قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

التناقض الصارخ بين المبادئ الغربية والممارسات الفعلية

التناقض الصارخ بين المبادئ الغربية والممارسات الفعلية

- وهم إقناع الغرب بعدالة القضية الفلسطينية والحلول الممكنة  -

ينكشف التناقض الأيديولوجي الصارخ بين المبادئ الغربية المعلنة والممارسات الفعلية على أرض الواقع من حقيقة الموقف الغربي من إسرائيل، فبينما ترفع الديمقراطيات الغربية شعارات علمانية الدولة والمساواة بين المواطنين ورفض العنصرية، نجدها تدعم كيانا يقوم على أسس دينية يهودية ويمارس التمييز العنصري مؤسسيا ويحتل أراضي الغير استيطانيا، بل حتى أنه كان يعادي منظمة التحرير الفلسطينية عندما تبنت خطابا علمانيا تفريطيا شاملا، كما وتتعمق هذه المفارقة التاريخية عندما نلاحظ أن الغرب الذي حارب نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وقاطع دولا لأسباب أقل خطورة، يصم آذانه عن جرائم إسرائيل في غزة اليوم.


وترجع جذور هذا التناقض إلى عدة عوامل رئيسية، أهمها الدوافع الدينية حيث يؤمن التيار الإنجيلي البروتستانتي (الذي يمثل قطاع كبير من الأمريكيين اليوم) بعودة اليهود كشرط لنزول المسيح وقدسية إسرائيل التوراتية، إضافة إلى وجود مصالح جيوسياسية تجعل من إسرائيل حاملة للمشروع الغربي في المنطقة وقاعدة عسكرية متقدمة ومختبرا للأسلحة في حروبها، هذا ولا ننسى العقدة التاريخية الغربية، والتي تتمثل في الشعور بالذنب تجاه المحرقة اليهودية المزعومة (كما يتخيلها اليهود)، والرغبة في إبقاء "المشكلة اليهودية" خارج أوروبا إجمالا وعموما.


وهكذا تظهر إسرائيل كتجسيد عملي للتناقض الغربي بين المبادئ المعلنة والمصالح الخفية، حيث لو طُبقت المعايير الغربية بإنصاف لكانت إسرائيل أولى الدول بالمقاطعة والعقوبات، لكن المصالح الاستعمارية والدينية تتجاوز كل المبادئ حين يتعلق الأمر بالشرق الأوسط (العرب والمسلمين)، مما يؤكد أن الصراع ليس مع كيان محلي بل مع تحالف استعماري-عقائدي متكامل، ولهذا فإنه من الحماقة توقع نتائج مختلفة من تكرار نفس الأساليب مع هذه المنظومة، وذلك من خلال أوهام المفاوضات العقيمة وبناء سلام (استسلام) شامل وغيرها من مسميات خادعة وكاذبة، كما أن السبيل الوحيد لمواجهة هذا التحدي التاريخي، يتطلب إعادة بناء استراتيجية تستند إلى فهم عميق للصراع، واستثمار كل الطاقات في بناء قوة ذاتية حقيقية، خاصة عندما يعتقد هذا العدو أن قتالك واجب ديني، فلا معنى حينئذ للبحث عن إقناعه بأي شيء آخر.


هذا ويجب أيضا التخلص جذريا من الأوهام الساذجة حول إمكانية إقناع الغرب بعدالة القضية الفلسطينية، فالحقيقة المُرّة تكمن في أن هذا الغرب الأوروبي والأمريكي يدرك تماما حقائق الصراع، لكنه يتبنى عقيدة صهيونية-صليبية متجذرة تعتبر فلسطين "أرض الميعاد" لليهود بحسب الرؤية التوراتية، وهو ما عبّر عنه تشرشل بقوله الساخر: "لا تصبح الحظيرة ملكا للثور لأنه نام فيها"، مما يفسر استمرار الدعم الغربي اللامشروط لإسرائيل رغم انتهاكاتها المتكررة للقانون الدولي وحقوق الإنسان، كما ويتجلى هذا الموقف في الإجماع الأمريكي المستمر والثابت تجاه إسرائيل في تصريحات قادة الولايات المتحدة، والذين يؤكدون دوما بأن "إسرائيل مصلحة حيوية لهم - الغرب"، حيث يتنافس الديمقراطيون والجمهوريون في دعم إسرائيل، بل إن غير اليهود أصبحوا يتبنون الصهيونية بكل حماس، ويتسابق الجميع في دعم هذا الكيان الصهيوني الذي يمثل حجر الزاوية في المشروع الاستعماري الغربي بالمنطقة.


كما وتؤكد هذه التحليلات حقيقة بالغة الأهمية مفادها أن الخطاب الغربي حول "الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" يفقد كل مصداقيته في سياق الصراع العربي-الإسرائيلي، إذ يكشف التاريخ أن الصراع الحقيقي هو مع المشروع الاستعماري الغربي بقيادة أمريكا، وليس مع الكيان الصهيوني المنعزل، وهذا يستدعي فضح التناقض الغربي الصارخ في المحافل الدولية، وتحويل القضية من نزاع إقليمي إلى معركة عالمية ضد العنصرية والاستعمار الجديد.


فالغرب ليس جاهلا بحقائق الصراع كما يتضح من تصريحات قادته التاريخيين، بل يتبنى عقيدة صهيونية-صليبية مشتركة تعتبر فلسطين "أرض الميعاد" لليهود بموجب تفسيرات توراتية، بينما ينظر للوجود العربي والإسلامي على أنه "احتلال مؤقت"، وهذه العقيدة الراسخة تفسر لماذا يصم الغرب أذنيه عن كل الحجج التاريخية والقانونية والأخلاقية، ويستمر في دعم إسرائيل رغم انتهاكاتها الفاضحة لكل أنواع القوانين الدولية.


ولهذا فإن أي أمل في إقناع هذا الغرب بعدالة القضية الفلسطينية هو وهم خطير، فالمعركة الحقيقية تتطلب كشف زيف المبادئ الغربية المعلنة، وإبراز التناقض بين شعاراتها وممارساتها، وتحويل الصراع إلى قضية إنسانية عالمية تفضح التواطؤ الغربي مع مشروع استعماري عنصري، إضافة إلى العمل على توجيه الجهود الدبلوماسية نحو العالم غير الغربي، وبناء تحالفات استراتيجية مع القوى المناهضة للهيمنة الغربية، مع التركيز على بناء القوة الذاتية علميا واقتصاديا وعسكريا كخيار استراتيجي وحيد، وذلك لمواجهة مشروع استعماري يعتبر مقاومته "خطيئة" دينية قبل أن تكون خلافا سياسيا أو جغرافيا، وهذا الفهم الشامل وحده كفيل بتحريرنا من أوهام المفاوضات العقيمة، وتركيز الجهود حيث تكون مؤثرة حقا في معركة المصير هذه.


كما ويجب التذكير هنا أن العلاقة المعقدة بين الغرب والمشروع الصهيوني في المنطقة تتجلى في كونها ليست علاقة تبعية مطلقة، فالصهاينة يمتلكون مشروعا مستقلا بذاته مع مساحة من المناورة والضغط، ويعملون بلا كلل لتوسيع نفوذهم، إلا أن الغرب يبقى الطرف الأقوى الذي يتحكم في الخطوط الحمراء ويستطيع كبح جماح إسرائيل عندما تتعارض مع مصالحه الكبرى، حيث تبقى الخلافات بين الطرفين في الإطار التكتيكي لا الاستراتيجي، وفي الجانب الآخر تكشف الأدلة الدامغة أن الأنظمة العربية تقوم بدور الحماة غير المعلنين لإسرائيل، حيث تتنافس على خدمة المصالح الغربية عبر حماية الكيان الصهيوني وتقديم التنازلات وقمع المقاومة، مع حقيقة أن الأنظمة القوية (عربيا وإسلاميا) منعت المقاومة من أراضيها، بينما سمحت الأنظمة الضعيفة بظهور مقاومة محدودة ثم قمعتها لاحقا.


والخلاصة المركزية تقول بأن إسرائيل ليست دولة غريبة عن المنطقة بل حلقة في سلسلة الأنظمة العربية الحامية للمصالح الغربية، والفرق الوحيد أنها الأكثر فعالية في أداء هذه المهمة، وهذا الواقع يفرض دروسا مستفادة جوهرية تتمثل في عدم إمكانية الفصل بين الصراع مع إسرائيل والصراع مع الأنظمة العربية، حيث تؤكد الشهادات التاريخية أن كل الثورات التي ولدت في فلسطين تم إجهاضها في العواصم العربية، وقدر فلسطين أن يكون تدخل الدول العربية هو مبعث نكبتها، وهذه هي الحقيقة المُرّة، ولهذا فإن أي استراتيجية مقاومة يجب أن تضع في الحسبان دور هذه الأنظمة، مع إدراك أن التحرير الحقيقي يبدأ من تغيير أنظمة الحكم العربية، مع ضرورة بناء قوة داخلية مستقلة لا تعتمد على الأنظمة القائمة، وهذه الحقائق وحدها تفسر لماذا ظلت القضية الفلسطينية تدور في حلقة مفرغة، ولماذا فشلت كل مسارات التسوية السلمية،  ولماذا كانت كل "حلول" الأنظمة العربية مجرد مسكنات تخدم المشروع الصهيوني الغربي في النهاية.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart