف به فضل الناس وهو إن أكرمكم عند الله أتقاكم، والكريم حقا هو الكريم عند الله، وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين).