قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

استثمار كل أشكال القوى للأمة العربية والإسلامية في تحرير فلسطين

استثمار كل أشكال القوى للأمة العربية والإسلامية في تحرير فلسطين

الطريق الصحيح لتحرير أقصى القدس وفلسطين لا يتمثل في محاولة تصنيع هياكل جديدة من العدم، بل في استثمار القوى الطبيعية للأمة العربية والإسلامية والعالمية، حيث وقعت العديد من الدول والحركات العربية والإسلامية في خطأ استراتيجي فادح عندما حاولت مواجهة المشروع اليهودي الصهيوني بجهود فردية أو جماعات محدودة، معادية بذلك القوى السياسية والاجتماعية المؤسسية العالمية القائمة، ومهملة ضرورة اختراق الدول والمؤسسات الفاعلة والتحالف معها، بينما يقدم لنا التاريخ الإسلامي دروسا واضحة في هذا المجال، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقم دعوته على فراغ، بل تحالف مع زعماء مكة والطائف، واعتمد على القبائل ذات النفوذ في بيعة العقبة، وبنى دولته في المدينة على القوى السياسية والاجتماعية القائمة.


ولهذا فإن تحرير فلسطين اليوم يتطلب استثمار القوى السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والعسكرية والاقتصادية الحقيقية للأمة، خاصة في المحيط المجاور (مصر والشام)، وذلك مع الضغط الذكي على الحكومات العربية والإسلامية لاتخاذ مواقف حاسمة، واستغلال التناقضات بين تفاعلات القوى الدولية، فالمعركة ليست معركة شعب واحد، بل مواجهة تحالف صهيوني-غربي يتطلب توحيد الجبهة الداخلية العربية والإسلامية والتحرك بخطة استراتيجية شاملة تعتمد على القوى الخارجية الفاعلة لا فقط على الشعارات الرنانة والجوفاء.


هذا وقد أثبتت بعض النماذج التحررية والمقاومة الناجحة نسبيا أن النجاح يكمن في فهم القوى الطبيعية العالمية والتكيف معها، لا معاداتها أو تجاهلها، وهكذا فإن تحرير فلسطين يحتاج إلى معجزة أكبر من صبر الفلسطينيين ومقاومتهم، وهي تحرك الأمة العربية والإسلامية بأكملها وبكل إمكاناتها ومواردها، وذلك لأن المواجهة غير المتكافئة مع قوى الاستعمار الحديث لن تُحسم إلا باستثمار كل عناصر القوة المتاحة، لا بمحاولة اختراع هياكل موازية من الصفر.


كما ويجب ألا ننسى أن المسيرة التاريخية لبيت المقدس تؤكد أن مصيرها لا يقرر دائما داخلها، بل في العواصم المحيطة بها، خاصة( دمشق والقاهرة)، فهي كالقلب النابض في صدر الأمة، وقوتها أو ضعفها مرهون بقوة الكيان العربي الإسلامي المركزي، ففي عهد الفتوحات، سبق فتح دمشق (14هـ) تحرير القدس (16هـ)، وذلك لأن سقوط العاصمة البيزنطية أضعف المقاومة حول المدينة المقدسة، وعندما تفرق المسلمون في العصر الصليبي بين خلافة بغداد ودولة القاهرة الفاطمية، سقطت القدس (1099م)، ولم تتحرر إلا بعد أن وحّد نور الدين زنكي ثم صلاح الدين الأيوبي مصر والشام (1187م)، بل إن التاريخ يعيد نفسه عندما تنازع الأيوبيون بعد صلاح الدين، وذلك عندما تحالف الملك الكامل المصري مع الصليبيين ضد أخيه المعظم عيسى في الشام، ليسلم القدس للأعداء (1229م)، ولم تعد القدس إلا بوحدة المماليك لمصر والشام (1260م)، وفي العهد العثماني، بقيت القدس تحت الحكم الإسلامي طالما ظلت مصر والشام تحت راية واحدة، وسقطت فقط بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى (1917م) عندما كانت القاهرة تحت الاحتلال البريطاني ودمشق تحت الاحتلال الفرنسي.


وما سبق يثبت أن فلسطين قد تكون وحدها عاجزة عن التحرر الكامل، وذلك لأن الصراع اليوم أصبح عالمي بامتياز، وإسرائيل مدعومة من معظم إذا لم يكن كل القوى العظمى، بينما تفتقر فلسطين للموارد والجيوش النظامية والحلفاء الحقيقين، فالقدس تحتاج إلى جبهة عربية وإسلامية موحدة، خاصة بين مصر والشام، كما أثبت التاريخ أن المعادلة ثابتة "متى اتحدت مصر والشام، تحررت القدس.. ومتى انفصلتا، ضاعت القدس"، ولهذا فإن كل حديث عن تحرير فلسطين والقدس والمسجد الأقصى دون إعادة الوحدة الاستراتيجية بين الدول المحورية (العربية والإسلامية) هو وهم وخداع، وذلك لأن المعركة الحقيقية هي معركة مشروع أمة عربية إسلامية صادق وأمين، وليست معركة دولة أو شعب بمفرده.


ولقد شهد التاريخ العربي والإسلامي الحديث نماذج فاشلة لدول وتنظيمات وجماعات سقطت في مغالطة المواجهة المباشرة بأدوات هزيلة، وخوض معارك التحرير دون امتلاك قاعدة شعبية راسخة أو مؤسسية تدعمها، كما واجهت بعدها صعوبات جمة في الاستمرار والبقاء بسبب افتقارها إلى الارتكاز على القوى الطبيعية الفاعلة في المجتمعات، مما جعلها عاجزة عن تحقيق أي تقدم ملموس على الأرض، حيث أثبتت التجربة أن الحركات التغييرية والتحررية التي تعتمد على هياكل مصطنعة ومنفصلة عن نسيج المجتمع وقواه الحية محكوم عليها بالفشل الذريع، بينما تنجح تلك التي تعمل ضمن القوى والمؤسسات القائمة (داخليا وخارجيا) وتستثمر بكل الإمكانات الطبيعية المتاحة.


هذا وتقدم لنا االتجربة الإسرائيلية الصهيونية الحالية دروسا بالغة الأهمية في فن إدارة المشاريع الكبرى، حيث نجح (تيودور هرتزل) في توظيف القوى الدولية بدلا من مواجهتها، واخترق مراكز القرار بدلا من معاداتها، مستوعبا أن النجاح لا يكون بمجرد الإيمان بالمبدأ بل بفهم موازين القوى، كما أظهرت الحركة الصهيونية براعة فائقة في إدارة خلافاتها الداخلية، حيث تعايش تيار "بن غوريون" العملي مع تيار "شاريت" الدبلوماسي، وتم استيعاب المنظمات المسلحة المتباينة مثل "الهاجاناه" و"الأرجون"، مع الحفاظ على مرونة فكرية وسياسية تسمح بتباين الرؤى حول الشكل الجديد للدولة المزعومة.


وهكذا يقدم المشروع الإسرائيلي الصهيوني درسا في كيفية استثمار القوى القائمة في العالم العربي والإسلامي بدلا من تصنيع قوة جديدة، حيث ركز (تيودور هرتزل) مؤسس الصهيونية السياسية المعاصرة على توظيف القوى الدولية في أوروبا (بريطانيا) واستخدم المنظمة الصهيونية كأداة ضغط وتأثير، وذلك مع توظيف الدوافع الدينية والمصالح الاستعمارية الغربية، مستخدما كل الوسائل من إقناع واختراق وتهديدات وحتى اغتيالات لتحقيق أهدافه، فالتاريخ هنا يعلمنا أن النجاح يكمن في فهم موازين القوى واستثمارها بحكمة، لا في المواجهات المباشرة دون دراسة وافية وإعداد كاف.


