حقوق الإنسان والحريات العامة في جنوب أفريقيا
لقد إستمر حكم الحزب الوطني في جنوب إفريقيا لفترة طويلة بدءا من عام 1948م وإنتهاءا إلى التسعينيات من القرن العشرين الميلادي،حيث سيطر فيها الحزب (الأفريكانيين) على كافة مجالات الحياة،كما وظهرت سياسة الفصل العنصري منذ عام 1950م،وذلك حين ظهر قانون التسجيل
السكاني،الذي يمنح السكان مدارس وجامعات ومناطق سكنية وخدمات عامة لكل مجموعة
سكانية عنصرية.
وقد إشتد الإحتجاج على سياسة
الفصل العنصري منذ نهاية خمسينيات القرن العشرين،حيث طُولب السود بضرورة حمل
بطاقاتهم الشخصية من أجل الحد من تحركاتهم،وفي عام 1960م ظهر شعور ضد سياسة
التمييز وقامت المظاهرات وأطلقت الشرطة الرصاص على المتظاهرين وقتلت حوالي 69 من
السود،كما
قامت الحكومة بحظر نشاط حزب المؤتمر الإفريقي
وظلت الحكومات المتعاقبة في الفترة من عام1960 - 1990م تضرب بيد من حديد على كل
المعارضين لسياسة التمييز العنصري،وفي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين
ألغت الحكومة بعض قوانين التمييز العنصري،كما إعتمدت البلاد دستورًا جديدًا عام
1984م،لكن الدستور الجديد لم يمنح السود أي حقوق سياسية مما أدى إلى أعمال العنف
في مدن السود،ومنذ عام 1986م طبقت دول السوق الأوروبية ودول الكومنولث والولايات
المتحدة حظرًا تجاريًا في بعض السلع على جنوب إفريقيا،وقد كان الهدف من ذلك إجبار
حكومة جنوب إفريقيا على إلغاء سياسة التمييز العنصري.
ولكن بعد تنحي الرئيس بوتا عن
الحكم لمرضه إختير دي كليرك خلفًا له في سبتمبر عام 1989م،وفي ظل حكومة دي كليرك
أسرعت الحكومة نحو الإصلاحات السياسية،فرفعت الحظر عن حزب المؤتمر الإفريقي
وأطلقت سراح بعض السجناء السياسيين ومنهم نيلسون مانديلا،كما بدأت الحكومة الحوار
مع أحزاب المعارضة حول مستقبل البلاد،وفي عام 1991م أعلن دي كليرك عزمه على إلغاء
ما تبقى من قوانين الفصل العنصري،فإنفتحت المدارس لجميع الأجناس وكذلك أنواع
الرياضات المختلفة،كما أعلن دي كليرك عن تكوين حكومة متعددة الأعراق وعن حق جميع
الأعراق في التصويت.
وقد كان الإفراج عن الزعيم الراحل نيلسون مانديلا بتـاريخ 11-2-1990
بـداية مسار معقـد من المفاوضات حول ما يخص السلم المدني والإنتقال الديمقراطي
للحكم بين حكومة البيض وتجمع المؤتمر الوطني،ففي المرحلة الأولى إنصبت المفاوضات على
وضع أسس التفاوض والتدابير المستعجلة،فصدر بيان “الكاب ماي 90″ الذي إتفق
على آليات وإجراءات من أجل الإلتزام المشترك لتبديد مناخ العنف والتهديد أيا كان
مصدرهما،فضلا عن تحقيق الالتزام المشترك وفق عملية تفاوضية سليمة،وقد كان من أهم
الإجراءات الرئيسية التي أتخذت ما يلي.
1-إنشاء فريق عمل عهد إليه بإعداد تعريف بالجرائم السياسية
في الحالة الخاصة بجنوب إفريقيا،وذلك على قاعدة الإفادة من القواعد والآليات اللازمة
لموضوع الإفراج عن المعتقلين السياسيين ومنح الحصانة فيما يتعلق بالجرائم السياسية
لمن يتواجدون داخل جنوب إفريقيا وخارجها.
2-قيام الحكومة بإتخاذ الإجراءات لمنح الحصانة المؤقتة للقيادة وأعضاء في المؤتمر الوطني،وذلك بهدف تمكينهم من العودة للمساهمة في تنفيذ إلتزامات بيان الكاب.
2-قيام الحكومة بإتخاذ الإجراءات لمنح الحصانة المؤقتة للقيادة وأعضاء في المؤتمر الوطني،وذلك بهدف تمكينهم من العودة للمساهمة في تنفيذ إلتزامات بيان الكاب.
وعلى ضوء تقرير أعد بخصوص تعريف الجرائم السياسية،أبرم الطرفان إتفاقا ثانيا في 1990م عرف “بمذكرة بريتوريا” والتي وضعت بموجبها خطة للإفراج عن السجناء المتصلين بالمؤتمر الوطني وبعدم إجراء محاكمات مباشرة بعد حصول هذا الاتفاق،وتتويجا لإجراءات هذه المرحلة الأولى،صدر في نوفنبر 1990 بالجريدة الرسمية إعلان حكومي بواسطة وزارة العدل أقر المبادئ التوجيهية لتعريف الجرائم ومنح المعتقلين والمنفيين المتورطين في النزاعات المسلحة العفو والإعفاء من المقاضاة والحصانة المؤقتة،وقد تمكن هذا الإعلان والذي صاغ بدقة المصالح المتوازنة للطرفين من إضفاء الشرعية على المبادئ التوجيهية لإتفاق الكاب ماي 1990م ومذكرة بريتوريا 1990م،وذلك بدراسة كل حالة على حدة،وحسب الباعث السياسي للجرم والسياق الذي إقترف فيه وطبيعة الهدف السياسي وطابعه القانوني ومستوى فداحته وهدفه والعلاقة بين الفعل والهدف السياسي المراد تحقيقه،وفيما إذا كان قد إقترف تنفيذا لأمر أو بموافقة المنظمة أو المؤسسة أو الهيئة المعينة،ولقد شكلت هذه الإجراءات مدخلا مهما لرفع حالات الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين والمختفين قسريا،وفي فتح أجواء إستعادة الأمن والشروع في المفاوضات حول الدستور الإنتقالي وتسريع وثيرة إلتحاق باقي الأطراف والأحزاب السياسية بعملية “المصالحة الوطنية” التي ستنتظم كقـوى سياسية إلى جانب حـزب المؤتمر الـوطني في المجلس التنفيذي الإنتقالي ومجلس التفاوض المتعدد.
وفي سياق هذا الوضع وعلى خلفيته طرحت بصفة متداخلة ثلاثة قضايا بالغة التعقيد،هي البحث في الإنتهاكات وتعويض الضحايا وإعادة تأهيلهم والعفو العام،وذلك طبعا في إطار قضية واحدة هي “المصالحة الوطنية” ولدعم هذا المسار كمسار سياسي بالدرجة الأولى أصّل الدستور الانتقالي لسنة 1993م لمبدأ “المصالحة” ذاته بتأكيده على أن “الوحدة الوطنية” والرفاهية لجميع سكان جنوب إفريقيا يفترضان “المصالحة” بينهم جميعا،وذلك رغم الجدل الحاد الذي أثير حول تضمن الدستور العفو عن مرتكبي الإنتهاكات،كما كان يلّح على ذلك كل من الحكومة والجيش،إلا أنه وفي الأخير إتفق الأطراف على أن العفو يمنح عن الأفعال والجرائم المرتبطة بأهداف سياسية خلال النزاع الماضي،وقد وصف القس ديسموند توتو هذه المرحلة بقوله (إلى حدود 1994م كنا نعيش فوق صفيح ساخن وعلى حافة الهاوية).
لكن بمجرد إنتخاب مانديلا رئيسا بتاريخ 27-4-1994م دخلت جنوب إفريقيا مسارا أكثر جدية،فقد كان من بين القرارات الأولى التي إتخذها نيلسون مانديلا بعد إنتخابه من طرف الجمعية الوطنية المنتخبة بدورها ديمقراطيا،تشكيله للجنة الحقيقة والمصالحة ودعوة الجميع إلى التعاون معها،وقد ترأس هذه اللجنة القس ديسموند توتو بالإضافة إلى17 عضـوا،روعيت فيهم التمثيلية الإقليمية والسياسية والدينية،وقد توزع أعضاء هذه اللجنة على ثلاث لجان رئيسية هي:
1-لجنة إنتهاكات حقوق الإنسان: وهي مسؤولة عن جميع تصريحات الضحايا
والشهود،وتدوين الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
2-لجنة العفو: وهي تتلقى وتنظر في طلبات العفو
3-لجنة جبر الضرر وإعادة الإدماج: وهي التي كلفت بوضع توصيات بشأن برنامج
الإصلاح،وتستند اللجنة في عملها على التأصيل الدستوري لمفهوم “المصالحة”،حيث إستهدفت
في عملها إيجاد توازن دقيق بين متطلبات العدل والمسؤولية والسلام المدني
والمصالحة”،إلا أنها إستبعدت خيار “نورنبورغ” الذي أحدث غدات الحرب العالمية لمحاكمة مجرمي النازية،إذ أنه في جنوب إفريقيا لا أحد من المعسكرين كان في موقع فرض
سياسة المنتصرين،لأن لا أحد منهما إنتصر إنتصارا حاسما يسمح له بذلك،وفيما يتعلق
بما إذا كانت اللجنة جهازا قضائيا أو شبه قضائي،فإن رئيسها يقيم عملها قائلا: (إن
اللجنة وسيلة أكثر فعالية من المحكمة للوصول إلى الحقيقة،ما دام أن المعنيين كانوا
مطالبين بالإدلاء بإعترافات كاملة من أجل الحصول على العفو)،وهكذا إنقلبت العملية
القضائية وأصبح على المتهمين أن يثقلوا كاهلهم بالوقائع وهم مستعدون للبوح بكل
شيء،أما بخصوص إشكالية “العفو على الجناة” وفيما إذا سيكون عفوا
عاما وفرديا،فقد إرتأت اللجنة أن يمنح العفو بشكل فردي مقابل إعترافات كاملة ذات
علاقة بالإنتهاكات الخطيرة المرتبكة،وبالفعل منحت الهيئة سلطة العفو للأفراد عن
الجرائم المرتكبة ما بين السنة التي شهدت مجزرة “:شاربفيل” (بداية الستينات) وسنة
تولي الرئيس مانديلا 1994م،وقد تلقت الهيئة أكثر من 7000 طلب،لكن العفو شمل فقط
الذين تعاونوا مع الهيئة بالكشف عن معلومات،لكن بالنسبة للإنتهاكات الجسيمة كان
لابد أن يستمع للمعني في جلسة علنية للإجابة عن أسئلة الهيئة أو الممثل القانوني
للضحايا أو عائلاتهم أو الضحايا أنفسهم،كما أخذت لجنة العفو مجموعة من العوامل
بعين الاعتبار في إصدار العفو منها العلاقة بين الفعل أو الجرم والهدف السياسي
المرجو تحقيقه،وإذا ما كان الفعل أو الجرم المرتكب متناسبا مع الهدف،وبتعبير أدق
أن تكون الأفعال التي يطلب بسببها العفو ذات دوافع سياسية ومورست من طرف حركات
معترف بها رسميا،ثم تم تحديد أجل تقديم طلبات العفو في سنة وذلك قبل الفترة التي أريد
للهيئة أن تنهي عملها خلالها،ومن أجل الضغط على مرتكبي الإنتهاكات لطلب العفو،قامت الهيئة ببعض الجلسات للتقصي والبحث حفاظا على سرية الأسماء وتفاصيل الجرائم.
وأخيرا وبعد أن أجريت لأول
مرة إنتخابات حرة في شهر مايو 1994م إشترك فيها البيض والسود،وفاز فيها نيلسون
مانديلا ليصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا والتي ظلت خاضعة للفصل العنصري لمدة
ثلاثة قرون،وقد شكل مانديلا حكومة ضمت أعضاء من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي
والحزب الوطني وحزب أنكاثا،وبعد إقرار الدستور الجديد إنسحب الحزب الوطني من
حكومة الوحدة الوطنية وأصبح الحزب المعارض الرئيسي في جنوب إفريقيا،وفي عام 1996م أقرت جنوب إفريقيا دستورًا جديدًا،وقد تضمنت فصوله كثيرًا من مواد حقوق الإنسان
والحريات العامة،ومن هذه الحقوق: حرية التعبير وحرية الصحافة وحرية الممارسة
السياسية وغيرها من الحريات،كما كفل الدستور مساواة كاملة في الإسكان والتعليم
والرعاية الصحية وغيرها،كما تخلى نيلسون مانديلا عن زعامة حزب المؤتمر الوطني
الإفريقي،وأفسح المجال لنائبه تايو مبيكي ليصبح رئيسًا للحزب.