الفكر الإستراتيجي المعاصر
ما بين عامي 1789 و 1815 عرفت أوروبا حروبا مستمرة تخللتها بعض الإستراحات هنا وهناك،وفي هذه الفترة أصاب فن الحرب تحولات عميقة،حيث بدأ هذا التحول مع لازار كارنوت والذي أخذ بوضع إستراتيجية جديدة لم يوضحها إلا بملاحظات وكتابات مختصرة جدا،أما مؤلفه الأكبر وهو (الدفاع عن المراكز القومية) الذي كتبه في عام 1809 وقد ترجم لعدة لغات أوروبية،فقد عالج فيه الموضوع بأكثر تحديدا .
ولكن في هذه الفترة عرف الإنتاج الفرنسي قوة أكبر وذلك مع كتاب (مدخل إلى دراسة فن الحرب) الذي وضعه روش أيمون بين عامي 1802-1804 وتحدث فيه عن التكتيك فقط،ثم جاء كتاب (المعالجة الأساسية للفن العسكري) الذي كتبه سيمون فرانسيسكو غاي في عام 1805 والذي ترجم لمختلف اللغات العالمية،بعد ذلك جاء كتاب ريفوروني دو سانت كير في سنة 1808 وقد كان كتابا غنيا جاء تحت عنوان (دراسات حول آلية الحرب)،ونشر فيما بعد بعنوان جديد هو (سكونية الحرب أو مبادئ الإستراتيجية والتكتيك) وذلك في عام 1826.
أما المقاربة الهندسية للفكر الإستراتيجي فقد وصلت ذروتها مع كتاب بروسان ديتريش الذي نشر في مدينة هامبورغ الألمانية تحت عنوان (روح نظام الحرب الحديثة) وذلك في عام 1799،حيث تحدث فيه عن طرح مسلمات أو بديهيات معينة يمكن الحصول عليها بالمنطق والإستدلال ثم توضيحها فيما بعد بواسطة التجربة،ثم في كتابه الثاني الذي جاء بعنوان (نظريات الحرب الحديثة أو الإستراتيجية الخالصة والمطبقة) الذي صدر في عام 1805 وتحدث فيه عن الأسبقية الفكرية عند نابليون بونابرت.
أخيرا وفي ألمانيا فقد كتب الأرشيدوق شارليز العديد من المؤلفات منها (مبادئ الحرب الكبيرة) وذلك في عام 1808 و(مبادئ الإستراتيجية المطورة من خلال حملة 1796 في ألمانيا) وذلك في عام 1813.
أهم المدارس العالمية التي تناولت الفكر الإستراتيجي المعاصر
-المدرسة الألمانية
كانت المدرسة الألمانية بقيادة جوميني والذي أشار لها في كتاباته،حيث نقل على العديد من الجنرالات منهم ورتيمبرقيوس ثيوبالد وبافاريوس إكيالاندر وفلانتيني ومولر بالإضافة إلى الماجور جنرال هوهيرن كريقشكونسة،وفي نفس الوقت يرى الكثير من مؤرخي الإستراتيجية أن جوميني نسي أكبر إستراتيجيّين سبقا كلوزويتز وهما الجنرالان فون لوساو وروهل فون ليلنستيرن،إلاّ أنه لابد من القول أن كلوزويتز هو الذي أنقذ المدرسة الألمانية من جمودها.
-المدرسة الإيطالية
عرفت إيطاليا إنتاجا إستراتيجيا غزيرا في القرن التاسع عشر،حيث تركز هذا الإنتاج بشكل كبير عند جوزيف بوجين خوليت وخاصة في عمله (عناصر للإستراتيجية والتكتيك) الذي كتبه في عام 1832،وعند بول راشياه في مؤلفه (تحليل دقيق لفن الحرب) الذي كتبه في عام 1832،ثم جاء إنريكو قوستينياني بكتابه (دراسة حول تكتيك الأسلحة الثلاثة بشكل منعزل ومجتمع) الذي كتبه في عام 1848،أما الكاتب الإستراتيجي الأكثر شهرة في إيطاليا في النصف الأول من القرن التاسع عشر فقد كان لوجي بلانش،ويعتقد أنه كان فيلسوفا للحرب أكثر مما هو إستراتيجي،وأخيرا وإلى جانب ما سبق فقد ظهر تصنيف آخر للإستراتيجيين الإيطاليين الأول سمي (المقرّب من الأوساط الرسمية) والثاني سمي (نقد الحرب) وهم مجموعة من المفكرين المستقلين كان صوت النقد (نقد الحرب) لديهم مرتفعا بشكل كبير.
-المدرسة الروسية
تابعت المدرسة الروسية تقلباتها بين طريق وطني حصرا وطريق فيه بصمات أجنبية،حيث كتب الجنرال نيكولاس ميدم كتابه (دراسة حول القواعد والأنظمة المعروفة للإستراتيجية) الذي صدر في عام 1836،وحلل فيه كتابات كل من للويد وكلوزويتز وجوميني وبلوو،ثم كتب كتابه (التكتيك) الصادر في عام 1837 الذي إنتشر في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وأعلن فيه العودة إلى سوفوروف،أما العقيد إم أي بوقدنوفدش فقد كرّس كتابه (دراسة الإستراتيجية) الصادر في عام 1847 من أجل دراسة
نابليون،ثم جاء الجنرال أستفيف ليحلل فن الحرب الحديثة في كتاب تم وصفه بأنه من التيار الإصلاحي الذي ظهر بعد الهزيمة،وقد صدر هذا الكتاب تحت إشراف ديميتري ميلوتين وهو مؤرخ عسكري معروف في روسيا كما كان وزيرا للحرب من عام 1861 إلى 1881،وبعد ذلك جاء الجنرال أوكونيف وكتابه (مذكرات حول مبادئ الإستراتيجية) الصادر في عام 1831 وتعليقاته الإستراتيجية حول حملة 1812،ويذكر أن هذه التعليقات ترجمت إلى الفرنسية في عام 1841 وإلى الألمانية في عام 1876 .
-المدرسة الفرنسية
يلاحظ أن الإنتاج الإستراتيجي الفرنسي كان تحت هيمنة كتاب ألفه المارشال مارمونت تحت عنوان (روح المؤسسات العسكرية) الصادر في عام 1845 والذي أعيد نشره في عام 1865 ولكنه اليوم ذهب ضحية للنسيان،حيث أن عمله تركز في الواقع حول النظرية العامة للفن العسكري وتنظيم الجيوش والعمليات المختلفة للحرب وأخيرا فلسفة الحرب،بينما عرفت السنوات ما بين 1815 و1870 إستقرارا سياسيا في فرنسا،وهكذا فالنقاش حول الجيش لم يكن على مستوى عميق أو واسع،ولكن مع بدايات القرن العشرين عرفت فرنسا إنتاجا آخر للعلوم الإستراتيجية.