أما وفي المقابل يعاني للأسف الواقع العربي والإسلامي من آفتين خطيرتين، الأولى هي محاولة بعض الدول والحركات العربية والإسلامية المقاومة والجهادية تصنيع هياكل موازية بدلا من اختراق المؤسسات والقوى القائمة، والثانية هي ظاهرة جلد الذات والانهزامية النفسية التي تشبه ما عاناه اليهود في فترات اضطهادهم، حيث يظهر التاريخ اليهودي فترات من اليأس العميق والسخرية من الأفكار الدينية مثل انتظار المسيح والعودة إلى فلسطين، بل وصل الأمر إلى التشكيك في القدرات الذاتية لليهود أنفسهم.


ويشكل خطر جلد الذات والانهزامية النفسية تهديدا وجوديا للأمم، وهذه الصورة تتكرر اليوم في الواقع الإسلامي والعربي المعاصر من خلال ظاهرة جلد الذات المفرط، والدعوات المتكررة لتغيير الخطاب الديني استجابة للهزائم، والسخرية من المفاهيم الأساسية كالنصر والتمكين، ورغم أن اليهود استطاعوا تجاوز مرحلة اليأس عندما تهيأت الظروف، وتحولوا من الضعف إلى القوة رغم كل التوقعات، إلا أنه لا يزال المسلمون والعرب اليوم يرزحون تحت وطأة الهزيمة النفسية التي تُعد أخطر من الهزيمة العسكرية، وذلك لأنها تفقد الأمة قدرتها على استغلال الفرص حتى عندما تتاح لها، فلو استسلم اليهود لليأس لما قامت إسرائيل، ولو استسلم المسلمون لليأس في الماضي لما حرروا القدس من قبل، ولن يحرروها في المستقبل إذا استمروا في هذه الحالة النفسية المنهزمة.


الهزيمة النفسية تمثل أخطر أنواع الهزائم، لأنها تحول بين الأمة وبين استعادة قوتها حتى مع توفر الإمكانات المادية، بينما الإرادة القوية والعزيمة الصلبة قادرة على تحويل الهزائم إلى انتصارات، والضعف إلى قوة، كما أثبتت التجربة اليهودية نفسها، وهذا يستدعي من العرب والمسلمين اليوم استلهام العبرة من التاريخ دون الوقوع في فخ اليأس والقنوط، وذلك لأن الأمة التي تفقد الأمل تفقد معها القدرة على البناء والتغيير.


كما وتقدم الخلاصات التاريخية رؤية متكاملة لطبيعة الصراع حول فلسطين، حيث تؤكد أن الحركات التمهيدية - وإن لم تحقق أهدافها كاملة - تلعب دورا حيويا في إبقاء القضية حية وتمهيد الطريق للنجاحات اللاحقة، وذلك كما حدث مع الحركات اليهودية ما قبل الصهيونية، وفي الواقع العربي والإسلامي، نجد أن العديد من الدول والحركات العربية والإسلامية قامت بهذا الدور التاريخي التمهيدي رغم عدم وصولها للهدف النهائي (تحرير الأقصى)، مما يستدعي النظر إليها كحلقات في مسار طويل وليس كفشل مطلق.


وهكذا فإن تحرير فلسطين والقدس يتطلب فهم أن المشاريع الكبرى تحتاج إلى حركات تمهيدية ذكية تعرف كيف تتعامل مع القوى الفاعلة، والعمل على إدارة الخلافات الداخلية بحكمة، إضافة إلى التخلص من آفة جلد الذات التي تعيق أي نهضة، فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم اخترق البنى القائمة في مجتمعه بدلا من معاداتها، وكما أن اليهود تحولوا من الضعف إلى القوة رغم كل الصعوبات، فإن الأمة العربية والإسلامية مدعوة اليوم إلى إعادة اكتشاف قواها الكامنة وتوظيفها بحكمة في معركة المصير هذه.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart