قصة سيدنا يوسف عليه السلام
سيدنا يوسف كان له أحد عشر أخا كما كان أبوه يحبه كثيرا،وفي ليلة رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين،فقص على والده ما رأى،فقال له والده (يعقوب) ألا يقص ذلك على إخوته،إلا أن الشيطان وسوس لإخوته فإتفقوا على أن يلقوه في غيابات الجب (البئر) وإدعوا أن الذئب أكله،ثم مر به ناس من البدو فأخذوه وباعوه بثمن بخس،فإشتراه عزيز مصر وطلب من زوجته أن ترعاه،ولكنها أخذت تراوده عن نفسه فأبى فكادت له ودخل السجن،ثم أظهر الله براءته وخرج من السجن،وبعد ذلك إستعمله الملك على شؤون الغذاء في مصر والتي أحسن إدارتها في سنوات القحط،وأخيرا إجتمع شمله مع إخوته ووالديه وخروا له سجدا وتحققت رؤياه.
لكن قبل أن نبدأ بقصة يوسف عليه السلام،نود الإشارة لعدة أمور،أولها إختلاف طريقة رواية قصة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم عن بقية قصص الأنبياء،حيث جاءت قصص الأنبياء في عدة سور بينما جاءت قصة يوسف كاملة في سورة واحدة،حيث قال تعالى في سورة (يوسف): {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} ولقد إختلف العلماء لما سميت هذه القصة أحسن القصص ؟ فقيل لأنها تنفرد من بين قصص القرآن بإحتوائها على عالم كامل من العبر والحكم،كما وقيل لأن يوسف تجاوز عن إخوته وصبر عليهم وعفا عنهم،وقيل أيضا لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والعفة والغواية وسير الملوك والممالك والرجال والنساء وحيل النساء ومكرهن،كما وفيها ذكر التوحيد والفقه وتعبير الرؤيا وتفسيرها،فهي سورة غنية بالمشاهد والإنفعالات،وأخيرا قيل إنها سميت أحسن القصص لأن مآل من كانوا فيها جميعا كان إلى السعادة.
ومع هذه الأسباب كلها،يعتقد أن ثمة سببا مهما يميز هذه القصة،وهي إنها تمضي في خط واحد منذ البداية إلى النهاية،ويلتحم مضمونها وشكلها،بحيث يفضي بنا لإحساس عميق بقهر الله وغلبته ونفاذ أحكامه بنعومة وإعجاز رغم وقوف البشر ضدها،حيث قال تعالى: {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} وهذا ما تثبته قصة سيدنا يوسف بشكل حاسم.
وتبدأ القصة بأن ذهب يوسف الصبي الصغير في يوم من الأيام لأبيه،وحكى له عن رؤيا رآها،حيث أخبره بأنه رأى في المنام أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين له،فإستمع الأب إلى رؤيا إبنه وحذره من أن يحكيها لأخوته،حيث أدرك يعقوب -عليه السلام- بحدسه وبصيرته أن وراء هذه الرؤية شأنا عظيما لهذا الغلام،لذلك نصحه بأن لا يقص رؤياه على إخوته خشية أن يستشعروا ما وراءها لأخيهم الصغير (غير الشقيق)،ومن هذه الثغرة سوف يجد الشيطان طريقه لنفوسهم ليملئها بالحقد،فيدبروا له أمرا يسوؤه،فإستجاب يوسف لتحذير أبيه،ولم يحدث أخوته بما رأى،وأغلب الظن أنهم كانوا يكرهونه إلى الحد الذي يصعب فيه أن يطمئن إليهم ويحكي لهم دخائله الخاصة وأحلامه.
وتبدأ القصة بأن ذهب يوسف الصبي الصغير في يوم من الأيام لأبيه،وحكى له عن رؤيا رآها،حيث أخبره بأنه رأى في المنام أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين له،فإستمع الأب إلى رؤيا إبنه وحذره من أن يحكيها لأخوته،حيث أدرك يعقوب -عليه السلام- بحدسه وبصيرته أن وراء هذه الرؤية شأنا عظيما لهذا الغلام،لذلك نصحه بأن لا يقص رؤياه على إخوته خشية أن يستشعروا ما وراءها لأخيهم الصغير (غير الشقيق)،ومن هذه الثغرة سوف يجد الشيطان طريقه لنفوسهم ليملئها بالحقد،فيدبروا له أمرا يسوؤه،فإستجاب يوسف لتحذير أبيه،ولم يحدث أخوته بما رأى،وأغلب الظن أنهم كانوا يكرهونه إلى الحد الذي يصعب فيه أن يطمئن إليهم ويحكي لهم دخائله الخاصة وأحلامه.
وهكذا إجتمع إخوة يوسف في أحد الأيام يتحدثون في أمره،حيث يقول تعالى: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي نحن مجموعة قوية تدفع وتنفع،وأبونا مخطئ في تفضيل هذين الصبيين على مجموعة من الرجال النافعين،فإقترح أحدهم حلا للموضوع،حيث يقول تعالى: {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} وهنا يظهر الحقد وتدخل الشيطان الذي ضخم حب أبيهم ليوسف وإيثاره عليهم،حتى جعله يختار القتل وهي أكبر جرائم الأرض قاطبة بعد الشرك بالله،وكان طرحه في أرض بعيدة نائية مرادف للقتل،لأنه سيموت هناك لا محالة،وهذا كله حتى لا يراه أبوه فينساه ويوجه حبه كله لهم،ومن ثم يتوبون عن جريمتهم،حيث قال تعالى: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِين}.
أما بعد ذلك فقد قال قائل منهم حرّك الله أعماقه بشفقة خفية أو أثار الله في أعماقه رعبا من القتل: ما الداعي لقتله ؟ فإن كنتم تريدون الخلاص منه،فلنلقه في بئر تمّر عليها القوافل،بحيث ستلتقطه قافلة وترحل به بعيدا،وبذلك سيختفي عن وجه أبيه ويتحقق غرضنا من إبعاده،وهكذا إنهزمت فكرة القتل وإختيرت فكرة النفي والإبعاد،ونفهم من هذا أن الأخوة رغم شرهم وحسدهم،كان في قلوبهم أو في قلوب بعضهم بعض خير لم يمت بعد.
أما بعد ذلك فقد قال قائل منهم حرّك الله أعماقه بشفقة خفية أو أثار الله في أعماقه رعبا من القتل: ما الداعي لقتله ؟ فإن كنتم تريدون الخلاص منه،فلنلقه في بئر تمّر عليها القوافل،بحيث ستلتقطه قافلة وترحل به بعيدا،وبذلك سيختفي عن وجه أبيه ويتحقق غرضنا من إبعاده،وهكذا إنهزمت فكرة القتل وإختيرت فكرة النفي والإبعاد،ونفهم من هذا أن الأخوة رغم شرهم وحسدهم،كان في قلوبهم أو في قلوب بعضهم بعض خير لم يمت بعد.
وهنا توجه الأبناء لأبيهم يطلبون منه السماح ليوسف بمرافقتهم،فدار الحوار بينهم وبين أبيهم بنعومة وعتاب خفي وإثارة للمشاعر،حيث قال تعالى :{مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} أي أيمكن أن يكون يوسف أخانا وأنت تخاف عليه من بيننا ولا تستأمننا عليه ونحن نحبه وننصح له ونرعاه ؟ فلماذا لا ترسله معنا يرتع ويلعب ؟ وردا على العتاب الإستنكاري الأول،جعل يعقوب عليه السلام ينفي بطريقة غير مباشرة أنه لا يأمنهم عليه،ويعلل إحتجازه معه بقلة صبره على فراقه وخوفه عليه من الذئاب،حيث يقول تعالى :{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} وهنا فندوا فكرة الذئب الذي يخاف أبوه أن يأكله،وقالوا: نحن عشرة من الرجال،فهل نغفل عنه ونحن كثرة ؟ كما وسوف نكون خاسرين غير أهل للرجولة لو وقع ذلك،فلن يأكله الذئب ولا داعي للخوف عليه،فوافق الأب تحت ضغط أبنائه،ليتحقق قدر الله وتتم القصة كما تقتضي مشيئته.
وخرج الأخوة ومعهم يوسف،فأخذوه للصحراء وإختاروا بئرا لا ينقطع عنها مرور القوافل وحملوه وهموا بإلقائه في البئر،فأوحى الله إلى يوسف أنه ناج فلا يخاف وأنه سيلقاهم بعد يومهم هذا وينبئهم بما فعلوه،وعند العشاء جاء الأبناء باكين ليحكوا لأبيهم قصة الذئب المزعومة،فأخبروه بأنهم ذهبوا يستبقون،فجاء ذئب على غفلة وأكل يوسف،ونلاحظ هنا أنه قد ألهاهم الحقد الفائر عن سبك الكذبة،فلو كانوا أهدأ أعصابا ما فعلوها من المرة الأولى التي يأذن لهم فيها يعقوب بإصطحاب يوسف معهم،ولكنهم كانوا معجلين لا يصبرون،ويخشون ألا تواتيهم الفرصة مرة أخرى،كذلك كان إلتقاطهم لحكاية الذئب دليلا على التسرع،فقد كان أبوهم يحذرهم منها أمس وهم ينفونها،فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم أبوهم منه أمس،وإستمر هذا التسرع،حيث جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان،ونسوا في إنفعالهم أن يمزقوا قميص يوسف،فجاءوا بالقميص كما هو سليما ولكن ملطخا بالدم،وإنتهى كلامهم بدليل قوي على كذبهم،حيث قال تعالى: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} أي وما أنت بمطمئن لما نقوله ولو كان هو الصدق،لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقوله.
وهنا أدرك يعقوب من دلائل الحال ومن نداء قلبه ومن الأكذوبة الواضحة،أن يوسف لم يأكله الذئب وأنهم دبروا له مكيدة ما وأنهم يلفقون له قصة لم تقع،فواجههم بأن نفوسهم قد حسنت لهم أمرا منكرا وذللته ويسرت لهم إرتكابه،وأنه سيصبر متحملا متجملا لا يجزع ولا يفزع ولا يشكو،مستعينا بالله على ما يلفقونه من حيل وأكاذيب،حيث قال تعالى :{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
وأثناء وجود يوسف بالبئر،مرّت عليه قافلة في طريقها إلى مصر،وقد كانت قافلة كبيرة حيث سارت طويلا حتى سميت سيارة،وتوقفت للتزود بالماء حيث أرسلوا أحدهم للبئر فأدلى الدلو فيه،فتعلق يوسف به وظن من دلاه أنه إمتلأ بالماء فسحبه،حيث رأى غلاما متعلقا بالدلو،وسرى هنا على يوسف حكم الأشياء المفقودة التي يلتقطها أي أحد،فصار عبدا لمن إلتقطه،فهكذا كان قانون ذلك الزمان البعيد،وقد فرح به من وجده في البداية،ثم زهد فيه حين فكر في همه ومسئوليته لأنه وجده صبيا صغيرا،وعزم على التخلص منه لدى وصوله إلى مصر،ولم يكد يصل إلى مصر حتى باعه في سوق الرقيق بثمن زهيد (دراهم معدودة)،حيث إشتراه هناك رجل تبدو عليه الأهمية.
وبعد ذلك يكشف الله تعالى مضمون القصة البعيد،حيث قال تعالى: {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} فلقد إنطبقت جدران العبودية على يوسف،فألقي في البئر وأهين وحرم من أبيه ثم ألتقط من البئر وصار عبدا يباع في الأسواق،فإشتراه رجل من مصر وصار مملوكا لهذا الرجل،فإنطبقت المأساة وصار يوسف بلا حول ولا قوة (هكذا يظن أي إنسان) غير أن الحقيقة شيء يختلف عن الظن تماما،فما نتصوره نحن أنه مأساة ومحنة وفتنة،كان هو أول سلم يصعده يوسف في طريقه إلى مجده وينفذ به تدبير الله له رغم تدبير الآخرين.
وها هو ذا يلقي محبته على صاحبه الذي إشتراه،وها هو ذا السيد يقول لزوجته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا،وليس هذا السيد رجلا هين الشأن،إنما هو رجل مهم،رجل من الطبقة الحاكمة في مصر،فهو وزير من وزراء الملك،ووزير مهم فقد سماه القرآن (العزيز)،وكان قدماء المصريين يطلقون الصفات كأسماء على الوزراء،فهذا العزيز وهذا العادل وهذا القوي إلى آخره،وأرجح الآراء أن هذا العزيز هو رئيس وزراء مصر.
وها هو ذا يلقي محبته على صاحبه الذي إشتراه،وها هو ذا السيد يقول لزوجته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا،وليس هذا السيد رجلا هين الشأن،إنما هو رجل مهم،رجل من الطبقة الحاكمة في مصر،فهو وزير من وزراء الملك،ووزير مهم فقد سماه القرآن (العزيز)،وكان قدماء المصريين يطلقون الصفات كأسماء على الوزراء،فهذا العزيز وهذا العادل وهذا القوي إلى آخره،وأرجح الآراء أن هذا العزيز هو رئيس وزراء مصر.
وهكذا مكّن الله ليوسف في الأرض،فسيتربى كصبي في بيت رجل يحكم،وسيعلمه الله من تأويل الأحاديث والرؤى،كما وسيحتاج إليه الملك في مصر يوما ما،حيث قال تعالى :{وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} وقد تم هذا كله من خلال فتنة قاسية تعرض لها يوسف،ثم يبين لنا المولى عز وجل كرمه على يوسف،حيث يقول الله تعالى :{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فقد كان يوسف أجمل رجل في عصره،حيث كان نقاء أعماقه وصفاء سريرته يضفيان على وجهه مزيدا من الجمال،كما وأوتي صحة الحكم على الأمور وعلما بالحياة وأحوالها وأسلوبا في الحوار يخضع قلب من يستمع إليه،بالإضافة إلى أنه أوتي نبلا وعفة،جعلاه شخصية إنسانية لا تقاوم،وهنا أدرك سيده أن الله قد أكرمه بإرسال يوسف إليه،فقد إكتشف أن يوسف أكثر من رأى في حياته أمانة وإستقامة وشهامة وكرما،فجعله سيده مسؤولا عن بيته وأكرمه وعامله كابنه.
وهنا تأتي المحنة الثانية وهي أشد وأعمق من المحنة الأولى،حيث جاءته وقد أوتي صحة الحكم والعلم،ليواجهها وينجو منها جزاء إحسانه الذي سجله الله له في قرآنه،ويقول الله تعالى في هذه المحنة في كتابه الكريم: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ،وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} ولا يذكر السياق القرآني شيئا عن سنها وسنه،ولكن تصرف المرأة في الحادثة وما بعدها يشير إلى أنها مكتملة وجريئة.
والقصة تقول (وَرَاوَدَتْهُ) صراحة (عَن نَّفْسِهِ) وأغلقت (الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي لن تفر مني هذه المرة،وهذا يعني أنه كانت هناك مرات سابقة فرّ فيها منها،مرات سابقة لم تكن الدعوة فيها بهذه الصراحة وهذا التعري،ويبدوا أن إمرأة العزيز سئمت تجاهل يوسف لتلميحاتها المستمرة وإبائه،فقررت أن تغير خطتها،فخرجت من التلميح إلى التصريح وأغلقت الأبواب ومزقت أقنعة الحياء وصرّحت بحبها وطالبته بنفسه،ثم يتجاوز السياق القرآني عن الحوار الذي دار بين إمرأة العزيز ويوسف عليه السلام،ولنا أن نتصور كيف حاولت إغراءه إما بلباسها أو كلماتها أو حركاتها،لكن ما يهمنا هنا هو موقف يوسف عليه السلام من هذا الإغواء،حيث يقول تعالى :{قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي أعيذ نفسي بالله أن أفعل هذا مع زوجة من أكرمني بأن نجاني من الجب وجعل في هذه الدار مثواي الطيب الآمن،كما ولا يفلح الظالمون الذين يتجاوزون حدود الله،ويرتكبون ما تدعينني اللحظة إليه،ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} وقد إتفق المفسرون حول همها بالمعصية،وإختلفوا حول همه،فمنهم من أخذ بالإسرائيليات وذكر أن يعقوب ظهر له أو جبريل نزل إليه،لكن التلفيق والإختلاق ظاهر في هذه الروايات الإسرائيلية،ومنهم من قال إنها همت به تقصد المعصية وهمّ بها يقصد المعصية ولم يفعل،وأخرون قالوا إنها همت به لتقبله وهمّ بها ليضربها،وأخيرا هناك من قال إن هذا الهّم كان بينهما قبل الحادث،أي كانت حركة نفسية داخل نفس يوسف في السن التي إجتاز فيها فترة المراهقة،ثم صرفه الله عنه.
ولكن من أفضل التفاسير،قال أبو حاتم كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة،فلما أتيت على قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير،بمعنى ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها،ويستقيم هذا التفسير مع عصمة الأنبياء،كما يستقيم مع روح الآيات التي تلحقه مباشرة،حيث يقول تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} وهذه الآية تثبت أن يوسف من عباد الله المخلصين،كما وتقطع في نفس الوقت بنجاته من سلطان الشيطان،حيث قال تعالى لإبليس يوم الخلق: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وما دام يوسف من عباده المخلصين،فقد وضح الأمر بالنسبة إليه،ولكن هذا لا يعني أن يوسف كان يخلو من مشاعر الرجولة،ولا يعني هذا أيضا أنه كان في نقاء الملائكة،إنما يعني أنه تعرض لإغراء طويل،قاومه ولم تمل نفسه يوما،ثم أسكنها تقواها كونه مطلعا على برهان ربه،وعارفا أنه يوسف بن يعقوب النبي إبن إسحاق النبي إبن إبراهيم جد الأنبياء وخليل الرحمن.
ويبدو أن يوسف -عليه السلام- آثر الإنصراف متجها إلى الباب حتى لا يتطور الأمر أكثر،لكن إمرأة العزيز لحقت به لتمسكه،تدفهعا الشهوة لذلك،فأمسكت قميصه من الخلف،فتمزق في يدها،وهنا تقع المفاجأة،حيث فتح الباب زوجها -العزيز-،وهنا تتبدى المرأة المكتملة،فتجد الجواب حاضرا على السؤال البديهي الذي يطرحه الموقف،حيث قال تعالى: {قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهنا إقترحت هذه المراة العاشقة سريعا العقاب المأمون والواجب تنفيذه على يوسف،خشية أن يفتك به العزيز من شدة غضبه،فبيّنت للعزيز أن أفضل عقاب له هو السجن،وبعد هذا الإتهام الباطل والحكم السريع،جهر يوسف بالحقيقة ليدافع عن نفسه وقَالَ: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي،وتجاوز هنا السياق القرآني رد الزوج،لكنه بين كيفية تبرأة يوسف -عليه السلام- من هذه التهمة الباطلة،حيث قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ،وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ،فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} ولا نعلم إن كان هذا الشاهد مرافقا للزوج منذ البداية،أم أن العزيز إستدعاه بعد الحادثة ليأخذ برأيه،كما وقد أشارت بعض الروايات أن هذا الشاهد رجل كبير.
ويذكر القرآن أن الشاهد أمرهم بالنظر للقميص،فإن كان ممزقا من الأمام فذلك من أثر مدافعتها له وهو يريد الإعتداء عليها فهي صادقة وهو كاذب،وإن كان قميصه ممزقا من الخلف فهو إذن من أثر تملصه منها وتعقبها هي له حتى الباب،فهي كاذبة وهو صادق،حيث قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} وهنا تأكد الزوج من خيانة زوجته عندما رأى قميص يوسف ممزق من الخلف،لكن الدم لم يثر في عروقه ولم يصرخ ولم يغضب،حيث فرضت عليه قيم الطبقة الراقية التي وقع فيها الحادث أن يواجه الموقف بلباقة وتلطف،وهكذا نسب ما فعلته زوجته إلى كيد النساء،وصرّح بأن كيد النساء عموما عظيم،وقد سيق الأمر هنا كما لو كان ثناء يساق،فهو دلالة على أن زوجته أنثى كاملة مستوفية لمقدرة الأنثى على الكيد،وبعدها إلتفت الزوج إلى يوسف،حيث قال تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا} أي أهمل هذا الموضوع ولا تعره إهتماما ولا تتحدث به،وهذا هو المهم أي المحافظة على المظاهر،ثم يوجه عظة مختصرة للمرأة التي ضبطت متلبسة بمراودة فتاها عن نفسها وتمزيق قميصه،حيث يقول الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}.
وهكذا إنتهت الحادثة لكن الفتنة لم تنته،حيث لم يفصل سيد البيت بين المرأة وفتاها،وكل ما طلبه هو إغلاق الحديث في هذا الموضوع،غير أن هذا الموضوع بالذات وهذا الأمر يصعب تحقيقه في قصر يمتلئ بالخدم والخادمات والمستشارين والوصيفات،وهكذا بدأ الموضوع ينتشر وخرج من القصر إلى قصور الطبقة الراقية يومها،كما ووجدت فيه نساء هذه الطبقة مادة شهية للحديث،حيث إنّ خلو حياة هذه الطبقات من المعنى وإنصرافها إلى اللهو،يخلعان أهمية قصوى على الفضائح التي ترتبط بشخصيات شهيرة،حيث قال تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} وهنا إنتقل الخبر من فم إلى فم ومن بيت إلى بيت حتى وصل لامرأة العزيز،حيث قال تعالى: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ،قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ} وعندما سمعت إمرأة العزيز بما تتناقله نساء الطبقة العليا عنها،قررت أن تعد مأدبة كبيرة في القصر،كما وأعدت الوسائد حتى يتكئ عليها المدعوات،وإختارت من كل ألوان الطعام والشراب،وأمرت أن توضع السكاكين الحادة إلى جوار الطعام المقدم،ووجهت الدعوة لكل من تحدثت عنها،وبينما هنّ منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة،فاجأتهن بيوسف،حيث قال تعالى: {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أي بهتن لطلعته ودهشن،ثم قال تعالى: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي جرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة،وبعدها قال تعالى: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ} وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة بصنع الله،ثم يقول تعالى: {مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} ويتضح من هذه التعبيرات أن شيئا من ديانات التوحيد تسربت لأهل ذلك الزمان.
وهنا رأت إمرأة العزيز أنها إنتصرت على نساء طبقتها،وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهشة والإعجاب والذهول،فقالت قولة المرأة المنتصرة التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها والتي تفتخر عليهن بأن هذا في متناول يدها،وإن كان قد إستعصم في المرة الأولى فهي ستحاول المرة تلو الأخرى إلى أن يلين،فقالت أنظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهشة والإعجاب،فلقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه لكنه إستعصم،وإن لم يطعني سآمر بسجنه لأذلّه،وهي هنا لم ترى بأسا من الجهر بنزواتها الأنثوية وأن الإغراء الجديد سوف يكون تحت التهديد،أما نساء طبقتها فقلن ذلك بكل إصرار وتبجح،بحيث إندفع النسوة كلهن إليه يراودنه عن نفسه (كل منهن أرادته لنفسها) ويدلنا على ذلك أمران،الدليل الأول هو قول يوسف عليه السلام،حيث قال تعالى: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} فلم يقل ما تدعوني إليه،والأمر الآخر هو سؤال الملك لهم فيما بعد،حيث قال تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ}.
وأمام هذه الدعوات - سواء كانت بالقول أم بالحركات واللفتات- إستنجد يوسف بربه ليصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن،خيفة أن يضعف في لحظة أمام الإغراء الدائم،فيقع فيما يخشاه على نفسه،فدعى يوسف الله دعاء الإنسان العارف ببشريته والذي لا يغتر بعصمته ويريد مزيدا من عناية الله وحياطته،وأن يعاونه على ما يعترضه من فتنة وكيد وإغراء،حيث قال تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} وهنا إستجاب له الله وصرف عنه كيد النسوة،وهذا الصرف قد يكون بإدخال اليأس في نفوسهن من إستجابته لهن بعد هذه التجربة أو بزيادة إنصرافه عن الإغراء حتى لا يحس في نفسه أثرا منه أو بهما جميعا،وهكذا إجتاز يوسف المحنة الثانية بلطف الله ورعايته،فهو الذي سمع الكيد ويسمع الدعاء،ويعلم ما وراء الكيد وما وراء الدعاء.
وما إن إنتهت المحنة الثانية حتى بدأت الثالثة،لكن هذه الثالثة هي آخر محن الشدة،وهي سجن يوسف عليه السلام،وربما كان دخوله للسجن هو سبب إنتشار قصته مع إمرأة العزيز ونساء طبقتها،حيث لم يجد أصحاب هذه البيوت طريقة لإسكات هذه الألسنة سوى سجن هذا الفتى الذي دلت كل الدلائل على برائته،حتى تنسى هذه القصة مع مرور الوقت،حيث قال تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} وهكذا ترسم هذه الآية الموجزة جو ذلك العصر بأكمله وهو جو الفساد الداخلي في القصور وجو الأوساط الأرستقراطية وجو الحكم المطلق،حيث إن حلول المشكلات في الحكم المطلق هي السجن،وهذا ليس بغريب على من يعبد آلهة متعددة،فقد كانوا على عبادة غير الله،ولقد رأينا من قبل كيف تضيع حريات الناس حين ينصرفون عن عبادة الله إلى عبادة غيره.
وها نحن نرى في قصة يوسف شاهدا حيا على أن البلاء يصيب حتى الأنبياء،حيث صدر قرارا بإعتقاله وأدخاله السجن،بلا قضية ولا محاكمة وببساطة ويسر،وهكذا دخل يوسف السجن ثابت القلب هادئ الأعصاب أقرب إلى الفرح،لأنه نجا من إلحاح زوجة العزيز ورفيقاتها،وثرثرة وتطفلات الخدم،فكان السجن بالنسبة إليه مكانا هادئا يخلو فيه ويفكر في ربه،ويختصر السياق القرآني ما كان من أمر يوسف في السجن،ولكن الواضح أن يوسف -عليه السلام- إنتهز فرصة وجوده في السجن،ليقوم بالدعوة إلى الله،مما جعل السجناء يتوسمون فيه الطيبة والصلاح وإحسان العبادة والذكر والسلوك.
وهكذا إعتنم سيدنا يوسف -عليه السلام- هذه الفرصة في السجن ليحدث الناس عن رحمة الخالق وعظمته وحبه لمخلوقاته،بحيث كان يسأل الناس أيهما أفضل،أن ينهزم العقل ويعبد أربابا متفرقين أم ينتصر العقل ويعبد رب الكون العظيم،كما وكان يقيم عليهم الحجة بتساؤلاته الهادئة وحواره الذكي وصفاء ذهنه ونقاء دعوته،وفي أحد الأيام قَدم له سجينان يسألانه تفسير أحلامهما،وذلك بعد أن توسما في وجهه الخير،فكان أول ما قام به يوسف -عليه السلام- هو طمأنتهما أنه سيؤول لهم الرؤى،لأن ربه علمه علما خاصا،جزاءا على تجرده هو وآباؤه من قبله لعبادته وحده وتخلصه من عبادة الشركاء،وبذلك كسب ثقتهما منذ اللحظة الأولى بقدرته على تأويل رؤياهما،كما كسب ثقتهما كذلك لدينه،ثم بدأ بدعوتهما إلى التوحيد وتبيان ما هم عليه من الضلال،وقد قام بكل هذا برفق ولطف ليدخل إلى النفوس بلا مقاومة،وبعد ذلك فسر لهما الرؤى على أن أحدها سيصلب والآخر سينجو ويعمل في قصر الملك،لكنه لم يحدد من هو صاحب البشرى ومن هو صاحب المصير السيئ،وذلك تلطفا وتحرجا من المواجهة بالشر والسوء.
وتروي بعض التفاسير أن هؤولاء الرجلين كانا يعملان في القصر،أحدهما طباخا والآخر يسقي الناس،وقد إتهما بمحاولة تسميم الملك،فأوصى يوسف من سينجو منهما أن يذكر حاله عند الملك،لكن الرجل الناجي لم ينفذ الوصية،فلربما ألهته حياة القصر المزدحمة عن يوسف وأمره،وهكذا لبث يوسف في السجن بضع سنين أخرى،حيث أراد الله بهذا أن يعلم يوسف -عليه السلام- درسا،فقد ورد في إحدى الرويات أنه جاء جبريل إلى يوسف وقال: يا يوسف من نجّاك من إخوتك ؟ قال: الله،قال: من أنقذك من الجب ؟ قال: الله،قال: من حررك بعد أن صرت عبدا ؟ قال: الله،قال: من عصمك من النساء ؟ قال: الله،قال: فعلام تطلب النجاة من غيره ؟ وهنا قد يكون هذا الأمر زيادة في كرم الله على يوسف وإصطفاءه له،حيث لم يجعل قضاء حاجته على يد عبد ولا بسبب يرتبط بعبد.
وتروي بعض التفاسير أن هؤولاء الرجلين كانا يعملان في القصر،أحدهما طباخا والآخر يسقي الناس،وقد إتهما بمحاولة تسميم الملك،فأوصى يوسف من سينجو منهما أن يذكر حاله عند الملك،لكن الرجل الناجي لم ينفذ الوصية،فلربما ألهته حياة القصر المزدحمة عن يوسف وأمره،وهكذا لبث يوسف في السجن بضع سنين أخرى،حيث أراد الله بهذا أن يعلم يوسف -عليه السلام- درسا،فقد ورد في إحدى الرويات أنه جاء جبريل إلى يوسف وقال: يا يوسف من نجّاك من إخوتك ؟ قال: الله،قال: من أنقذك من الجب ؟ قال: الله،قال: من حررك بعد أن صرت عبدا ؟ قال: الله،قال: من عصمك من النساء ؟ قال: الله،قال: فعلام تطلب النجاة من غيره ؟ وهنا قد يكون هذا الأمر زيادة في كرم الله على يوسف وإصطفاءه له،حيث لم يجعل قضاء حاجته على يد عبد ولا بسبب يرتبط بعبد.
ومن هنا تبدأ نقطة التحول،أي التحول من محن الشدة إلى محن الرخاء ومن محنة العبودية والرق لمحنة السلطة والملك،ففي قصر الحكم وفي مجلس الملك،كان يحكي الملك لحاشيته رؤياه طالبا منهم تفسيرا لها،حيث قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} إلاّ أن المستشارين والكهنة لم يقوموا بالتفسير،ربما لأنهم لم يعرفوا تفسيرها أو لأنهم أحسوا أنها رؤيا سوء،فخشوا أن يفسروها للملك،وأرادوا أن يأتي التفسير من خارج الحاشية التي تعودت على قول كل ما يسر الملك فقط،كما وعللوا عدم التفسير هذا بأن قالوا للملك أنها أجزاء من أحلام مختلطة ببعضها البعض،وليست رؤيا كاملة يمكن تأويلها.
وهنا وصل الخبر إلى الساقي الذي نجا من السجن،فتداعت أفكاره حيث ذكرّه حلم الملك بحلمه الذي رآه في السجن والذي فسره له يوسف،فأسرع إلى الملك وحدثه عن يوسف وقال له: إن يوسف هو الوحيد الذي يستطيع تفسير رؤياك،فأرسل الملك ساقيه إلى السجن ليسأل يوسف،وهنا يبين لنا الحق سبحانه كيف نقل الساقي رؤيا الملك ليوسف بتعبيرات الملك نفسها،لأنه هنا بصدد تفسير حلم،وهو يريد أن يكون التفسير مطابقا تماما لما رءاه الملك،وقد كان الساقي يسمي يوسف بالصديق،أي الصادق الكثير الصدق،لأن هذا ما جربه من شأنه من قبل.
وهكذا جاء الوقت وإحتاج الملك إلى رأي يوسف،حيث يقول تعالى: {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} فسئل يوسف عن تفسير حلم الملك،ويلاحظ هنا أن سيدنا يوسف لم يشترط خروجه من السجن مقابل تفسيره،كما ولم يساوم ولم يتردد ولم يقل شيئا غير تفسير الرؤيا،هكذا ببراءة النبي حين يلجأ إليه الناس فيغيثهم وإن كان هؤولاء أنفسهم سجانيه وجلاديه،كما لم يقم يوسف عليه السلام بالتفسير المباشر المجرد للرؤيا،وإنما قدم مع التفسير النصح وطريقة مواجهة المصاعب التي ستمر بها مصر،بحيث أفهم يوسف رسول الملك أن مصر ستمر عليها سبع سنوات مخصبة تجود فيها الأرض بالغلات،وعلى المصريين ألا يسرفوا في هذه السنوات السبع،لأن وراءها سبع سنوات مجدبة ستأكل ما يخزنه المصريون،وأفضل خزن للغلال أن تترك في سنابلها كي لا تفسد أو يصيبها السوس أو يؤثر عليها الجو،وبهذا إنتهى حلم الملك،إلا أن يوسف زاد تأويله لحلم الملك بالحديث عن عام لم يحلم به الملك،عام من الرخاء يغاث فيه الناس بالزرع والماء،وتنمو كرومهم فيعصرون خمرا وينمو سمسمهم وزيتونهم فيعصرون زيتا،وقد كان هذا العام لا يقابله رمز في حلم الملك،حيث كان علما خاصا أتاه الله ليوسف،فبشر به الساقي ليبشر به الملك والناس.
وهنا عاد الساقي إلى الملك وأخبره بما قال يوسف،فدهش الملك دهشة شديدة،وقال من هذا السجين الذي يتنبأ لهم بما سيقع ويوجههم لعلاجه دون أن ينتظر أجرا أو جزاء أو يشترط خروجا أو مكافأة،فأصدر الملك أمره بإخراج يوسف من السجن وإحضاره فورا إليه،فذهب رسول الملك إلى السجن،ولا نعرف إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة أم أنه شخصية رفيعة مكلفة بهذه الشؤون،حيث ذهب إليه في سجنه ورجا منه أن يخرج للقاء الملك فهو يطلبه على عجل،ولكن يوسف رفض أن يخرج من السجن إلاّ إذا ثبتت براءته،فلقد رباه ربه وأدبه،كما وسكبت هذه التربية وهذا الأدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة،بحيث يظهر هنا أثر التربية واضحا في الفارق بين الموقفين،الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى إذكرني عند ربك،والموقف الذي يقول فيه إرجع إلى ربك فإسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيدهن،فالفارق بين الموقفين كبير.
وقد تجاوز السياق القرآني عما حدث بين الملك ورسوله وعن ردة فعل الملك،ليقف بنا أمام المحاكمة وسؤال الملك لنساء الطبقة العليا عما فعلنه مع يوسف،ويبدوا أن الملك سأل عن القصة ليكون على بينة من الظروف قبل أن يبدأ التحقيق،لذلك جاء سؤاله دقيقا للنساء،بحيث إعترفت النساء بالحقيقة التي يصعب إنكارها،حيث قال تعالى: {قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} وبعدها تتقدم المرأة المحبة ليوسف والتي يئست منه،ولكنها لا تستطيع أن تتخلص من تعلقها به،لتقول كل شيء بصراحة،ويصور السياق القرآني لنا إعتراف إمرأة العزيز بألفاظ موحية،تشي بما وراءها من إنفعالات ومشاعر عميقة،حيث يقول تعالى: {أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} وهي شهادة كاملة بإثمها هي وبراءته ونظافته وصدقه هو،كما أنها شهادة لا يدفع إليها خوف أو خشية أو أي إعتبار آخر،حيث يشي السياق القرآني بحافز أعمق من هذا كله،وهو حرصها على أن يحترمها الرجل الذي أهان كبريائها الأنثوي،ولم يعبأ بفتنتها الجسدية،وذلك في محاولة يائسة منها لتصحيح صورتها في ذهنه،فهي لا تريده أن يستمر على تعاليه وإحتقاره لها كخاطئة بل تريد أن تصحح فكرته عنها،حيث يقول الله تعالى : {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} كما أني لست بهذا السوء الذي يتصوره عني،ثم تمضي في هذه المحاولة والعودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف ويقدرها،حيث يقول الله تعالى: {وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} وأخيرا تمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة،حيث يقول الله تعالى: {وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وإن تأمل هذه الآيات يوحي بأن إمرأة العزيز قد تحولت إلى دين يوسف أي تحولت إلى التوحيد،حيث إن سجن يوسف كان نقلة هائلة في حياتها،فآمنت بربه وإعتنقت ديانته،وهنا يصدر الأمر الملكي بالإفراج عن يوسف وإحضاره،ويهمل السياق القرآني بعد ذلك قصة إمرأة العزيز تماما،ويسقطها من المشاهد،فلا نعرف ماذا كان من أمرها بعد شهادتها الجريئة التي أعلنت فيها ضمنا إيمانها بدين يوسف.
وقد لعبت الأساطير دورها في قصة هذه المرأة،فقيل إن زوجها مات وتزوجت من يوسف بعد ذلك،حيث إكتشف أنها عذراء،وإعترفت له أن زوجها كان شيخا لا يقرب النساء،وقيل أيضا إن بصرها ضاع بسبب إستمرارها في البكاء على يوسف،فخرجت من قصرها وتاهت في طرقات المدينة،فلما صار يوسف كبيرا للوزراء ومضى موكبه يوما،هتفت به إمرأة ضريرة تتكفف الناس،سبحان من جعل الملوك عبيدا بالمعصية وجعل العبيد ملوكا بالطاعة،فسأل يوسف: صوت من هذا ؟ قيل له: إمرأة العزيز،إنحدر حالها بعد عز،فإستدعاها يوسف وسألها: هل تجدين في نفسك من حبك لي شيئا ؟ قالت: نظرة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا يا يوسف،كما قالت: ناولني نهاية سوطك،فناولها فوضعته على صدرها،فوجد السوط يهتز في يده إضطرابا وإرتعاشا من خفقان قلبها،كما وقيلت أساطير أخرى يبدو فيها أثر المخيلة الشعبية وهي تنسج قمة الدراما بإنهيار العاشقة إلى الحضيض،غير أن السياق القرآني تجاوز تماما نهاية المرأة وأغفلها من سياق القصة بعد أن شهدت ليوسف،وهذا يخدم الغرض الديني في القصة،فالقصة أساسا قصة يوسف وليست قصة المرأة،وهذا أيضا يخدم الغرض الفني،فلقد ظهرت المرأة ثم إختفت في الوقت المناسب،بحيث إختفت في قمة مأساتها كما وشاب إختفاءها غموض فني معجز،ولربما بقيت في الذاكرة بإختفائها هذا زمنا أطول مما كانت تقضيه لو عرفنا بقية قصتها.
وبعدما رأى الملك أمر يوسف هذا كله،من حيث براءته وعلمه،وعدم تهافته على الملك،عرف أنه أمام رجل كريم،فلم يطلبه ليشكره أو يثني عليه،وإنما طلبه ليكون مستشاره،وعندما جلس معه وكلمه،تحقق له صدق ما توسمه فيه،فطمئنه على أنه ذو مكانه وفي أمان عنده،فما كان من يوسف،أنه لم يغرق الملك شكرا ولم يقل له عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين،كما يفعل المتملقون للطواغيت،كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة.
كما وأورد القرطبي في تفسيره،أن الملك قال فيما قاله: لو جمعت أهل مصر ما أطاقوا هذا الأمر،ولم يكونوا فيه أمناء،فكان الملك يقصد الطبقة الحاكمة وما حولها من طبقات،حيث إن العثور على الأمانة في الطبقة المترفة شديد الصعوبة،وإعتراف الملك ليوسف بهذه الحقيقة زاد من عزمه على تولي هذا الامر،لأنقاذ مصر وما حولها من البلاد من هذه المجاعة،حيث قال تعالى: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ولم يكن يوسف في كلمته هذه يقصد النفع أو الإستفادة،بل على العكس من ذلك،فقد كان يحمل أمانة إطعام شعوب جائعة لمدة سبع سنوات،شعوب يمكن أن تمزق حكامها لو جاعت،فكان الموضوع في حقيقته تضحية من يوسف،كما لا يثبت السياق القرآني أن الملك وافق،فكأنما يقول القرآن الكريم إن الطلب تضمن الموافقة،وهذا زيادة في تكريم يوسف وإظهار مكانته عند الملك،ويكفي أن يقول ليجاب،بل ليكون قوله هو الجواب،ومن ثم يحذف رد الملك،ويفهمنا شريط الصور المعروضة أن يوسف قد صار في المكان الذي إقترحه،وهكذا مكّن الله ليوسف في الأرض،وصار مسؤولا عن خزائن مصر وإقتصادها،فصار كبيرا للوزراء،ولا ينبئنا السياق القرآني كيف تصرف يوسف في مصر،فقط نعرف أنه حكيم عليم وأمين وصادق،وهكذا لم يكن هناك أي خوف على إقتصاد مصر.
ودارت عجلة
الزمن،وطوى السياق دورتها ومر مرورا سريعا على سنوات الرخاء،وجاءت سنوات
المجاعة،وهنا يغفل السياق القرآني عن ذكر الملك والوزراء في باقي السورة كلها،إلاّ
أنه أبرز يوسف وحده على مسرح الحوادث وسلط عليه كل الأضواء،وكأن الأمر كله قد
صار ليوسف،الذي إضطلع بالعبء في هذه الأزمة الخانقة الرهيبة،أما فعل الجدب
والمجاعة فقد أبرزه السياق في مشهد إخوة يوسف،حيث كانوا يجيئون من البدو في أرض
كنعان البعيدة يبحثون عن الطعام في مصر،ومن ذلك ندرك إتساع دائرة المجاعة،كما وكيف
صارت مصر بتدبير يوسف محط أنظار جيرانها ومخزن الطعام في المنطقة كلها.
فلقد إجتاح
الجدب والمجاعة أرض كنعان وما حولها،فإتجه إخوة يوسف - فيمن يتجهون - إلى مصر،حيث
تسامع الناس بما فيها من فائض الغلة منذ السنوات السمان،فدخلوا على عزيز مصر وهم
لا يعلمون أن أخاهم هو العزيز،لكنه عرفهم فهم لم يتغيروا كثيرا،كما أن خيالهم لا
يتصور قط أنه العزيز وأن الغلام العبراني الصغير الذي ألقوه في الجب منذ عشرين
عاما أو تزيد،هو عزيز مصر المتوج في سنه وزيه وحرسه ومهابته وخدمه وحشمه وهيله
وهيلمانه،كما ولم يكشف لهم يوسف عن نفسه،حيث يقول تعالى: {فَدَخَلُواْ
عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} ولكنا ندرك من السياق أنه أنزلهم
منزلا طيبا،ثم أخذ في إعداد الدرس الأول،حيث يقول تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُم
بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ} ونفهم من هذا أنه
تركهم يأنسون إليه وإستدرجهم حتى ذكروا له من هم على وجه التفصيل،وأن لهم أخا
صغيرا من أبيهم لم يحضر معهم لأن أباه يحبه ولا يطيق فراقه،فلما جهزهم بحاجات
الرحلة قال لهم: إنه يريد أن يرى أخاهم هذا،حيث يقول تعالى: {قَالَ ائْتُونِي
بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ} وأنكم قد رأيتم أنني أوفي الكيل
للمشترين وأكرم النزلاء،كما أنني سأوفيكم نصيبكم كاملا حين يجيء معكم،فلا خوف
عليه بل سيلقى مني الإكرام المعهود،حيث يقول تعالى: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي
الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}.
ولما كانوا
(إخوة يوسف) يعلمون كيف يظن أبوهم بأخيهم الأصغر،وبخاصة بعد ذهاب يوسف،فقد أظهروا
أن الأمر ليس ميسورا وإنما في طريقه عقبات من ممانعة أبيهم،ولكنهم سيحاولون إقناعه
على الرغم من كل هذه العقبات،كما أنهم سيحضرون أخاهم الصغير معهم حين يعودون،حيث
يقول تعالى: {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} ولفظ
(نراود) يصور الجهد الذي يعلمون أنهم باذلوه،أما يوسف فقد أمر غلمانه أن يدسوا
البضاعة التي حضر بها إخوته ليستبدلوا بها القمح والعلف،وقد تكون خليطا من نقد ومن
غلات الشجر الصحراوي ومن الجلود وسواها مما كان يستخدم في التبادل في الأسواق،حيث أمر
غلمانه بدسها في رحالهم (والرحل متاع المسافر) لعلهم يعرفون حين يرجعون أنها هي
نفس بضاعتهم التي جاءوا بها.
وهكذا رجع
الأخوة إلى أبيهم،وقبل أن ينزلوا أحمال الجمال ويفكوا متاعهم،دخلوا على أبيهم
قائلين له بعتاب: إن لم ترسل معنا أخانا الصغير في المرة القادمة فلن يعطينا عزيز
مصر الطعام،كما وختموا كلامهم هذا بوعد جديد ليعقوب عليه السلام،حيث قال تعالى:
{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ويبدوا أن هذا الوعد قد أثار كوامن يعقوب،فهو ذاته
وعدهم له في يوسف،وها هو يجهر بما أثاره الوعد من شجونه،حيث قال تعالى : {قَالَ
هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ
فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وهنا فتح الأبناء
أوعيتهم ليخرجوا ما فيها من غلال،فإذا هم يجدون فيها بضاعتهم التي ذهبوا يشترون
بها مردودة إليهم مع الغلال والطعام،ورد الثمن هنا يشير إلى عدم الرغبة في البيع
أو هو إنذار بذلك،فأسرع الأبناء إلى أبيهم،حيث قال تعالى: {قَالُواْ يَا أَبَانَا
مَا نَبْغِي} أي لم نكذب عليك،فلقد رد إلينا الثمن الذي ذهبنا نشتري به،وهذا معناه
أنهم لن يبيعوا لنا إلا إذا ذهب أخونا معنا.
وإستمر حوارهم مع
الأب،بحيث أفهموه أن حبه لإبنه وإلتصاقه به يفسدان مصالحهم ويؤثران على
إقتصادهم،كما أنهم سوف يحفظون أخاهم أشد الحفظ وأعظمه،على أنهم أيضا يريدون
أن يتزودوا أكثر،و،وهنا إنتهى الحوار بإستسلام الأب لهم،بشرط أن يعاهدوه على
العودة بإبنه،إلا إذا خرج الأمر من أيديهم وأحيط بهم،كما ونصحهم الأب على ألا
يدخلوا وهم أحد عشر رجلا من باب واحد من أبواب مصر،كي لا يستلفتوا إنتباه
أحد،وربما خشي عليهم أبوهم شيئا كالسرقة أو الحسد،ولا يقول لنا السياق القرآني
ماذا كان الأب يخشى،ولو كان الكشف عن السبب مهما لقيل.
وهكذا عاد إخوة
يوسف الأحد عشر هذه المرة إلى مصر،حيث قال تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى
يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ
بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ويقفز السياق هنا قفزا إلى مشهد يوسف وهو يحتضن أخاه
ويكشف له وحده سر قرابته،ولا ريب أن هذا لم يحدث فور دخول الإخوة على يوسف وإلاّ
لإنكشفت لهم قرابة يوسف،إنما وقع هذا في خفاء وتلطف ولم يشعر إخوته به،غير أن
السياق المعجز يقفز إلى أول خاطر ساور يوسف عند دخولهم عليه ورؤيته لأخيه،وهكذا
يجعله القرآن أول عمل،لأنه أول خاطر،وهذه من دقائق التعبير في هذا الكتاب العظيم.
ويطوي السياق
كذلك فترة الضيافة وما دار فيها بين يوسف وإخوته،ولكنه يعرض مشهد الرحيل
الأخير،فها هو ذا يوسف يدبر شيئا لإخوته بحيث يريد أن يحتفظ بأخيه الصغير معه،كما
أنه يعلم أن إحتفاظه بأخيه سيثير أحزان أبيه،وربما حركت هذه الأحزان الجديدة
أحزانه القديمة وذكرته بفقد يوسف،ويعلم يوسف هذا كله،فها هو يرى أخاه وليس هناك
دافع قاهر لإحتفاظه به،فلماذا يفعل ما فعل ويحتفظ بأخيه هكذا،لكن السياق القرآني
يكشف عن السر في ذلك،وهو أن يوسف يتصرف بوحي من الله،حيث يريد الله تعالى أن يصل
بإبتلائه ليعقوب إلى الذروة،حتى إذا جاوز به منطقة الألم البشري المحتمل وغير
المحتمل ورآه صابرا،رد عليه إبنيه معا ورد إليه بصره.
فأمر يوسف -عليه
السلام- رجاله أن يخفوا كأس الملك الذهبية في متاع أخيه خلسة،وكانت هذه الكأس
تستخدم كمكيال للغلال،كما وكانت لها قيمتها كمعيار في الوزن إلى جوار قيمتها كذهب
خالص،وهكذا أخفي الكأس في متاع أخيه،وتهيأ إخوة يوسف للرحيل ومعهم أخوهم،إلاّ أن
أبواب العاصمة أغلقت وكانت صرخة الجند تعني وقوف القوافل جميعا،حيث قال
تعالى:{ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}
وإنطلق الإتهام فوق رؤوس الجميع كقضاء خفي غامض،فأقبل الناس وأقبل معهم إخوة يوسف
متسائلين عما حدث،فقال الجنود: لقد ضاعت الكأس الذهبية،ولمن يجيء بها مكافأة حمل
بعير من الغلال،فقال إخوة يوسف ببراءة: لم نأت لنفسد في الأرض ونسرق،فقال الحراس
(وكان يوسف قد وجههم لما يقولونه): أي جزاء تحبون توقيعه على السارق،قال إخوة
يوسف: في شريعتنا نعتبر من سرق يصبح عبدا لمن سرقه،فقال الحارس: سنطبق عليكم
قانونكم الخاص،ولن نطبق عليكم القانون المصري والذي يقضي بسجن السارق،وقد كانت هذه
الإجابة كيدا وتدبيرا من الله تعالى،حيث ألهم يوسف أن يحدث بها ضباطه،ولولا هذا
التدبير الإلهي لإمتنع على يوسف أن يأخذ أخاه،فقد كان دين الملك أو قانونه لا يقضي
بإسترقاق من سرق،وقد كان هذا الحوار على منظر ومسمع من يوسف.
وهكذا أمر يوسف جنوده بالبدء بتفتيش رحال أخوته أولا
قبل تفتيش رحل أخيه الصغير،وذلك كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش،وهنا إطمأن
إخوة يوسف إلى براءتهم من السرقة وتنفسوا الصعداء،بحيث لم يبقى إلا أخوهم
الصغير،وهنا تم إستخراج الكأس من رحله،فأمر يوسف بأخذ أخيه عبدا (وهو قانونهم الذي
طبقه القضاء على الحادث) وقد أعقب ذلك مشهد عنيف المشاعر،حيث إن إحساس الإخوة براحة
الإنقاذ والنجاة من التهمة،جعلهم يستديرون باللوم على شقيق يوسف،حيث قال تعالى:
{قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} فها هم يتنصلون من
تهمة السرقة ويلقونها على هذا الفرع من أبناء يعقوب،وعندما سمع يوسف بأذنيه
إتهامهم له،أحس بحزن عميق،لكنه كتم أحزانه في نفسه ولم يظهر مشاعره،حيث قال تعالى
: {أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} ولم يكن هذا سبابا
لهم،بقدر ما كان تقريرا حكيما لقاعدة من قواعد الأمانة،حيث أراد أن يقول بينه وبين
نفسه: إنكم بهذا القذف شر مكانا عند الله من المقذوف،لأنكم تقذفون بريئين بتهمة
السرقة،والله أعلم بحقيقة ما تقولون.
وسقط الصمت بعد
تعليق الإخوة الأخير،ثم إنمحى إحساسهم بالنجاة وتذكروا يعقوب،فلقد أخذ عليهم عهدا
غليظا،بأن ألا يفرطوا في إبنه،وهنا بدءوا بإسترحام يوسف بقولهم: يوسف أيها العزيز
ويوسف أيها الملك،حيث قال تعالى: {إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ
أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}
وهنا رد يوسف بهدوء: كيف تريدون أن نترك من وجدنا كأس الملك عنده،ونأخذ بدلا
منه أنسانا آخر،فهذا ظلم ونحن لا نظلم،وكانت هذه هي الكلمة الأخيرة في الموقف،حيث
عرفوا أن لا جدوى بعدها من الرجاء،فإنسحبوا يفكرون في موقفهم المحرج أمام أبيهم
حين يرجعون.
وعقد الأخوة
مجلسا يتشاورون فيه،لكن السياق القرآني لا يذكر أقوالهم جميعا،إنما يثبت آخرها
والذي يكشف عما إنتهوا إليه،حيث ذكر القرآن قول كبيرهم إذ ذكّرهم بالموثق المأخوذ
عليهم،كما ذكرهم بتفريطهم في يوسف من قبل،ثم يبين قراره الجازم بألا يبرح مصر وألا
يواجه أباه،إلا أن يأذن أبوه أو يقضي الله له بحكم،فيخضع له وينصاع،كما وطلب منهم
أن يرجعوا إلى أبيهم فيخبروه صراحة بأن إبنه سرق،فَاُخِذَ بما سرق،وأن ذلك هو ما
علموه وشهدوا به،أما إن كان بريئا وكان هناك أمر وراء هذا الظاهر لا يعلمونه،فهم
غير موكلين بالغيب،وإن كان في شك من قولهم،فليسأل أهل القرية التي كانوا فيها -أي
أهل مصر- وليسأل أيضا القافلة التي كانوا فيها،فهم لم يكونوا وحدهم.
وهكذا فعل الأبناء ما
أمرهم به أخوهم الكبير،وحكوا ليعقوب -عليه السلام- ما حدث،فإستمع يعقوب إليهم بحزن
صابر وعين دامعة،حيث قال تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } وهي كلمته ذاتها يوم فقد يوسف،لكنه في هذه المرة يضيف
إليها الأمل أن يرد الله عليه يوسف وأخاه،وهذا الشعاع الذي في قلب هذا الرجل
الشيخ،ما هو إلا الرجاء في الله والإتصال الوثيق به والشعور بوجوده ورحمته،فهو
مؤمن بأن الله يعلم حاله ويعلم ما وراء هذه الأحداث والإمتحانات،كما أنه يأتي بكل
أمر في وقته المناسب،وذلك عندما تتحق حكمته في ترتيب الأسباب والنتائج،حيث قال
تعالى: {َتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ
عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} وهي صورة مؤثرة للوالد المفجوع،الذي يحس
أنه منفرد بهمه ووحيد بمصابه،ولا تشاركه هذه القلوب التي حوله ولا تجاوبه،فينفرد
في معزل،يندب فجيعته في ولده الحبيب يوسف الذي لم ينسه ولم تهوّن من مصيبته
السنون،والذي تذكره به نكبته الجديدة في أخيه الأصغر،فتغلبه على صبره
الجميل،فأسلمه البكاء الطويل إلى فقد بصره أو ما يشبه فقد بصره،فصارت أمام عينيه
غشاوة بسبب البكاء لا يمكن أن يرى بسببها،ومعنى الكظيم هنا هو الحزين الذي لا يظهر
حزنه،ولم يكن يعقوب -عليه السلام- يبكي أمام أحد،بل كان بكاؤه شكوى إلى الله لا
يعلمها إلا الله.
وبعد أن لاحظ
أبناؤه أنه لم يعد يبصر ورجحوا أنه يبكي على يوسف،هاجموه في مشاعره الإنسانية
كأب،وحذروه بأنه سيهلك نفسه،حيث قال تعالى: {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ
يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ،قَالَ إِنَّمَا
أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
فردهم هنا جواب يعقوب إلى حقيقة بكائه وأنه يشكو همه إلى الله،وأنه يعلم من الله
ما لا يعلمون،فليتركوه في بكائه وليصرفوا همهم لشيء أجدى عليهم،حيث قال تعالى:
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ
مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ
الْكَافِرُونَ} وهنا يكشف لهم في عمق أحزانه عن أمله في روح الله،وإنه يشعر بأن
يوسف لم يمت كما أنبئوه،وليذهبوا بحثا عنه وليكن دليلهم في البحث هذا الأمل العميق
في الله.
وهكذا تحركت
القافلة في طريقها إلى مصر،وإخوة يوسف في طريقهم إلى العزيز،حيث تدهور حالهم
الإقتصادي وحالهم النفسي،إذ إن فقرهم وحزن أبيهم ومحاصرة المتاعب لهم،قد هدّت
قواهم تماما،فها هم يدخلون على يوسف ومعهم بضاعة رديئة،كما جاءوا بثمن لا يتيح لهم
شراء أي شيء ذي بال،وعندما دخلوا على يوسف - عليه السلام- رجوه أن يتصدق عليهم،حيث
قال تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ
مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا
الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} وهكذا
إنتهى الأمر بهم إلى التسول،فها هم يسألونه أن يتصدق عليهم ويستميلون قلبه،بتذكيره
أن الله يجزي المتصدقين،عندئذ ووسط هوانهم وإنحدار حالهم،حدّثهم يوسف بلغتهم وبغير
واسطة ولا مترجم،حيث قال تعالى : {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ
وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ،قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ
أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ
وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ،قَالُواْ تَاللّهِ
لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} ويكاد الحوار هنا
يتحرك بأدق تعبير عن مشاعرهم الداخلية،حيث فاجأهم عزيز مصر بسؤالهم عما فعلوه
بيوسف كما كان يتحدث بلغتهم،فأدركوا أنه يوسف،وراح الحوار يمضي ويكشف لهم خطيئتهم
معه،فلقد كادوا له وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ،بحيث مرّت السنوات وذهب كيدهم
له،ونفذ تدبير الله المحكم الذي يقع بأعجب الأسباب،فقد كان إلقاؤه في البئر هو
بداية صعوده إلى السلطة والحكم،كما وكان إبعادهم له عن أبيه سببا في زيادة حب
يعقوب له،وها هو ذا يملك رقابهم وحياتهم وهم يقفون في موقف إستجداء عطفه،ويختمون
حوارهم معه،حيث قال تعالى: {قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا
وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} وهنا فإن روح الكلمات وإعترافهم بالخطأ يشيان بخوف
مبهم غامض يجتاح نفوسهم،ولعلهم فكروا في إنتقامه منهم فإرتعدت فرائصهم،إلاّ أن يوسف
أحس ذلك منهم فطمأنهم،حيث قال تعالى: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ
يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أي لا مؤاخذة ولا لوم
عليهم،فإنتهى الأمر من نفسه وذابت جذوره،كما ولم يقل لهم إنني أسامحكم أو أغفر
لكم،إنما دعا الله لهم،وهذا يتضمن أنه عفا عنهم وتجاوز عفوه،ومضى بعد ذلك خطوات
ودعا الله أن يغفر لهم،وهو نبي ودعوته مستجابة،وهذا آية من آيات التسامح،وها هو ذا
يوسف ينهي حواره معهم بنقلة مفاجئة لأبيه،حيث يعلم أن أباه قد إبيضت عيناه من
الحزن عليه،ويعلم أنه لم يعد يبصر،فخلع يوسف قميصه وأعطاه لهم،حيث قال تعالى: {اذْهَبُواْ
بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي
بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} .
وما إن خرجت
القافلة من مصر،حتى قال يعقوب -عليه السلام- لمن حوله في فلسطين: إني أشم رائحة
يوسف،ولولا أنكم تقولون في أنفسكم أنني شيخ خرِف لصدقتم ما أقول،لكن المفاجأة
البعيدة تقع،ووصلت القافلة،وألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب -عليه السلام-
فإرتدّ بصره،وهنا يذكر يعقوب حقيقة ما يعلمه من ربه،حيث قال تعالى: {قَالَ أَلَمْ
أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فإعترف الأخوة بخطئهم،وطلبوا
من أباهم الإستغفار لهم،فهو نبي ودعاءه مستجاب،إلا أن يعقوب عليه السلام ردّ،حيث
قال تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ} ونلمح هنا أن في قلب يعقوب شيئا من بنيه،وأنه لم يصف لهم بعد،وإن كان
يعدهم بإستغفار الله لهم بعد أن يصفو ويسكن ويستريح.
وهكذا بدأت القصة برؤيا،وها
هو ذا الختام يكون بتأويل الرؤيا،حيث قال تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى
يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ
آمِنِينَ،وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ
يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا
وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ
الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ
رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ونتأمل الآن
مشاعره ورؤياه تتحقق،فإنه يدعو ربه،حيث يقول تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ
الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} فهي دعوة واحدة،توفني مسلما،وأخير يذكر أن سيدنا يوسف عاش 110 سنوات ومات في مصر،ثم نقله
إخوته تنفيذا لوصيته ودفن في مدينة نابلس في فلسطين.