قصة سيدنا داود عليه السلام
سيدنا داود عليه السلام آتاه الله العلم والحكمة وألان له الحديد وسخر له الجبال والطير يسبحّن معه،كما كان سيدنا داود عبدا خالصا لله شكورا يصوم يوما ويفطر يوما،يقوم نصف الليل وينام
ثلثه،وقد أنزل الله عليه الزبور وأتاه ملكا عظيما وأمره أن يحكم
بالعدل.
ولقد كانت
الأوضاع التي عاشها بنو إسرائيل في تلك الفترة،تتميز بإنفصال الحكم عن الدين،فآخر
نبي ملك كان يوشع بن نون،أما من بعده فكانت الملوك هي من تسوس بني إسرائيل فيما كانت
الأنبياء تهديهم،وهنا زاد طغيان بني إسرائيل،حيث كانوا يقتلون الأنبياء نبيا تلو نبي،فسلط
الله عليهم ملوكا ظلمة وجبارين،ألوهم وطغوا عليهم،وهكذا تتالت الهزائم على بني
إسرائيل،حتى أنهم أضاعوا التابوت،فإنتشروا في البلاد وساءت حالهم،حيث كان في هذا التابوت بقية مما
ترك آل موسى وهارون،وقيل أن فيه بقية من الألواح التي أنزلها الله على سيدنا موسى وعصاه
وأمورا أخرى،وقد كان بنو إسرائيل يأخذون هذا التابوت معهم في كل معاركهم لتحل عليهم
السكينة ويحققوا النصر.
وفي
هذه الظروف الصعبة،كانت هنالك إمرأة حامل تدعو الله كثيرا أن يرزقها ولدا ذكرا،فولدت
غلاما وسمته أشموئيل (صموئيل) ومعناه بالعبرانية (أي سمع الله دعائي)،فلما كبر بعثته إلى المسجد وأسلمته لرجل صالح ليتعلم منه الخير والعبادة،وهكذا بقي عنده حتى بلغ
أشده،وبينما هو ذات ليلة نائم،إذا صوت يأتيه من ناحية المسجد،فإنتبه مذعورا ظانا
أن الشيخ يدعوه،فهرع أشموئيل إليه يسأله: أدعوتني ؟ فكره الشيخ أن يفزعه،فقال: نعم،نم،فنام،ثم
ناداه الصوت مرة ثانية وثالثة،فإنتبه أشموئيل إلى جبريل عليه السلام يدعوه،إن ربك بعثك نبيا إلى
قومك.
وفي يوم من الأيام ذهب بنو إسرائيل لنبيهم أشموئيل (صموئيل) وسألوه: ألسنا مظلومين ؟ قال: بلى،قالوا: ألسنا مشردين ؟ قال: بلى،قالوا: إبعث لنا ملكا يجمعنا تحت رايته كي نقاتل في سبيل الله ونستعيد
أرضنا ومجدنا،فقال نبيهم وكان أعلم بهم: هل أنتم واثقون من القتال لو كتب عليكم
القتال ؟ قالوا: ولماذا لا نقاتل في سبيل الله،وقد طردنا من ديارنا وتشرد
أبناؤنا وساء حالنا ؟ فقال نبيهم: إن الله إختار لكم طالوت ملكا عليكم،قالوا: كيف يكون ملكا علينا وهو ليس من أبناء الأسرة التي يخرج منها
الملوك -أبناء يهوذا- كما أنه ليس غنيا وفينا من هو أغنى منه ؟ فقال نبيهم: إن الله إختاره وفضله عليكم بعلمه وقوة جسمه،فقالوا: إذن،ما هي آية ملكه ؟ فقال لهم نبيهم: يسترجع لكم التابوت،حيث تحمله الملائكة.
وهكذا وقعت
هذه المعجزة وعاد إليهم التابوت بما فيه من التوراة،وتجهز جيش طالوت وسار الجيش طويلا حتى أحس
الجنود بالعطش،فقال الملك طالوت لجنوده: سنصادف نهرا في الطريق،فمن شرب منه فليخرج
من الجيش،ومن لم يذقه وإنما بل ريقه فقط فليبق معي في الجيش،وعند الوصول إلى النهر،شرب
معظم الجنود وخرجوا من الجيش،وكان طالوت قد أعدّ هذا الإمتحان ليعرف من يطيعه من
الجنود ومن يعصاه،وليعرف أيهم قوي الإرادة ويتحمل العطش وأيهم ضعيف الإرادة
ويستسلم بسرعة،فلم يبقى مع طالوت إلا ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا،وكانوا جميعهم من الشجعان.
وفيما كان
عدد أفراد جيش طالوت قليلا،كان جيش العدو جالوت كبيرا وقويا،فشعر بعض -هؤولاء
الصفوة- من جيش طالوت أنهم أضعف من جالوت وجيشه وقالوا: كيف نهزم هذا الجيش الجبار ؟ فيما قال
المؤمنون من جيش طالوت: النصر ليس بالعدة والعتاد،إنما النصر من عند الله،حيث قال
تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ} فثبّتوهم.
وهنا برز
جالوت في دروعه الحديدية وسلاحه،وهو يطلب أحدا يبارزه،فخاف منه جنود طالوت جميعا،إلى أن برز من جيش طالوت راعي غنم صغير يسمى داوود،وقد كان داوود مؤمنا بالله ويعلم أن هذا الإيمان بالله هو القوة الحقيقية في هذا الكون،وأن العبرة ليست بكثرة السلاح ولا
ضخامة الجسم والمظهر الباطل الخادع،وهنا كان الملك (طالوت) قد قال: من يقتل جالوت يصير قائدا على الجيش
ويتزوج إبنتي،ولم يكن داوود هنا يهتم كثيرا لهذا الإغراء،فقد كان يريد أن يقتل جالوت
لأن جالوت رجل جبار وظالم ولا يؤمن بالله.
فسمح
الملك طالوت لداوود أن يبارز جالوت،فتقدم داوود بعصاه وخمسة أحجار ومقلاعه (وهو نبلة
يستخدمها الرعاة) إلى جالوت المدجج بالسلاح والدروع،وقد سخر جالوت من داوود وأهانه
وضحك منه،فوضع داوود حجرا قويا في مقلاعه وطوح به في الهواء وأطلق الحجر،فأصاب
جالوت فقتله،وبدأت المعركة وإنتصر جيش طالوت على جيش جالوت.
وهكذا وبعد
فترة من الزمن إنتقال الملك إلى داوود -عليه السلام- حيث أصبح ملكا على بني إسرائيل،فجمع الله على يديه النبوة والملك
مرة أخرى،وتأتي بعض الروايات لتخبرنا بأن طالوت بعد أن إشتهر نجم داوود أكلت
الغيرة قلبه وحاول قتله،وتستمر هذه الإسرائيليات في نسج مثل هذه الأمور،لكننا لا نود الخوض
فيها كما وليس لدينا دليل قوي عليها.
ولقد
أكرم الله نبيه الكريم داوود بعدة معجزات،فلقد أنزل عليه الزبور،حيث قال تعالى: {وَآتَيْنَا
دَاوُودَ زَبُورًا} كما آتاه جمال الصوت،فكان عندما يسبّح،تسبح الجبال والطيور معه
والناس ينظرون،كما وألان الله في يديه الحديد،حتى قيل أنه كان يتعامل مع الحديد
كما كان الناس يتعاملون مع الطين والشمع،وقد تكون هذه الإلنة هنا بمعنى أنه أول من
عرف أن الحديد ينصهر بالحرارة،فكان يصنع منه نوعية جديدة من الدروع،وهي دروع تتكون من حلقات حديدية تسمح للمحارب بحرية الحركة،وتحمي جسده من السيوف والخناجر وهي أفضل من الدروع الموجودة أيامها،حيث كانت الدروع الحديدية التي تصنع في ذلك الوقت ثقيلة ولا تجعل المحارب حرا في أن يتحرك كما يشاء أو يقاتل
كما يريد.
هذا وقد شدّ الله تعالى على ملك داوود وجعله منصورا على أعدائه دائما،كما جعل ملكه قويا عظيما يخيف
الأعداء حتى بغير حرب،وبالإضافة على ذلك فقد زاد الله من نعمه على داوود فأعطاه الحكمة وفصل الخطاب والقدرة على تمييز الحق من الباطل ومعرفة الحق ومساندته،فأصبح بذلك نبيا ملكا قاضيا.
ويروي
لنا القرآن الكريم بعضا من القضايا التي وردت على داوود عليه السلام،فلقد جلس داوود
كعادته يوما يحكم بين الناس في مشكلاتهم،فجاءه رجل صاحب حقل ومعه رجل آخر،فقال له
صاحب الحقل: سيدي النبي،إن غنم هذا الرجل نزلت على حقلي أثناء الليل،وأكلت كل عناقيد
العنب التي كانت فيه،وقد جئت إليك لتحكم لي بالتعويض،فقال داود لصاحب الغنم: هل
صحيح أن غنمك أكلت حقل هذا الرجل ؟ فقال صاحب الغنم:
نعم يا سيدي،فقال داوود: لقد حكمت بأن تعطيه غنمك بدلا من الحقل الذي أكلته،فقال
سليمان (إبن داوود) وكان الله قد علمه حكمة تضاف إلى ما ورث من والده: عندي حكم آخر يا أبي،قال
داوود: قله يا سليمان،فقال سليمان: أحكم بأن يأخذ صاحب الغنم حقل هذا الرجل الذي
أكلته الغنم ويصلحه له ويزرعه حتى تنمو أشجار العنب،وأحكم لصاحب الحقل أن يأخذ
الغنم ليستفيد من صوفها ولبنها ويأكل منه،فإذا كبرت عناقيد العنب وعاد الحقل سليما
كما كان،أخذ صاحب الحقل حقله وأعطى صاحب الغنم غنمه،فقال داوود: هذا حكم عظيم يا
سليمان،الحمد لله الذي وهبك الحكمة.
وقد وردت قصة أخرى عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَمَا إمْرَأَتَانِ مَعَهُمَا إبْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِإبْنِ إِحْدَاهُمَا،فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْتِ،وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّما ذَهَبَ بِابْنِكِ،فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاووُدَ،فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى،فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاووُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ فَأَخْبَرَتَاهُ،فَقَالَ ائْتُونِى بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا،فَقَالَتِ الصُّغْرَى لاَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا،َفقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى،وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ مَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةَ.
وقد وردت قصة أخرى عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَمَا إمْرَأَتَانِ مَعَهُمَا إبْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِإبْنِ إِحْدَاهُمَا،فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْتِ،وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّما ذَهَبَ بِابْنِكِ،فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاووُدَ،فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى،فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاووُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ فَأَخْبَرَتَاهُ،فَقَالَ ائْتُونِى بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا،فَقَالَتِ الصُّغْرَى لاَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا،َفقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى،وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ مَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةَ.
وقد كان سيدنا
داوود رغم قربه من الله وحب الله له،يتعلم دائما من الله،وقد علمه الله يوما ألا
يحكم أبدا إلا إذا إستمع لأقوال الطرفين المتخاصمين،حيث يذكر لنا المولى في كتابه
الكريم قضية أخرى عرضت على داوود عليه السلام،فقد كان سيدنا داوود يجلس دائما في محرابه يصلي لله ويتعبد،وكان إذا دخل حجرته أمر حراسه ألا يسمحوا لأحد بالدخول عليه
أو إزعاجه وهو يصلي.،ثم فوجئ يوما في محرابه بأنه أمام إثنين من الرجال،فخاف منهما
داوود لأنهما دخلا رغم أنه أمر ألا يدخل عليه أحد،فسألهما داوود: من أنتما ؟ فقال
أحد الرجلين: لا تخف يا سيدي،بيني وبين هذا الرجل خصومة وقد جئناك لتحكم بيننا
بالحق،فسأل داوود: ما هي القضية ؟ فقال الرجل الأول،حيث قال تعالى: {إِنَّ هَذَا
أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} وقال
أعطها لي وأخذها مني،فقال داوود بغير أن يسمع رأي الطرف الآخر وحجته،حيث قال تعالى:
{لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} وإن كثيرا من الشركاء
يظلم بعضهم بعضا إلا الذين آمنوا،وفوجئ بعدها داوود بإختفاء الرجلين من أمامه،حيث إختفيا كما لو كانا سحابة تبخرت في السماء،وهنا أدرك داوود أن الرجلين كانا ملكين أرسلهما
الله إليه ليعلماه درسا،وهو أن لا يحكم بين المتخاصمين من الناس إلا إذا سمع أقوالهم
جميعا،فربما كان صاحب التسع والتسعين نعجة معه الحق،فخر داوود عندها راكعا وسجد لله وإستغفر
ربه.
وقد نسجت
أساطير اليهود قصصا مريبة حول فتنة داوود عليه السلام،فقد قيل أنه إشتهى إمرأة أحد
قواد جيشه،فأرسله في معركة يعرف من البداية نهايتها،وإستولى بعدها على إمرأته،وهذا أبعد ما
يكون عن تصرفات سيدنا داوود في هذه القصة
المختلقة،فإن إنسانا يتصل قلبه بالله ويتصل تسبيحه بتسبيح الكائنات والجمادات،يستحيل
عليه أن يرى أو يلاحظ جمالا بشريا محصورا في وجه إمرأة أو جسدها.
وقد إستمر سيدنا داوود يعبد الله ويسبحه حتى مات،وقد كان داوود يصوم يوما ويفطر يوما،حيث
قال رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عن داوود: (أفضل الصيام صيام
داوود،كان يصوم يوما ويفطر يوما،وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا،وكانت له ركعة من الليل
يبكي فيها نفسه ويبكي ببكائه كل شيء ويشفي بصوته المهموم والمحموم)،كما وقد جاء في
الحديث الصحيح أن داوود عليه السلام كان شديد الغيرة على نساءه،فكانت نسائه في قصر
وحول القصر أسوار،حتى لا يقترب أحد منهن،وفي أحد الأيام رأى النسوة رجلا في
صحن القصر،فقالوا: من هذا،والله لئن رآه داوود ليبطشنّ به،فبلغ الخبر داوود -عليه
السلام- فقال للرجل: من أنت ؟ وكيف دخلت ؟ قال: أنا من لا يقف أمامه حاجز،قال: أنت
ملك الموت،فأذن له فأخذ ملك الموت روحه.
وهكذا مات سيدنا
داوود عليه السلام وعمره مئة سنة،وقد شيع جنازته عشرات الآلاف،لأنه كان محبوبا جدا بين
الناس،حتى قيل لم يمت في بني إسرائيل بعد موسى وهارون أحد كان بنو إسرائيل أشد
جزعا عليه منهم على داوود،ويقال أيضا أن الشمس آذت الناس في الجنازة،فدعا إبنه سليمان الطير
قائلا: أظلي على داوود،فأظلته حتى أظلمت عليه الأرض وسكنت الريح،فقال سليمان للطير:
أظلي الناس من ناحية الشمس وتنحي من ناحية الريح،فأطاعت الطير الأمر،وكان ذلك أول
ما رآه الناس من ملك سليمان.