الذكاء العاطفي.. تعريفه وأساساته وتطويره
يُكتسب الذكاء
العاطفي من خلال التفاعل مع البيئة المحيطة، حيث يدمج الفرد بين قدراته العقلية
ومشاعره العميقة النابعة من وجدانه، مما يهيئه لفهم عواطفه الذاتية وإدارتها بطرق
إيجابية، واستقبال المشاعر المحيطة به وإدراكها بدقة، والذي بدوره يسهم في التخفيف من
الحالات السلبية كالقلق والتوتر والإحباط، ويؤهله لمراعاة هذه المشاعر عند اتخاذ
القرارات المستنيرة والإجراءات الملائمة، إضافة إلى تعزيز قدرته على التواصل الفعّال مع
الآخرين وتخطي التحديات والصراعات، مما يُسهم في تشكيل شخصيته تدريجيا.
هذا وينبغي أن
تبدأ عملية تنمية الذكاء العاطفي بجدية منذ مرحلة الطفولة المبكرة، ليكون الطفل مُدركا
لمحيطه وقادرا على تجنّب المشكلات والأزمات التي قد تشكّل عوائق في حياته ويصعب
حلّها في المستقبل، وذلك من خلال تدريبه على وعي بالإشارات غير اللفظية كتعبيرات
الوجه ونبرات الصوت ووضعيات الجسد وحركاته، والتي تدل على انفعالات محددة كالغضب أو
الخوف أو ردود الفعل تجاه المشكلات، حيث يستطيع الآباء تعليم أبنائهم هذه التعابير
عن طريق قراءة قصص هادفة مليئة بالأحداث والمشاعر لتكون لهم عبرة راسخة، كما يجب
منح الأطفال فرصة للتعبير عمّا بداخلهم بالكلام والحركات دون فرض سيطرة مفرطة
عليهم، مما يمكنهم مع الوقت من التمييز بين المشاعر الحقيقية والزائفة، ويكسبهم
علما وإدراكا بما يدور حولهم.
كما ويمثل هذا التأسيس السابق للإنسان منذ الطفولة ركيزة أساسية لمعرفة ذاته واكتشافها، مما يمكنه من تحديد
معالم شخصيته وميوله وانطباعاته، فيتعلم كيفية التصرف والتعبير بلغة تتسم
بالاستقلالية والأصالة بعيدا عن التقليد، ولا بدافع إرضاء الآخرين أو الخوف على
مشاعرهم، بل انطلاقا من إدراك واعٍ لطبيعة أفعاله وتأثيرها فيمن حوله؛ ومن خلال هذا التفاعل المجتمعي يكتسب الفرد الحكمة في اختيار الأساليب السلوكية المناسبة، التي
تؤهله لإدارة تعاملاته بقوة وفعالية، وتنمي فيه قدرا عميقا من التعاطف مع مشكلات
الآخرين وأزماتهم، كما تصقل وعيه بالمواقف التي قد تمس مشاعرهم أو تحمل لهم إحساسا
بالإهانة.
هذا وبما أن
الناس يتباينون في شخصياتهم وطبائعهم وأفكارهم، فإنه من الضروري للإنسان أن يلمّ
بإحساسات الآخرين وميولهم ونفورهم، وهو ما يتحول مع تراكم الخبرة إلى فن رفيع في
استكشاف شخصياتهم، مما يمنح المرء ثقة راسخة في التعامل مع شتى الأفراد، والتي سوف تؤدي بدورها إلى كسب مشاعرهم وغرس روح المودة في نسيج العلاقات معهم، فتصبح بذلك علاقته
بالآخرين إيجابية وبناءة، كما وتعزز لديه روح العاطفة الجياشة والتواصل المتزن مع
محيطه العائلي والأسري والاجتماعي.
ولهذا فإن السعي
لتحقيق السعادة والنجاح في الحياة لا ينحصر في الاعتماد على القدرات الفكرية فحسب،
بل يرتبط ارتباطا جوهريا بامتلاك الذكاء العاطفي (EQ) وتطويره، إذ أن تميّز
المرء أكاديميا لا يضمن بالضرورة تفوقه على الصعيد الاجتماعي أو المهني أو الشخصي،
حيث يُلاحظ أن بعض الأفراد ذوي المهارات المعرفية العالية قد يفتقرون إلى الكفاءة
في التعامل مع الآخرين، مما يعيق تقدمهم في مجالات الحياة المختلفة، وذلك دليل
واضح على أن الذكاء الفكري (IQ) وحده لا يكفي لبلوغ النجاح المنشود دون أن يكون مقترنا بالوعي العاطفي
والقدرة على إدارة المشاعر والعلاقات بكفاءة.
وهكذا يُمثّل
الذكاء العاطفي ركيزة أساسية لبناء علاقات إنسانية متينة، ودعامة للنجاح في شتّى
مناحي الحياة، سواء على الصعيد المهني أو الشخصي، كما يمكن من تحقيق الأهداف
بكفاءة أعلى، وهو بعد ذلك يُعِين الفرد على فهم مشاعره الخاصة والتواصل معها بصورة
أفضل، وإدارة المشاعر السلبية كالتوتر والقلق والخوف، والتي إن تُركت دون سيطرة
فإنها سوف تنعكس سلبا على الصحة الجسدية، حيث تُسهم في ارتفاع ضغط الدم، وإضعاف الجهاز
المناعي، وزيادة احتمالية الإصابة بالأزمات القلبية والسكتات الدماغية، بل وقد
تُسرع من عملية الشيخوخة.
هذا ويرتكز
الذكاء العاطفي على أربعة أركان أساسية متكاملة:
- أولها -
الإدارة الذاتية (التحكم بالنفس): وهي التي تمكّن الفرد من ضبط مشاعره وتصرفاته،
والتحكم في سلوكياته الاندفاعية، وتوجيه عواطفه بصورة سليمة، مع المبادرة في الوقت
اللازم والوفاء بالالتزامات المطلوبة، فضلا عن المرونة في التكيف مع المستجدات.
- ثانيها -
الوعي الذاتي (الوعي النفسي): وهو الذي يعني إدراك المشاعر الشخصية وتأثيرها في الفكر
والسلوك، مما يُمكّن المرء من تقييم قدراته، فيعرف مواطن قوته وضعفه، ويعزز بدوره من ثقته بنفسه.
- ثالثها -
الوعي الاجتماعي: وهو القدرة على تفهّم مشاعر الآخرين واحتياجاتهم ومخاوفهم
وهواجسهم، مما يهيئ البيئة المناسبة للتفاعل الاجتماعي المريح ويقي من سوء الفهم الذي قد يفسد
العلاقات في مختلف المجالات.
- رابعها -
إدارة العلاقات: وهي التي تعني مهارة بناء وتنمية الروابط الإيجابية مع الآخرين
والحفاظ عليها، والعمل بفعالية الفريق، وذلك من خلال الإلهام والتأثير الإيجابي،
وحلّ النزاعات وتسوية الخلافات بطريقة بناءة.
وأهمية الذكاء العاطفي تكمن في القدرة على التمييز بين المشاعر الشخصية ومشاعر الآخرين والتحكم فيها،
ويشمل هذا المفهوم ثلاث مهارات أساسية: الأولى هي الوعي العاطفي، أي إدراك المشاعر
وتحديدها وتسميتها بدقة؛ والثانية هي توظيف هذه المشاعر في أداء المهام المختلفة
كالتفكير النقدي وحلّ المشكلات؛ والثالثة هي إدارة المشاعر وتنظيمها عند الضرورة،
سواء لدى الذات أو مساعدة الآخرين على تنظيم مشاعرهم، ونظرا للأثر البالغ للذكاء
العاطفي في شتى مجالات الحياة، فإنه يُصبح من الضروري السعي لتطويره وتعزيزه
باستمرار.
كما ويتحقق
تطوير الذكاء العاطفي من خلال خمس استراتيجيات أساسية:
- أولا - إدارة
المشاعر السلبية عبر استخدامها بشكل مثالي لتحسين جودة الحياة، والتحكم في مستويات
التوتر، وتعزيز التواصل الفعال، وذلك بتجنب الاستنتاجات المتسرعة التي تغذي
المشاعر السلبية، وأخذ وقت كاف للنظر إلى الموقف من زوايا متعددة وتقييمه بموضوعية
وحياد.
- ثانيا -
استخدام مفردات واضحة ودقيقة لوصف المواقف، مما يساعد على تجنب تضخيم المشكلات
ورؤيتها بحجمها الطبيعي، وتوفير الطاقة اللازمة لحلها بدلا من إهدارها في الغضب
والإحباط.
- ثالثا - تطوير
القدرة على التفكير التعاطفي بوضع النفس في مكان الآخرين، مما يمنح رؤية أعمق
لمشاعرهم ومخاوفهم ودوافعهم الخفية، ويقلل من المشاعر السلبية تجاههم، ويسهل
التعامل بذكاء مع اختلافاتهم، مع التأكيد على أن هذا لا يعني قبول السلوكيات
المسيئة أو غير المقبولة.
- رابعا - تحديد
مصادر الضغط الشخصي من خلال مراقبة الذات لمعرفة ما يثير المشاعر السلبية بدقة،
مما يمكن من التعامل معها بفعالية وتحديد الأولويات دون ضغوط غير ضرورية.
- خامسا - تبني
نهج تفاؤلي بدلا من الشكوى، وذلك بفهم أن المشكلات جزء طبيعي من الحياة وليست
نهاية العالم، والتركيز على التعلم من الأخطاء وتطوير المهارات لتجنب تكرارها في
المستقبل.
هذا ويمكن تنمية
الذكاء العاطفي من خلال منهجية شاملة تبدأ بالاستماع الجيد للمشاعر الذاتية
ومراقبة الاستجابات العاطفية للمواقف اليومية، مع إدراك العلاقة الوثيقة بين الأحاسيس
والسلوكيات الجسدية، والامتناع عن إصدار الأحكام المسبقة على المشاعر مع تحليل
أنماطها السابقة، كما يشمل ذلك التدرب على اتخاذ القرارات السلوكية الواعية،
والانفتاح على الآخرين عقليا وعاطفيا، وتطوير مهارات التعاطف وفهم لغة الجسد، مع
الوعي بتأثير الذات على المحيطين، والممارسة المنتظمة للتعبير الصادق عن المشاعر
بموضوعية ووضوح.
وأخيرا يتجلى
الاستخدام العملي للذكاء العاطفي بين الأزواج في تحقيق الوعي الذاتي ووعي كل طرف بالآخر، مما يولد شعورا بالارتياح داخل إطار العلاقة الزوجية، كما وأنه لبناء أسرة ناجحة،
يحتاج كل من الزوج والزوجة إلى تنمية مهارات الذكاء العاطفي، حيث إذا أحس أحدهما
بمشكلة في شريكه، فإن عليه أن يأخذ مسافة مؤقتة للتركيز على فهم مشاعره الخاصة
بدقة، وذلك عبر ممارسة أنشطة هادئة كالمشي أو القراءة أو الرحلات الترفيهية
والاستجمامية، وهذا الوقت ضروري لتخفيف حدة المشاعر السلبية كالغضب أو الخوف أو
القلق، والتي قد تشوّش الرؤية وتؤثر على التقويم والأحكام، وبعد تحقيق هذا الهدوء
النفسي، يصبح بمقدور الشريك تحديد طبيعة مشاعره تجاه الموقف بوضوح أكبر، لتبدأ بعد
ذلك محادثة عقلانية هادئة يعبر فيها كل طرف عن احتياجاته بطريقة حازمة غير
عدوانية، مع الاستماع التام لمتطلبات الطرف الآخر دون مقاطعة، حتى يتم الوصول إلى
حل يُعيد للعلاقة استقرارها وتوازنها في كل مرة تبرز فيها خلافات ومشكلات جديدة.