المشكلة الطائفية العلوية في سوريا والحلول الممكنة
الكثير من العلمانيين العرب وخاصة
السوريين اليوم، يميلون إلى استبعاد البعد الطائفي في تحليلاتهم السياسية للأوضاع
في بلادهم، وذلك حتى عندما يكون هذا البعد حاضرا بقوة، وهذا الاستبعاد قد يكون
ناتجا عن رغبتهم في تجنب إثارة النزاعات الطائفية، أو بسبب قناعتهم بأن الطوائف
يمكن أن تختطف من قبل الأنظمة السياسية الحاكمة، ولهذا فإن العلمانيون العرب
والسوريون تحديدا يستبعدون وجود ما يسمى بالعلوية السياسية، وذلك لأنهم لا يحبون التحدث
عن وجود تأثير للدين أو بعد ديني أو طائفي في المشهد السياسي أو في النقاشات
السياسية، حتى لو كان هذا موجودا أصلا وواضح العيان للجميع، فهم بالنسبة لهم
مستبعد أصلا ولا قيمة له في تحليلاتهم، ولذلك في حالة العلويين في سوريا، يجادل
البعض بل ويحاول أن يبرر، بأنهم التفوا حول نظام الأسد بسبب شعورهم بالتهديد وعدم
الأمان، وليس بسبب ولاء طائفي بحت، ولأن نظام الأسد اختطف كل أبناء هذه الطائفة،
وكأنها طائفة من الأطفال أو مسلوبي الإرادة الذين لا عقول لهم ولا قيمة، وأيضا مبررين
ذلك بأنهم كانوا يشعرون أنه هو فقط الذي سيحميهم، ولأجل الشعور بهذا الأمان
الاجتماعي الزائف، التفوا حول أركان هذا النظام، ومستغلين بأقصى درجة خطاب
المظلومية التاريخية عندهم.
التاريخ يذكر لنا كيف أن الولاءات
الطائفية والعرقية يمكن أن تؤثر بشكل كبير على السياسة الداخلية والخارجية للدول،
فمثلا في تركيا العلوية السياسية (العلوية البكتاشية
الأناضولية) أصبحت قوة
مؤثرة، لكنها تواجه انتقادات كبيرة بسبب ولاءاتها المتضاربة وتأثيرها على القرارات
السياسية والعسكرية، وفي سوريا العلويين النصيريين لعبو دورا محوريا في دعم نظام
الأسد تاريخيا، وهو ما يعكس كيف أن التحالفات الحاكمة معقدة وتتجاوز الحدود
الوطنية، وأن الصراعات في المنطقة ليست فقط سياسية أو عسكرية، ولكنها أيضا طائفية
وعرقية وقومية، مما يجعل حل هذه الصراعات أكثر صعوبة وتعقيدا.
العلوية السياسية في سوريا ليست مجرد
فكرة مجردة، بل هي واقع له آثار ملموسة، مثل السرقة والفساد والاعتقالات والقتل والتدمير
الذي شهدته سوريا على مدى عقود، وهذه الآثار هي نتيجة لاستغلال الطائفية من قبل
بعض القوى السياسية المتحكمة بالسلطة، وانتقاد العلوية السياسية هنا لا يعني
انتقاد الطائفة العلوية ككل، ولا الدعوة إلى الانتقام من الأبرياء، بل الهدف هو
تفكيك الأفكار العنصرية والطائفية التي تستغل الدين لتحقيق أهداف سياسية، وذلك كما
ننتقد الأفكار العنصرية في اليهودية أو أي دين آخر، بحيث يجب أن ننتقد الأفكار
الباطنية والعنصرية داخل العقيدة العلوية وما أدت إليه، وهذا النقد يجب أن يكون
علنيا وشفافا، ويهدف إلى إصلاح الفكر وليس إلى الهدم، كما وأن أي انتهاكات ترتكب
ضد العلويين اليوم ليست فقط جريمة، بل هي أيضا إضافة إلى تراكم المظلومية
التاريخية، وهذا سيؤدي إلى استمرار دوامة العنف والانتقام في الأجيال القادمة.
المشكلة ليست في الطوائف نفسها، بل في
الخطاب الطائفي والسياسي الذي يستغل هذه الانقسامات، ولهذا فإن الهدف من فتح هذه
النقاشات ليس تشجيع الطائفية، بل فهم جذورها والرد عليها من خلال الحوار والتفكيك
الفكري للمظلومية التاريخية التي تغذيها، وبالنسبة للعلوية السياسية في سوريا فإنه يجب فتح حوار علني مع
شيوخ العلويين والمفكرين من داخل الطائفة، وذلك لمناقشة الأفكار الباطنية والعنصرية
التي تقوم عليها وتغذي بعدها الطائفي في التعامل مع الآخر، وهذا الحوار يجب أن
يكون نقديا وفكريا، ويهدف إلى الإصلاح وليس إلى الإقصاء، كما يجب أن يقترن أيضا بالعمل على تغيير المناهج التعليمية والخطاب
الإعلامي لتعزيز قيم المواطنة الجامعة وتفكيك والقضاء على خطاب الكراهية، وذلك لأن الحل لا يمكن
أن يكون في الانتقام الجماعي أو التمييز العنصري، بل يكمن في محاسبة المجرمين بشكل
فردي وعادل، وتعزيز مبادئ العدالة الانتقالية وقيم التسامح المجتمعي والعيش
المشترك.
ولهذا فإن أولى الخطوات نحو الحل هي
الاعتراف بوجود الطائفية والعلوية السياسية كظاهرة اجتماعية وسياسية، وليس إنكارها
أو التغاضي عنها، وهذا يتطلب شجاعة من جميع الأطراف للاعتراف بالأخطاء التاريخية
والانتهاكات التي حدثت، كما ويتطلب حوارا صريحا حول تاريخ الطوائف ودورها في
الصراعات، وذلك دون تحيز أو إقصاء، والعمل على فهمها وتفكيكها من الداخل لأجل بناء
مستقبل أفضل للجميع، وهذا يتطلب بدوره جهودا مشتركة من جميع الأطراف، سواء على
المستوى المحلي أو الدولي، وذلك لتفكيك خطاب المظلومية التاريخية الذي يغذي
الكراهية بين جميع الطوائف، إضافة إلى تكثيف الجهود التعليمية والتثقيفية والإعلامية
التي تهدف إلى بناء هوية وطنية مشتركة تعترف بالتنوع دون أن تجعله مصدرا للصراع،
مع رفض ومحاربة أي انتهاكات أو تجاوزات، سواء كانت ضد العلويين أو السنة أوغيرهم،
والدعوة إلى محاسبة المجرمين بشكل عادل عبر القضاء، وليس عبر الانتقام الجماعي أو
العنف العشوائي، بحيث يتم تحقيق العدالة الانتقالية عبر محاسبة المجرمين من جميع
الأطراف بشكل عادل، وضمان عدم الإفلات من العقاب، والذي سوف يساعد في كسر دائرة
العنف والانتقام.
هذا ويجب العمل على بناء دولة في
سوريا تقوم على مفهوم المواطنة، حيث تكون الحقوق والواجبات متساوية للجميع بغض
النظر عن الانتماء الطائفي أو العرقي، وهذا يتطلب إصلاحات دستورية وقانونية تضمن
المساواة وتكافؤ الفرص، إضافة إلى أن الفقر والبطالة هي عوامل تغذي الصراعات
الطائفية، ولهذا يجب العمل على رفع الاقتصاد وخلق فرص عمل وتحسين الظروف المعيشية
للجميع، حيث أن العدالة الاجتماعية سوف تقلل من الفجوات الاقتصادية بين الطوائف،
وذلك مع التشجيع الدائم للحوار بين الطوائف والمكونات الاجتماعية المختلفة، وتشجيع مبادرات
التسامح والمصالحة بين الطوائف،
سواء عبر المؤسسات الدينية أو المدنية، وذلك لتعزيز التفاهم المتبادل وتقليل
التوترات وحل الخلافات، كما ويجب العمل على استمرارية كشف ومحاسبة الأفراد والقوى
السياسية التي تستغل الطائفية لتحقيق مصالحها، سواء كانت داخلية أو خارجية، وهذا
يتطلب وعيا مجتمعيا وإعلاميا قويا.
وأخيرا نقول بأن المشكلة الطائفية في
سوريا والمنطقة ليست قدرا محتوما، بل هي نتاج تراكمات تاريخية وسياسية يمكن
معالجتها عبر خطوات جادة تعتمد على الحوار والعدالة والاعتراف بالآخر، كما أن
إنكار الطائفية أو محاولة تجاوزها دون معالجة جذورها لن يؤدي إلا إلى تفاقم
الأزمات، والحل الحقيقي يكمن في بناء مجتمع يعترف بالتنوع ويحترمه، ويعمل على
تحقيق العدالة والمساواة للجميع، والمجتمع الدولي يمكن أن يلعب دورا إيجابيا في
دعم الحلول السلمية، وذلك عبر الدعم المالي وتمويل مشاريع التسامح والمصالحة،
إضافة إلى الضغط السياسي على الأطراف لاحترام حقوق الإنسان ووقف الانتهاكات، وهذه
ليست عملية سهلة أو سريعة، ولكنها ضرورية لضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة، والتي
سوف تعيش وتبني وتحكم هذه البلاد في المستقبل.