تحديات تطبيق الإسلام بين الهيمنة الديمقراطية الليبرالية الغربية والقومية الوطنية
تواجه الأمة العربية والإسلامية اليوم
تحديات متعددة ومتنوعة، والتي تتمثل بالتشرذم السياسي والاجتماعي والثقافي والديني،
والذي يتجسد في انتشار الدول القومية التي باتت تعرقل مفهوم الوحدة العربية والإسلامية،
ويعزو الكثيرين هذه الظاهرة إلى هيمنة الفكر الليبرالي الغربي الذي فرض معايير
جديدة على أنظمة الحكم القائمة اليوم، مما جعل العرب والمسلمين يعيشون في تقليد
غير واع لنموذج ما بعد المسيحية الغربية للدولة القطرية، ونتيجة لذلك تراجعت
المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها الإسلام كدين يتجاوز حدود الدول ويتسم بالتماسك
العابر للحدود.
هذا وتجد التيارات السياسية في العالم
العربي والإسلامي اليوم نفسها أمام خيارين، أحدهما التنازل عن بعض قيمها لتتماشى
مع القومية الليبرالية الغربية، أو مواجهة الواقع بتأسيس نظام إسلامي فريد يحافظ
على هويته دون التضحية بقيمه، ولعل التحدي الأكبر الذي يواجه المسلمين هو تقديم
نموذج سياسي يعبر عن الهوية الإسلامية دون الوقوع في فخ القومية المعادية للأجانب،
إذ إن الانخراط في مفاهيم قومية ضيقة قد يؤدي إلى تجزئة الأمة وتفتيت وعيها
المشترك، مما يقلل من التضامن بين المسلمين في مختلف البلدان، ويضعف اهتمامهم بقضايا
المسلمين في المناطق الأخرى مثل فلسطين وكشمير والروهينجا وغيرها.
كما أنه إذا بدأ المسلمون في التفكير
بالإسلام من منظور قومي وطني، فإن ذلك سوف يعزز من الانقسام بينهم ويقود إلى ما
يمكن تسميته بـ "الإسلامات المتعددة"، إذ يتجزأ الإسلام إلى نماذج محلية
متباينة، مما يهدد بفقدان وحدته وهويته الجامعة، وإن هذه الرؤية تخرج الإسلام عن
كونه رسالة عالمية وترجعه إلى حدود ضيقة تحكمها مصالح الدول القومية، كما وسيؤدي
هذا الواقع إلى صعوبة بناء كيان سياسي إسلامي متماسك يمكنه التصدي للتحديات
العالمية وتقديم حلول إنسانية تتجاوز الحدود الوطنية، مما يضعف بدوره قدرة
المسلمين على الاتحاد والعمل الجماعي لتحقيق أهدافهم المشتركة.
ولهذا فإن الحاجة إلى هيكل يوحد الأمة الإسلامية وإنشاء كيان سياسي إسلامي
لا يتقيد بإطار الدولة القومية قد يبدو حلما مستحيلا للبعض، ولكنه قد يكون ضروريا
للحفاظ على وحدة الأمة وتقوية قدراتها، ويمكن لهذا الهيكل أن يجمع الدول العربية
والإسلامية في كيان اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي موحد يتيح لها توزيع الموارد
والتعاون في مجالات متعددة، مثل التعليم والاقتصاد والصحة والدفاع وغيره، مما يعزز
قوة العرب والمسلمين ويجعلهم أكثر قدرة على التصدي للتحديات العالمية.
هذا وإن تجربة الاتحاد الأوروبي قد
تقدم نموذجا قابلا للتأمل، حيث تمكنت دول ذات تاريخ طويل من العداء والصراع، مثل
ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا وغيرها، من التوحد تحت مظلة سياسية مشتركة بعد
حروب دموية، كما تمكنت هذه الدول من تجاوز الخلافات العميقة بين شعوبها وبناء كيان
سياسي يهدف إلى تحقيق مصالح الجميع، وهذا يدفعنا للتساؤل: إذا استطاعت دول أوروبا
إنشاء اتحاد كونفدرالي يحقق التكامل السياسي والاقتصادي رغم العداءات التاريخية،
فلماذا لا يمكن للأمة العربية الإسلامية التفكير في مشروع مشابه يستند إلى القيم
الإسلامية؟!
طبعا هنا يجب أن
نقول أنه ارتبطت الإسلاموية أو الإسلامية، كحركة سياسية وفكرية، تقليديا بمبادئ
وقيم تضع الدين الإسلامي في صلب العمل السياسي والاجتماعي والثقافي، ومع ذلك يلاحظ
أن العديد من المفكرين الإسلاميين باتوا يقدمون تنازلات كثيرة، ويبتعدون عن تلك
القيم الأصلية لصالح التقارب مع التيار الليبرالي، هذا وإن التحول نحو التعايش مع
القيم الليبرالية وعدم التصادم مع الأفكار السائدة يشكل خطرا قد يؤدي إلى فقدان
الإسلاميين لهويتهم وأهدافهم الأصلية، وقد يصل الأمر إلى حد انعدام البدائل
الإسلامية للمسلمين الذين يبحثون عن نموذج يعبر عن ثقافتهم وهويتهم، ومن الصعب هنا
أن نجد في هذا السياق حوارا متوازنا أو تبادلا فكريا حول البدائل الإسلامية لنظم
الحكم الليبرالية أو الديمقراطية الغربية، كما أنه وفي ظل هذه التحولات، نجد أن
الليبرالية الغربية، سواء كانت مركزية أو هامشية، تستحوذ على المشهد العام وتترك
الفكر الإسلامي في هامش ضيق، ولا يمكن إنكار أن النموذج الليبرالي الغربي يشكل
الإطار المرجعي الأساسي للديمقراطية المعاصرة، وفي كل مرة يحاول فيها الفكر
الإسلامي تقديم نفسه كبديل، يجد نفسه مضطرا للتنازل أو التأقلم مع هذا الإطار.
الليبرالية
الهامشية والتي قد تعتبر نوعا من الليبرالية الضعيفة، أصبحت تستحوذ على جوانب
واسعة من الفكر في الدول الإسلامية، وقد يؤدي ذلك إلى تهميش أصوات الذين ينادون
بنموذج ديمقراطي يتسق مع القيم الإسلامية، وهو ما يضعف من إمكانية النقاش الحرّ
حول بدائل ديمقراطية غير غربية أو تقترب من النموذج الإسلامي، هذا وإذا نظرنا إلى
التجارب الديمقراطية الأخيرة في الدول العربية والإسلامية، نجد أنها لم تأتي
بالنتائج المرجوة دائما، فمثلا في العراق وباكستان، وعلى الرغم من إجراء انتخابات
ديمقراطية، لم يتم تحقيق الاستقرار السياسي أو الاجتماعي المتوقع، وفي الجزائر
ومصر انتهت التجربة الديمقراطية المبكرة بتدخل عسكري أدى إلى إيقاف المسار
الديمقراطي، كما أن إيران رغم أنها تجري انتخابات بشكل دوري، تعتبر من الدول التي
تعاني من ضغوط وتحديات خارجية كثيرة تستهدف تقويض نموذجهما السياسي.
كل هذه الأمثلة
السابقة وغيرها تبرز أن الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي تواجه صعوبات
كبيرة إذا لم تكن متوافقة مع الإطار الغربي، فالأنظمة الديمقراطية في الدول
العربية والإسلامية التي تظهر توجهات معادية للغرب تواجه عادة هجوما وانتقادات
متكررة، ويرتبط ذلك بتعريف الغرب للديمقراطية، إذ يعتبر أن الحكومات المعادية له
لا يمكن أن تكون ديمقراطية بالمعنى الصحيح، وذلك وفقا للمعايير الغربية، ولهذا فإن
محاولة التوفيق بين القيم الإسلامية والديمقراطية يمثل تحديا كبيرا، فالديمقراطية
كما يتم تصورها في الغرب تعرّف ضمن إطار معين يجعل من الصعب على أي دولة تتبنى
توجها معاديا للغرب أن تتوافق معها، وهذا يؤدي بدوره إلى صعوبة تكوين نموذج
ديمقراطي إسلامي أصيل يلقى قبولا دوليا دون الحاجة إلى تقديم تنازلات سياسية أو
فكرية (دينية).
وهكذا تظهر هذه
المناقشات أهمية البحث عن نموذج ديمقراطي يتناسب مع القيم الإسلامية ويحقق
الاستقرار والعدالة، دون التبعية للإطار الليبرالي الغربي، وتطوير هذا النموذج يعد
تحديا كبيرا ولكنه ضروري، بحيث يجب أن يتم التركيز على إيجاد صيغة تتيح للمسلمين والعرب
إمكانية إدارة شؤونهم ضمن إطار ديمقراطي يعبر عن هويتهم وحضارتهم، كما وقد تكون
التجارب الديمقراطية في الدول العربية والإسلامية بحاجة إلى إعادة تقييم بما يضمن
احترام هوية هذه المجتمعات وقيمها الثقافية والدينية، وبما يحفظ كذلك استقلالها
السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
وأخيرا نقول إن التفكير في الإسلام كإطار سياسي عالمي وليس ضمن الحدود القومية يمثل تحديا حقيقيا في ظل الأنظمة الحالية التي تشجع على تفتيت الشعور بالأمة الإسلامية لصالح هويات وطنية وقومية ضيقة، مما يجعل التضامن الإسلامي والعربي العالمي أمرا صعب التحقيق، كما أنه من المستحيل تقريبا تخيل ديمقراطية مناهضة للغرب وفق التعريفات الغربية نفسها، وفي ظل هذه التحديات المعاصرة، يحتاج المسلمون والعرب إلى رؤية سياسية جديدة تتجاوز الحدود القومية وتعيد للأمة وحدتها وتماسكها، وذلك مع أهمية التفكير في الإسلام كقوة عابرة للحدود على غرار الاتحاد الأوروبي (مثلا)، والذي يمكن أن يقدم نموذجا قابلا للتطبيق يوحد المسلمين والعرب دون الحاجة إلى التضحية بقيمهم أو التنازل عن مبادئهم، إضافة إلى أن يكون وسيلة لتحقيق مصالح عالمية مشتركة، كما ويمكّن المسلمين والعرب من التعامل مع التحديات المشتركة، مع مراعاة خصوصية الهوية الإسلامية والعربية التي تميزهم والخاصة بهم.