عجيب أمر هذا الإنسان، رقيق حنون عطوف رؤوف جدا في أمريكا، حيث
يتوقف المرور لأن قطة خطر لها أن تتمخطر ببطء عبر الطريق، كما ويتجمع الناس حول كلب
مكسور الساق وقع من الدور السابع، وتتسابق البلاغات إلى بوليس النجدة وإلى جمعية الرفق
بالحيوان وإلى جمعية الكلاب الضالة، ويأتي طابور من العربات ويتحرك الموكب حاملا الكلب
الجريح إلى مستشفى الكلاب ويظهر النبأ في الصفحة الأولى من جرائد الإقليم ويتقاطر الزوار
على الكلب الراقد في جبيرة من الجبس، وترفع جمعية الرفق بالحيوان قضية على صاحب الكلب، ويترافع
محامون ووكلاء نيابة ويقرر القاضي غرامة كذا ألف دولار على الجاني المجرم الذي أهمل
رعاية كلبه.
هذا الإنسان الرقيق الحنون العطوف الذي تحرك وجدانه وتحركت صحافته لكلب جريح، هو نفسه وهو عينه الذي يلقي قنبلة ذرية على هيروشيما وناغازاكي يقتل فيها ويجرح ويشوه سبعة ملايين ضحية آدمية بشرية، ما يزال بعضها يجرجر حياة بائسة مفعمة بآلام سرطان العظام والمثانة والكلى والجلد، بينما هو الإنسان القاتل المحترف ما يزال مستمراً في حرفته الرهيبة، وقد تطورت صناعة الموت على يديه من قنابل ذرية إلى قنابل هيدروجينية إلى قنابل نيوترونية إلى قنابل ذرية نظيفة، وتأملوا معي كلمة (نظيفة) أي تقتل قتلا نظيفا دون أن تترك مخلفات إشعاعية، كما وأن مصنع الموت أو البنتاجون ينفق على صناعة الموت أضعاف أضعاف ما ينفق في مشاريع التنمية وأضعاف أضعاف ما ينفق على الحياة والعلاج والبناء والتعمير.
لا تسرعوا وتتهموا هذا الإنسان في عقله، فهذا الإنسان لا يمكن إتهامه بنقصان العقل، فهو قد عبر الفضاء ومشى على القمر، وأرسل سفناً إلى المريخ والزهرة والمشتري وأرسل أقمارا صناعية إلى الشمس، وهو قد إبتكر أجهزة يتسمع بها إلى همس الأمواج على أطراف المجرة، وهو صاحب تاريخ حافل بالفكر والفلسفة من سقراط إلى برتراند رسل، فهو إذن ليس ناقص العقل.
إذن كيف نفهمه وهو ينتقل من النقيض إلى النقيض في لحظة، وهو يتحول من الحنان إلى الوحشية ومن العقل إلى الجنون ومن الشهامة إلى الغدر ومن العبقرية إلى الحمق...؟
من هو ذلك الإنسان اللغز ؟
الزوجة التي تخون زوجها القوي المكتمل مع رجل ضعيف عاجز جنسيا.
الرجل الذي يمزق زوجته بسكين ويقول باكيا: قتلتها لأني أحبها.
الأوروبي المتمدن الذي تأتيه المدنية بالعلم ووسائل الترف والراحة والنظافة والعناية الطبية والحياة الحافلة بالمشوقات والمشهيات والسياحات الممتعة بطول الأرض وعرضها، فيقابل هذه النعمة بالعكوف على المخدرات والإرهاب والعنف والإنتحار.
مريض القرحة الذي يشرب السجائر وفي التدخين هلاكه.
الطبيب المتعلم والخبير الذي يشكو الكبد ويشرب الخمر وفيها دماره، فهو ليس نقص علم ولا نقص عقل، فهو طبيب يعرف ما هي الخمر وماذا تفعل في البدن، كما تراه في عيادته ينصح مرضاه بعدم تعاطي الخمور ثم تراه يشربها في بيته.
إن الكثرة على هذه الحال والغالبية بهذه الصورة من التناقض والتقلب وعدم الإتزان وإضطراب المزاج وإضطراب الأفعال والتباين بين الأقوال والأعمال، الخلاف بين الظواهر والبواطن والمفارقة بين السر والعلن والتلون والتغيّر والتبدّل، إلا أن الأقلية القليلة وربما أقل من القليل هم أهل الكمال، الأطهار في السر والعلن، الأبرار يدا وقلباً وضميرا، أهل الثبات الذين لا يتغيرون وإن تغيرت حولهم الدنيا، ولا يتبدلون ولو أغرتهم الغوايات وجاذبتهم المغريات، فلواحد منهم حضارة لو عثرت عليه في الأدغال وبين البدائيين فهو حضارة وهو قد سبق الذين مشوا على القمر، فهو صاحب المشوار الأطول والأشق فهو قاهر نفسه وهو مؤشر التقدم الحقيقي بين الكثرة الكثيرة التي تفعل ما لا تقول وتقول ما لا تفعل، وهو الواحد الفرد المميز الذي له سحنة نفسية بين أغلبية غالبة هي على ما قلنا من الاضطراب ليس لها سحنة ولا وجه وإنما هي تتقلب مع الأحوال والأوقات والمصالح و تتبدل مع اللحظات وتنتقل من النقيض إلى النقيض ومن الموقف إلى ضده، فهؤولاء هم أهل الهوى وأغلب الناس أهل الهوى ولا يقر لأهل الهوى قرار لأن الهوى لا يقر له قرار وهم مؤشر تخلف وإن لبسوا الحرير وتقنعوا بالشهادات وتفاخروا بالتكنولوجيا والإختراعات.
فالسؤال بالنسبة للإنسان ليس ماذا جمع من مال ولا ماذا حصل من علم ولا ماذا شيد ولا ماذا إخترع، ولكن ماذا صنع بنفسه أولا، ذلك هو الإنجاز الأول وهو الأساس الذي سوف يبني عليه كل ما يأتي بعده وهو الأساس الذي يكون به تقييم كل شيء وهو ما نسميه بالأخلاق، يقول الله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام في القرآن (وإنك لعلى خلق عظيم) ولم يقل له (وإنك لعلى علم عظيم)، فقد رأينا العلم في أمريكا وأوروبا وروسيا وماذا يصنع بدون خلق، ورأينا أن الصعود الصعب هو أن تصعد على نفسك وتملك ناصيتها وليس أن تصعد إلى القمر وتمشي عليه.
ولهذا تحدث القرآن عن المؤشر الحقيقي والأزلي للعظمة الإنسانية وهو العظمة الخلقية، أما الأمجاد الأخرى فهي أمجاد قابلة للتقليد، ألم تقلد اليابان التكنولوجية الأمريكية في سنوات قليلة وتتفوق عليها و تزاحمها في جميع الأسواق، فمن إستطاع أن يقلد النبي في كمالاته الخُلقية ومن إستطاع أن يفوقه...؟؟؟ لكن هو المعراج المستحيل على عامة الناس وجماهيرهم، لا يصعده إلا نبي ولا يقوى على السير فيه إلا أفراد هم الصدّيقون والشهداء والأبرار والأولياء، وهم معدودون في كل أمة وفي كل عصر، فبهم تقوم أركان الدنيا ويحفظ الله ببركتهم الأرض وبإنقطاعهم يهدم الله عمارة الكون ويقيم القيامة، حينما لا تبقى إلا حثالة لا تستحق أن تطلع عليها شمس.
مصطفى محمود