العالم اليوم يعيش شعارات تحررية يمينية كاذبة ترفعها أيادي استبدادية ترامبية
اليوم وفي ظل التراجع الحالي نحو
العنصرية ورفض التنوع في الغرب، يطفو على السطح سؤال حول فشل التعددية الثقافية والاجتماعية
المزعومة في الغرب وحتى الشرق مؤخرا، وذلك في ظل عالم أصبح يشهد تصاعدا خطيرا في
التهديدات، سواء من جماعات اليمين الأمريكي والأوروبي المسلحة (غربا) أو حتى
المتطرفين الهندوس والبوذيين (شرقا)، كما أصبحنا نعيش في عصر صار فيه إصدار
التهديدات سهلا للغاية، وللأسف قد ينفذها بعض المجانين منهم، كما وأن هؤلاء
يعتمدون على مجرد دعاية عنصرية فارغة، والترويج لفكرة "ضياع هوية أوروبا
وأمريكا والهند..."، حيث أنهم يحددون الهوية بالعرق ولون البشرة والدين، وذلك
دون النظر إلى التعددية التي تشكل نسيج المجتمعات الحديثة.
وهنا يجب أن نذكر أنه عندما تكون من
الوحيدين أو القلائل من ذوي البشرة السمراء (غير البيضاء) في المدرسة الابتدائية
في أوروبا وأمريكا، فإن ذلك سوف يشكل تجربةٌ تصوغ هويتك منذ الطفولة، حيث تكون قد عشت
دائما كأقلية سواء من الناحية العرقية أو الدينية أو الثقافية، كما وسوف تكون
واجهت ردودا عنصرية مهينة ومتنوعة، وذلك في زمن كانت فيه بريطانيا مثلا في ستينيات
وسبعينيات القرن الماضي، تُعلن فيه اللافتات العنصرية صراحة "ممنوع دخول الكلاب
والسود والإيرلنديين"، حيث كان التمييز عنصرا يوميا لا يُخفي نفسه ولا يخفى
على أحد، لكن تبقى بريطانيا والتي كانت فيما مضى إمبراطوريةً مترامية الأطراف
تستقبل اليوم أحفاد أولئك الذين استعمرتهم قديما، وذلك في صدى للمثل الهندي
القائل: "جئنا لأنكم كنتم هناك"، حيث تم انتخاب مسلم بريطاني من أصل
باكستاني لثلاث دورات متتالية عمدة للندن.
كما أنه في الولايات المتحدة
الأمريكية اليوم، وعندما يقول ترامب وأنصاره "MAGA" أي "اجعل
أمريكا عظيمة مرة أخرى"، يتساءل البعض: "متى كانت أمريكا عظيمة بالفعل؟!"،
أو أنه يراد أن تعاد صياغة "عظمة أمريكا" وفقا لمعايير حقبة ما قبل
الحقوق المدنية أو الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، أو حتى وصولا لإبادة السكان
الأصليين (الهنود الحمر)، هذا وفي خضم هذه المعركة المعلنة حاليا حول حرية الرأي
والتعبير وإدارة الأزمات، يتجلى تناقض صارخ في الخطاب السياسي لترامب وحلفائه، فهم
يرفعون شعار "مواجهة الدولة العميقة" زورا، بينما يمارسون أبشع أشكال
القمع ضد الحريات، فها هو ترامب يتباهى علنا بتهديده إسكات وسائل الإعلام المستقلة
وسجن شخصيات مثل مارك زوكربيرغ، بل ويصف نفسه بمفاخرة بـ"زعيم
المافيا"!، والعجب كل العجب أن ادعاءات زوكربيرغ الأخيرة حول ضغوط حكومية
تتجاهل حقيقة أن التهديد الوحيد بالسجن جاء من ترامب شخصيا، وهذه المفارقة تكشف
جوهر خدعة "محاربة الدولة العميقة" وأنها ليست سوى غطاء لمشروع استبدادي
شمولي تسلطي يهدف إلى تفكيك المؤسسات الديمقراطية وإعادة تشكيلها لخدمة الأجندة
الشخصية لترامب ومناصريه العنصريين.
وهكذا فإن المشهد الصادم الذي تجلّى
في انحناء أحد أقطاب التكنولوجيا وأغنى رجال العالم، مارك زوكربيرغ، أمام ترامب هو
موقف يفسر الخوف من تهديدات محتملة أو حتى السجن، وهذا المشهد ليس سوى انعكاس
للمناخ الخانق الذي تشهده أمريكا والعالم اليوم، حيث أصبحت التهديدات تُطلق بسهولة
مفرطة، وتتحول من مجرد كلمات إلى أفعال ملموسة، وذلك في بيئة سياسية يغيب فيها
الأمان وتتفشى ثقافة الترهيب، حيث يتم اليوم استغلال بعض الأزمات الإنسانية بشكل
انتقائي لتبرير سياسات قمعية، وذلك تحت شعارات كاذبة عن الحرية، أي إنها لعبة
خطيرة ذات شعارات تحررية ترفعها أيادي استبدادية، وحرب مزعومة على "الدولة
العميقة" تخفي وراءها هجوما منظما على أسس الديمقراطية ذاتها.
ترامب إذا أردت أن أكون صادقا، موقفه
قوي جدا تجاه مجتمع الشواذ (النوع الاجتماعي)، ولكن لنكن واضحين فإن الاعتقاد
السائد في بعض الأوساط العربية والإسلامية بأن ترامب يمثل "خيارا أقل
سوءا" هو وهم كبير، فسجل الرجل في رئاسته الأولى ينطق بالحقائق الصادمة، وأنه
هو الذي أمر باغتيال قاسم سليماني على أرض عراقية، وكاد يُشعل حربا إقليمية مع
إيران، وهو كان الداعم الرئيسي للحرب السعودية في اليمن، وهو الذي قصف سوريا مرتين
دون مُبرر قانوني، بل نفذ ضربات بطائرات بدون طيار على اليمن وأفغانستان وغيرها تجاوزت
في عددها ما قام به أوباما خلال ثماني سنوات قبله!
والأخطر من ذلك أن الرئاسة الثانية
لترامب عبارة عن كابوس عالمي بملامح فاشية، حيث تبدأ ملامح الكارثة بالظهور منذ
الأيام الأولى لرئاسة ترامب، والذي تجلى بخطاب استبدادي صريح، وسياسات مناهضةٌ
لأبسط مبادئ الديمقراطية، وتجاهل فاضح لأخطر الأزمات العالمية مثل حرب غزة وحقوق
المهاجرين والتغير المناخي وغيره، ورغم أن ارتفاع الأسعار كان العامل الحاسم في
فوزه الانتخابي الأخير، إلا أن إدارته لم تقدم أي حلول عملية حقيقية، بل انشغلت
بمشاريع وهمية كزيادة الضرائب على كل دول العالم وضم جزيرة جرينلاند، أو تحويل
كندا إلى "الولاية الأمريكية الحادية والخمسين"، كما وتحولت علاقاته
السياسية إلى سلسلة من الإهانات والتصرفات غير المسؤولة، بدءا من تهديدات باحتلال
قناة بنما، ووصولا إلى مشاجرات دبلوماسية مع كولومبيا والمكسيك وأوكرانيا وغيره
الكثير.
هذا ولا تمثل التصريحات الأخيرة
لترامب حول "تطهير" غزة من سكانها مجرد رأي مثير للجدل، بل هي بمثابة
وصفة صريحة للعنصرية والتطهير العرقي، حيث كشفت تصريحاته الأخيرة عن تطابق كامل مع
أجندة اليمين الإسرائيلي المتطرف، وهم الذين يقولون بأن غزة بدون شعبها يمكن أن
تصبح مثل موناكو وبعقارات سياحية مطلة على الشاطئ، فهكذا يرون الأرض في غزة فلسطين،
وحتى ادعاءات "التهدئة" في غزة كانت خدعةً إعلامية، إذ لم تكن سوى
استراحة مؤقتة لأجندته الانتخابية، بينما استمرت جرائم الحرب في غزة والضفة
الغربية بفظاعات لم يسبق لها مثيل، وهذه ليست "محافظة" بالمعنى السياسي،
بل هي فاشيةٌ صريحة تلبس ثوب الدبلوماسية، كما وتكتمل هذه الصورة الكابوسية في تشكيلة
وزرائه المثيرة للقلق، حيث أن ترامب في ولايته الثانية قد أحاط نفسه بأكثر
الشخصيات تطرفا وعداء للمسلمين والعرب.
وهكذا يتجلى اليوم تناقض صارخ في
التعامل مع حرية الرأي والتعبير في الغرب الأمريكي، وذلك في خضم تصاعد القمع
الفكري والعنصري بالنسبة للمخالفين المعارضين، فبينما يُفرض على المسلمين والعرب
"التسامح" مع إهانة رموزهم الدينية والثقافية تحت شعار "حرية
الرأي"، تُطبّق معايير مختلفة تماما حين يتعلق الأمر بانتقاد النخب الحاكمة
أو اللوبيات المؤثرة، بحيث أصبح يتم فصلك من عملك لمجرد انتقادك لإيلون ماسك بعد
تصريحاته المشبوهة التي يحتفي بها اليمين المتطرف، كما يُطرد أكاديميون مرموقون مثل
كاثرين فرانك ـ أستاذة القانون في جامعة كولومبيا ـ لمجرد التعبير عن رأي نقدي
تجاه إسرائيل! وهذه الازدواجية تكشف أن "الحرية" المزعومة تتوقف عند
حدود مصالح السلطة والمال، فالإهانات الموجهة للمسلمين والعرب وغيرهم ُتغتفر باسم
"الفكاهة" أو "النقد"، بينما يتحول انتقاد شخصيات مثل ماسك أو
نتنياهو إلى خط أحمر! حيث تخضع "الحرية" في المؤسسات الإعلامية لمعادلة
مشوهة، ويصبح الصحفيون والنشطاء رهائن لمصالح المعلنين وأصحاب الوسائل، فتُختزل
بذلك الأفكار إلى سلع تخضع لاعتبارات الربح والضغوط السياسية، فالحرية هنا مُقيّدة
بقيود غير مرئية، تُدار من خلف الكواليس بقبضة حديدية مغلَّفة بقفاز من حرير!
ولهذا يجب أن يكون في هذه المرحلة
الحساسة والمفصلية نهضة لجيل جديد من المسلمين والعرب وغيرهم (المهاجرين
المواطنين) في الغرب، جيل يثبت وجوده في كل المساحات العامة رغم المخاطر الجسيمة
التي قد تصل لحدّ التهديد بالقتل في مجتمعات غربية وشرقية أصبحت عنيفة ضد الآخرين،
خاصة مع صعود نجم ترامب مجددا في الولايات المتحدة، والذي فتح الأبواب عالميا على
مصراعيها لتصاعد موجات الكراهية والتهديدات ضد المهاجرين والإعلاميين والناشطين
المخالفين لفكره، وذلك من أقطاب اليمين المتطرف وجماهيرهم العنصرية، وهذه دعوة
لمواجهة التحديات الحالية بصمود وشجاعة وحكمة، وذلك لأن الصمت اليوم يعني التخلي
عن حقوق الأجيال القادمة، فالحقيقة التي يجب أن تُقال اليوم أنه لا يوجد "شرٌ
أقل" في معادلة تضع العرب والمسلمين وغيرهم أمام خيارات كارثية، كما أن السكوت
عن هذه الحقائق اليوم هو تواطؤ مع مشروع عنصري حقير وخطير.